Showing posts with label من قبوي. Show all posts
Showing posts with label من قبوي. Show all posts

Monday, January 13, 2014

برغم أنه لن تكون هناك بطاطس للجميع


من قبوي

برغم أنه لن تكون هناك بطاطس للجميع

سنوات مضت منذ أن قرأت كتاب سيرة "عدلي رزق الله" الذاتية، الصادر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب. سنوات كثيرة، أنستني حتى عنوان الكتاب، ولم تنسني حكاية حكاها عدلي رزق الله عن أيامه العصيبة الأولى في باريس. فقد حكى أنه كان يرسم لوحات صغيرة، تخطيطات على ورق مقوى بحجم البطاقات البريدية ويبيعها للمارة.
بقيت الحكاية في ذهني لسببين: أولهما أنني دائما ما أرثي للفنان التشكيلي، ويبقى عندي دائما تصورٌ بأنه أتعس الفنانين عامة؛ فهو الذي كلما راج فنه، بعدت المسافة بينه وبين هذا الفن، واستحال عليه ـ وهو الخالق ـ أن يرى مخلوقاته وقتما يشاء، فقد "بيعت"، أو بالتعبير الملطّف "اقتنيت"، وهي الآن في بهو بنك يغلق أبوابه يومين كاملين كلَّ أسبوع ويغلقها كل يوم بعد الثالثة، وهي الآن في متحف (والمتحف مقبرة) فضلا عن أنه قد تقوم من حوله ثورة فينهب، وهي في بيت ثري ربما يكون عنده أطفال قد يحلو لأطيبهم قلبا وأكثرهم براءة أن يختبر أقصى مدى يمكن أن يبلغه بـ بوله.
السبب الثاني أنني أرى أنه "ليس آمنا على الأرض غير طائر، وإن وقف على نبتة في عرض نهر"، وهذه العبارة موضوعة بين قوسين لأنها جزء من قصيدة أحاول أن أكتبها منذ عشر سنين أو أكثر. لماذا؟ لماذا يكون الطائر هو أكثر مخلوقات الأرض أمنا؟ لأن بوسعه دائما أن يترك الجمل بما حمل، بوسعه أن يترك الأرض كلها للبركان أو الزلزال أو العاصفة أو الإخوان المسلمين أو الإخوان العسكريين أو الإخوان القضاة إلخه، ويذهب هو إلى حال سبيله.
يأتي في مرتبة تالية للطائر كلُّ من يمتلك في جسمه نفسه جميع أدوات إنتاجه، ولا أتحدث بالضبط عن العاهرة وإن تكن المثال الأقرب لطائر على الأرض، لكنني أقصد كل من يضرب الأرض فتطلع البطيخ: ولا أقصد الفلاح بالضبط، لكن الفلاح مثال جيد..
يمكن أن تنهار شبكة الإنترنت، أو يختنق الاقتصاد العالمي اختناقا لا تحييه قبلات النقد الحكومية، يمكن أن تنقلب الدنيا فإذا عاليها سافلها (وهذا نادرا ما يحدث) أو سافلها عاليها (كأن يحكم الإخوان المسلمون)، ويبقى بوسعه هو أن يأخذ ثمرة من بطاطس العام الماضي، فيجعلها ثمارا كثيرة. ولا أنسى فيلما عن رجل وزوجته وابنيهما، في بيت في عرض النهر..
ليس بالضبط بيتا في عرض النهر، لكنه بيت في العراء، وجاء الفيضان فأصبح البيت كما لو أنه مركب راسٍ، وصار الزوج يخرج كل يوم من البيت في قارب ويرجع إليه في قارب، لا نعرف إلى أين ذهب ولا فيم كان ذهابه، ولكنه يعود فيجد زوجته وقد أعدت له البطاطس على العشاء، فيتوجس أن يكون مخزونهم من البطاطس قد نفد، وأن يد زوجته لا بد أن تكون امتدت إلى الثمار المدخرة للزراعة في العام القادم. ويسألها فتجزم له أن المخزون لم ينفد بعد، وأن الثمار المدخرة للزراعة لم تمسسها يد. ويكتشف يوما أن المخزون تناقص، وأنه عندما لن يجد  بعد انحسار الفيضان ما يغرسه في أرضه، وأن القادم أسوأ، فينهال بالضرب على زوجته، وهو يعرف أنها لم تفعل ذلك إلا لإشباعه وإشباع أطفاله بعدما قطع الفيضان ما بينهم وبين العالم، يضربها لأنه لا يستطيع أن يضرب المدان الحقيقي في مأساته ومأساتها، ولا أعني الفيضان.
ميلودراما، أعرف، وعادة ما توصف بالرخيصة. لكن القصد، بعيدا عن الاستطراد الميلودرامي كله، واضح: هناك من بوسعهم ـ إن هم قلّصوا احتياجاتهم إلى الحقيقي منها بالفعل ـ أن يغتنوا عن العالم.
ليس آمنا إذن في باريس (وكل الدنيا باريس) إلا شخص يستطيع أن يأكل من رسمة يرسمها على ورقة، ويبيعها بفرنكات قليلة. صحيح أن فنّه هذا سوف يذهب عنه إلى الأبد، صحيح أن مقتنيه قد لا يحتفظ به إلى ما بعد نزوله من المترو، ولكن شخصا كان جائعا وشبع، ومهما يكن ثمن هذه المعجزة، فهو لو تعلمون زهيد.
لم يحدثنا عدلي رزق الله عن الذين اشتروا بطاقاته، أو لعله كتب عنهم ما لم تبال ذاكرتي بانتقائه ضمن مقتنياتها اليومية. لكن ماذا عساه يعرف عن شخص مرّ به في الشارع فاشترى منه بطاقة؟ الكثير. الكثير في الحقيقة، وربما الجوهري أيضا.
كل هؤلاء الذين تقع عليهم أعيننا، عرفناهم أم لم نعرفهم، خائفون، إذا لم يكن من شرطي فاسد، فمن قاض فاسد، وإن لم يكن من كليهما فمن طبيب جاهل أو مرهَق أو متلهف على الانتقال من تقمص دور الطبيب إلى تقمص دور المضاجع. وإن كانوا غير خائفين من كل ذلك، فمن القادم، وإذا كانوا غير خائفين من القادم فجدير بهم أن يخافوا، لأن القادم أسوأ.
ما أريد أن أقوله هو أن كل واحد من أولئك الذين ساهموا في إطعام عدلي رزق الله، وكل واحد ممن يقفون أمام بائعي الكتب في الشوارع يفاضلون بين  العناوين، وكل من يقطع تذكرة ليدخل السينما أو المسرح، هو واحد يعرف أن القادم أسوأ، وأن الحكمة قد تستوجب أن يشتري ثمرة بطاطس يدخرها لعالم لن تكون فيه بطاطس للجميع.
قبل فترة تابعت في أسبوعية "نيو ستيتسمان" الإنجليزية سلسلة مقالات نشرت بالتعاون مع بي بي سي موضوعها "ما الذي يجعل منا بشرا"؟ وكثرت الإجابات، كل أسبوع تقريبا إجابة جديدة، وكل واحدة مدهشة من زاويتها، وكل واحدة تكشف أننا لا يمكن أن نصل إلى إجابة شافية لسؤال كهذا ما دام كل مجيب يبقى مقيدا بالموقع الذي يتكلم منه، ومنه يرى العالم، وبحدوده يبقى "محدودا". ما علينا، يبدو لي، أنا، ومن موقعي هذا الذي أكتب منه، ومنه أرى العالم، وبحدوده أحتد، أن ما يجعلنا بشرا هو الفن، لا أننا ننتجه، بل أننا نستهلكه.

نشر المقال أمس على موقع قل

Sunday, July 12, 2009

على القهوة

 المقهى مكان، مناضد ومقاعد، وأكواب وأوان، ورواد وندل، وفواتير وشاشات؛ فكيف تجلس على مقهى؟ ليس بوسعك إلا أن تجلس فيه. ومع ذلك نقول ـ على الأقل في العامية المصرية ـ إن فلانا يجلس على المقهى، بل إن فلانا يجلس على القهوة. فالقهوة في العامية المصرية مشروب ومكان. ولكن العربية الفصحى ترفض الاعتراف بهذا، لأن القهوة قهوة والمقهى مقهى ولا مبرر مطلقا للخلط بينهما. ولكن العربية الفصحى استطاعت أن تضيف إلى كلمات قديمة ـ مثل "الثقافة" و"القاطرة" ـ معاني جديدة، بل لقد التصقت المعاني الجديدة بهذه المفردات إلى حد أنها صارت معانيها الأولى، وصارت المعاني القديمة أو حتى "الأصلية" معاني بائدة لا يعرفها الكثيرون
  مؤخرا، كتب الشاعر والمترجم المصري رفعت سلام مقالا عن ترجمة طاهر البربري لإحدى روايات كازو إيشيجيرو أشار فيه إلى عدد من الأخطاء التي وقع فيها البربري، وكثير منها فادح فيما يبدو (لم أطلع على ترجمة البربري). من الأخطاء المشار إليها ما يتعلق بقواعد اللغة (وهذه لا يمكن تبريرها ولا يكفي الاعتراف بها والاعتذار عنها، بل لا بديل عن تصحيحها في طبعات جديدة من الرواية)، ومنها ما له علاقة بما أسميه "التطور الطبيعي" للغة وهو شيء مختلف عن "التطور الطبيعي" للحاجة الساقعة أو "التطور الطبيعي" للمستوطنات
يتساءل رفعت سلام في مقاله: "هل يجلس أحد علي طاولة"؟ ولا يجيب. فهو يفترض أن للسؤال إجابة بديهية يعرفها الجميع. ولكن من الجميع الذين يستشهد بهم رفعت سلام؟ إنهم المصابون بشيزوفرينيا لغوية كلما استفحلت أصبح المصاب بها أعلم باللغة. فنحن في حياتنا اليومية نجلس "على المقهى" ونجلس "على المنضدة" ونجلس "على ما" نستريح، ولكننا في آخر اليوم حينما نجلس لندون يومياتنا بلغة عربية فصحى إذا بنا كنا جالسين في المقهى، وجالسين إلى المنضدة، وجالسين إلى أن نستريح. وكأنما نتعمد أن يبقى استخدام "على" مقصورا في حدود استخدامات الأقدمين له، أي في ما عليه "شواهد" من شعر الموتى الممعنين في الموت
 لماذا لا نحاول من خلال الاعتراف باستخدامات جديدة لمفردات قديمة أن نفهم أشياء عن أنفسنا وعن وعينا بالعالم وعلاقتنا باللغة؟ لماذا لا ننظر مثلا إلى استخدامنا العامي لكمة "حاجة" كمرادف لـ "شيء"؟ ألا يعني استخدامنا هذا أننا نرى كل "شيء" بوصفه "حاجة"؟ ألا يعني هذا أننا نحترم كل شيء، وأننا نقر ـ ربما دونما أن نعي ـ بحاجتنا إلى كل شيء؟ لماذا لا يوضع في المعجم بجوار مفردة "حاجة" معنى جديدا اكتسبته لأن الأحياء أرادوا لها أن تكتسبه؟ 
السؤال الذي يطرحه رفعت سلام يفترض إجابة معينة هي "لا، بل نجلس بجوار الطاولة أو نجلس إلى الطاولة". وأنا بدوري أسأل: هل يمكن أن يوضع شيء فوق "استحياء" أو فوق "سفر"؟ مع ذلك نقول على سفر، وعلى استحياء وعلى حين غرة. هذا لأننا لا نقول هذه العبارات بقدر ما نكرر قولها، نقلد أسلافا لنا تعاملوا مع اللغة بوصفهم منتجيها لا مقترضين لها ينبغي أن يحافظوا عليها إلى أن يعيدوها لأصحابها على حالتها، وبالمناسبة، هل يمكن أن يوضع شيء على "حالتها"؟ 0000
كنت مرة أترجم مسرحية مع صديق لي، وقال إنه من الخطأ أن أقول "نفس الشيء" والصواب هو "الشيء نفسه" لأن الشيء ليس له نفس! قلت له يومها إن اللغة تتطور، وإن العربية يمكن أن تستوعب استخدامات جديدة لمفرداتها ما دامت هذه المفردات أصيلة فيها وما دامت الاستخدامات الجديدة لحقت بها نتيجة لشيء بسيط هو حياة الناطقين بها. وبرغم أنه اقتنع، بقيت أستخدم "الشيء نفسه" أكثر بكثير من استخدامي "نفس الشيء". ذلك لأنني أحاول أن أتعلم كل يوم ما يمكنني من امتلاك لغة عربية "سليمة"، بعيدة كل البعد عن اللغة التي أستخدمها في حياتي، في محاولة دائمة لتأكيد الشيزوفرينيا التي تصلح مقياسا لما عليه كل منا من "ثقافة". و 

نشر في ملحق قراءات بتاريخ 12 يوليو 2009

Sunday, May 24, 2009

واللغة الوسطى

كنت مثل كثيرين ينظرون بتوجس إلى الترجمات التي تتم عن غير لغة "الأصل"، أو ما يعرف بالترجمة عن لغة وسيطة. وكنت مع ذلك "أضطر" إلى ممارستها لأسباب شتى، ليس أقلها أهمية أن يفرض نص ما نفسه عليّ لأهميته أو لجماله أو لمجرد الرغبة الإنسانية البسيطة في إشراك آخرين في المتعة. كنت أتوجس من هذا النوع من الترجمة، لمعرفتي أن كل نص يفقد شيئا أو أشياء عند ترجمته إلى لغة أخرى. ولأن البعض يعلي من شأن هذا الفاقد إلى حد أن يعرف روبرت فروست الشعر بأنه "ما يضيع في الترجمة". 
وكنت أتوجس من هذه الترجمة برغم أن بعضا من أهم النصوص المؤسسة لوعيي ـ وآخرين بالقطع ـ لم تكن إلا ترجمات عن لغات وسطى، ولعل أهم الأمثلة التي تحضرني هنا هي ترجمة سامي الدروبي لأعمال دوستيفسكي الكاملة عن الفرنسية، وترجمة المهدي أخريف لأعمال فرناندو بيسوا عن الأسبانية، وترجمة إزرا باوند للشعر الصيني، ولعل هذا المثال الأخير هو المثال الصارخ للترجمة عن غير اللغة الأصلية
لقد كتب إليوت يوما ـ والعهدة على مقال نشره مؤخرا آدم كيرش في ذي نيو ريببليك ـ أن إزرا باوند هو "مخترع الشعر الصيني في اللغة الإنجليزية" فلولاه لتأخرت معرفة الناطقين بالإنجليزية لهذا الشعر. إزرا باوند لم يكن يجيد اللغة الصينية. ولكنه تلقى ذات يوم دفترا يضم ملاحظات حول قصائد صينية كلاسيكية. هذا الدفتر كتبه أستاذ أمريكي للعلوم السياسية في إحدى جامعات اليابان. وهذا الرجل بدوره لم يكن يجيد الصينية أو اليابانية. فاستعان على قراءة الشعر الكلاسيكي الصيني القديم بأساتذة يابانيين. كان الأساتذة اليابانيون يترجمون النصوص الصينية إلى اليابانية، ثم يأتي مترجمون فينقلونها من اليابانية إلى الإنجليزية، ثم يعدل أستاذ العلوم السياسية ترجمتهم، لينتج نص أخير هو الذي وصل إلى يدي إزرا باوند، فاعتبره مادة خاما أعد منها كتيبا صغيرا ضم أول ترجمة إنجليزية لنصوص من الشعر الصيني القديم. وبدأت رحلة هذا الشعر في هذه اللغة، وتوالت الترجمات، ولم تفقد ترجمة باوند قط أهميتها، وجودتها
يبرر البعض الترجمة عن لغة وسطى بأنها عمل مؤقت. فحين يوجد نص مهم، ويتعذر العثور على مترجم يجيد لغته الأصلية، فلا ضير ـ هكذا يرون ـ من ترجمته عن لغة وسطى. ولكن كل ترجمة، حتى التي تتم عن اللغة الأصلية، هي ترجمة مؤقتة. فكلما كان النص أصيلا، دعت الحاجة إلى إعادة ترجمته. معروف أن في كل كلمة مهما تكن هذه الكلمة فائضا في المعنى، أو لنقل معاني جانبية، أو لنقل إن لكل كلمة حقلا دلاليا، وما يفعله المترجم والقارئ هو أنه ينتخب من كل كلمة معنى، فتتوالى في ذهنه معاني الجملة والفقرة والفصل والكتاب. وقد يقع اختيار قارئ أو مترجم غيره على سلسلة أخرى من المعاني. وهكذا فإن أي ترجمة لأي نص هي بمعنى من المعاني ترجمة عن إحدى نسخ النص، وليس عن الأصل، إن كان ثمة شيء اسمه "الأصل" بهذا النقاء
لعبد السلام بنعبد العالي كتاب اسمه "في الترجمة". هذا هو الكتاب الذي يجعلني أقول إنني "كنت" ـ أي أنني لم أعد ـ ممن يتوجسون من الترجمات الوسيطة. فالرجل يطرح عددا من الأسئلة الذكية: أليس واردا أن ينطوي ما نسميه "نصا أصليا" على ترجمة أو حتى ترجمات، بحيث يكون النص الأول هذا نصا ثانيا من الأساس؟ ماذا لو أننا نريد ترجمة نص لهابرماس يناقش فيه حوارا يجريه دريدا مع أوستين، سيكون هذا النص مكتوبا بالألمانية اعتمادا على نص فرنسي يحاور نصا إنجليزيا، فهو أصل حاو للعديد من النسخ؟ ثم إننا وإن سلمنا بأن كل نص يفقد شيئا عند ترجمته، إلا أننا نتجاهل أن كل نص يكسب شيئا أيضا عند ترجمته. ورحم الله جوته الذي كتب قصيدة عن عودته إلى البيت بزهرة ذابلة، سرعان ما انتعشت بمجرد أن وضعها في الماء. جوته ينهي قصيدته بقوله إن تلك هي حال قصيدته في لغته أخرى.


افتتاحية قراءات في 24 مايو 2009

Tuesday, May 12, 2009

قراءات في 10 مايو 2009

في صباح السابع من يوليو عام 2002 نشرت صحيفة أمريكية نعيا بدأ على النحو التالي: كينيث كوك، شاعر من مدرسة نيويورك، جمع شعره تهكم ممثل كوميدي، ونزق فنان سوريالي، وحكمة جندي في حرب مقدسة. رحل كينيث كوك أمس السادس من يوليو عن عمر يناهز السابعة والسبعين، بعد صراع طويل مع اللوكيميا. عاش كوك حياة أدبية امتدت نحو خمسين عاما، وأثمرت ثلاثين كتابا شعريا على الأقل، قدمت منها في العدد الماضي طرفا يسيرا من كتاباته، سواء النثرية كما في نص "أوليفتّي تتكلم"، أو الشعرية كما في عدد من النصوص. واستبقيت شذرة من شذرات النص الطويل "أوليفتي تتكلم":

يحكى أني كنت أعلم الدببة القطبية كتابة الشعر. كنت أرجع إلى البيت من حصة كل أسبوع (وكان الدرس أسبوعيا) لأرتمي على السرير. فقد كان العمل مرهقا إلى أقصى حد. ذلك أن الدببة كانت تتعمد مضايقتي، فرفضت لشهور أن تكتب كلمة واحدة. هذا إن كان الرفض مصطلحا يصلح استخدامه مع كائنات لم تكن لديها أدنى فكرة عما كنت أفعله، وما كنت أريدها أن تفعله. ومع ذلك، حدث في يوم من أوائل ابريل، أن بدأ الثلج يذوب، فامتلأت المدن بمناظر ساطعة على زجاج الشبابيك، وبدأت الدببة تظهر المزيد من الهدوء، وشعرت أني بدأت أنفذ إليها. وأقبلت عليَّ دبةٌ ذات يوم فوضعت حافرها الأيسر فوق رأسي. كان فمها مفتوحا، ولسانها الأحمر متدليا. فأدركت أنها ـ والدببة الأخرى ـ ظمآنةً، فدبرت لها العديد من براميل المياه. وراحت هي تشرب في لهفة، وبين الحين والآخر ترفع رءوسها لتنظر إلي في امتنان. ولكنها، أيضا، لم تكتب قصائد. لم تكتب كلمة، ومع ذلك، لا أظن أن هذا التعليم كان مضيعة للوقت، وأخطط لمواصلته في المستقبل لو وجدت في نفسي القوة اللازمة. فمن الصعب والمرهق أن تحاول شيئا أنت تعرف أنه مستحيل ـ لكن، ماذا لو بدأت الدببة يوما تكتب الشعر؟ أظن أننا سنعرض عما لدينا من ستيفان جورج وييتس ونولي لها كل انتباهنا. أية أعاجيب ستنكشف! أية أحلام للدببة!

تلك هذ شذرة كينيث كوك.
كان الفن في القديم، يصف حياة الآلهة، فإن اجترأ ونظر إلى حياة البشر فما كان يعنى بغير حياة الأبطال الأسطوريين أنصاف الآلهة. ثم حدث أن بدأ الفن يتناول حياة البشر بصورة تكاد تكون حصرية، ولكنهم الملوك والأمراء ومن اقترب منهم. ثم تخلص الفن من لزوم ما لا يلزم هذا، وبدأنا نرى البشر العاديين شخصيات رئيسية ـ ولا نقول أبطالا ـ في روايات وقصص وقصائد، كأن نرى الموظف الذي عطس عند تشيخوف، أو البائع الجوال جورج سامسا الذي تحول إلى صرصار عند كافكا، بل وفي نماذج أقدم من هذين بكثير. وبات واضحا أن في حياة كل إنسان رواية محتملة تنتظر من يكتبها.
تماما، كما أن في حياة كل دب كنزا من الأسرار، عالما كاملا من المشاعر والمخاوف والرغبات والأحلام لا يعرف الإنسان عنه أي شيء. ويتحرق شوقا إلى معرفته فيطمح أن يعلم الدببة كتابة الشعر. قد يتصور كثيرون أن في تعليم الدببة كتابة الشعر شيئا من التزيد، فربما من الكافي جدا أن نعلمها القراءة والكتابة، أو حتى الكلام وحسب، وحينئذ سوف تنهال علينا تفاصيل العالم كما تراه الدببة. ولكن هذا خطأ. فالبشر كلهم ـ إلا قليلا ـ يتكلمون، وكثير منهم يقرأون ويكتبون، ولكن قليلا للغاية منهم هم القادرون على التعبير عن أنفسهم. لا بد إذن من تعليم هؤلاء ـ الدببة طبعا وليس البشر ـ كتابة الشعر، لكي نعرفهم، لكي نعرف ما يشعرون به. لأن في صمتهم هذا وأدا لمعارف هم أنفسهم ربما لا يعرفون بوجودها

افتتاحية قراءات في 10 مايو 2009

Tuesday, May 05, 2009

قراءات في 3 مايو 2009

يحدث لي كثيرا، حين أقف أمام رف في مكتبة مستغرقا في استعراض كعوب الكتب، أو متصفحا أحدها، أو حين أقف أمام رف في أحد الأسواق متصفحا تواريخ بداية الصلاحية ونهايتها، وبالجملة، يحدث لي كثيرا كلما أوليت العالم ظهري، وتلهيت عنه بما بيني وبين الحائط، أن أفيق على هاجس يجعلني ألتفت خلفي لبرهة، قبل أن أعود من جديد إلى ما كنت فيه، هاجس بأن أحدهم سوف يطعنني من الخلف، فينتهي هكذا وجودي، دون أن أعرف من، ودون أن أعرف لماذا؟ بارانويا؟ ليكن. وأقرأ عن شاب اسمه مالونكيابوتا، ولندلله بـ مالو. قرر مالوا أنه لن يسكت أكثر مما سكت، وأنه ذاهب لا محالة إلى صاحب الغبطة، أستاذه ومرشده، المغفور له بوذا، وسيسأله: أستاذ بوذا، هل العالم خالد؟ أم أنه غير خالد؟ هل له نهاية أم لا نهاية له؟ والنفس يا أستاذ، أهي الجسد، أم شيء في الجسد؟ وهل للنفس حياة بعد موت الجسد؟ سيسأله إن كان يعرف هذه الأمور ولا يخوض فيها، وفي هذه الحالة لماذا؟ أم أنه لا يعرف شيئا عن هذه الأمور، ويخجل أن يقر بجهله، فيتظاهر أنه لا يخوض فيها لعلة أخرى غيرالجهل؟ وإذا ببوذا يقول: الأمر يا مالو (وكان بوذا مغرما بتدليل ذوي الأسماء الصعبة) مثل شخص أصابه سهم مسموم فهرع أهله إليه بجراح. ولكن الجريح قال: لن أدع أحدا ينزع السهم ما لم أعرف من الذي أطلقه، ولماذا، ومن أي طبقة اجتماعية أو دينية هو، ومن أي قرية أو مدينة، وطويل أم قصير، ومن أي قوس أطلق سهمه، ومن أي مادة صنع وتر قوسه، ومن أي ريشة صنع سهمه، وقبل أن يعرف جواب سؤال من أسئلته، مات. ويستخلص بوذا من الحكاية درسا يعلمه لسائله: هو أن السعادة ممكنة دون التفتيش في أدراج الميتافيزيقا المتعبة. وكان يمكن للأستاذ أن يستخلص درسا آخر: هو أن السهم نفذ، عرفنا الذي أطلقه أم لم نعرفه، وأن السهم نفذ، أطلقه أحد أم لم يطلقه، وأن الحكم بالإعدام مدون في الدفاتر منذ انعقاد الجلسة الأولى، وأن إخطارنا به تم. وكان يمكن للأستذا أن يستخلص درسا آخر: وهو أن المحيط الممتد أمامنا، أو الصحراء، أو الغابة، أو المستقبل، وأن القضية التي تستولي علينا، أو المعرفة أو الثروة أو الحب، أن كل تلك الأشياء هي أقنعة شتى لحائط واحد، وأننا مجرد مشغولين بتأمل تاريخ بداية الصلاحية ونهايتها، متلهين بمنظر المحيط أو الغابة، منهمكين في التخطيط للمستقبل، وليس كل هذا في انتظار أن تأتي الطعنة، بل في انتظار انسراب السم حتى آخر الشرايين، فالسهم، ببساطة، نفذ. ثم إن بوذا كان ينبغي أن يكون أكثر تهذيبا، ففي ترجمة يوسف شلب الشام لكتاب "بوذا" لـ والبولا راهولا، نراه يقول لمالو "يا أحمق" لمجرد أن الأخير يريد أن يتسلى بالميتافيزيقا.

Monday, March 23, 2009

تداول السلطة الشعرية

سأكون أول شخص في التاريخ يحق له أن يقول "كنت شاعرا للبلاط" هكذا كتب الشاعر آندرو موشن شاعر البلاط الملكي وأمير شعراء بريطانيا. ومع أن هذا ليس صحيحا تماما، فقد حق لشاعر من قبل هو جون درايدن (الذي تم طرده من منصبه كشاعر للبلاط الملكي) أن يقول نفس العبارة، إلا أن آندرو موشن ـ وبعيدا عن هذا الاستثناء ـ سيكون بالفعل أول شاعر سابق للبلاط البريطاني، فقد كان المنصب حتى عشر سنوات مضت منصبا يستمر مدى الحياة، وحدث أن أتت الانتخابات بتوني بلير رئيسا لوزراء بريطانيا، فرأى أن يغير هذا الوضع ويجعل للمنصب مدة محددة بعشر سنوات فقط.

سيكون آندرو موشن إذن أول من يحق له في التاريخ أن يقول عن نفسه إنه كان شاعرا للبلاط. فهل تنبع البهجة التي أستشعرها خلف كلماته من دخوله "التاريخ" بوصفه "أول" المتقاعدين، أم أنها تنبع من خروجه من "البلاط" و"المنصب" وعودته من جديد إلى صفوف الجماهير يؤدي دورها كأي مواطن عادي؟
لعلنا قادرون على تلمس إجابة ما في فقرة أخرى من مقال موشن الطويل والعذب المنشور في الجارديان بتاريخ الحادي والعشرين من مارس الجاري (وهو بالمناسبة اليوم العالمي للشعر)، يقول موشن:
"قابلت بالترحاب فكرة أن تدوم ولايتي عشر سنوات فقط؛ ذلك أن محدودية الفترة شجعتني على الشعور بأنني ينبغي أن أكون أكثر نشاطا. كما سمحت لي أيضا بالشعور بأنني سوف أسترد في نهاية المطاف حياتي".
كان ثمة إذن بهجة منذ البداية، بهجة بالعمل وبالارتياح من العمل. بهجة إنسان متزن لم يفرح بما قالته له ملكة بريطانيا ورئيس وزرائها عندما التقي بكليهما ـ كل على حدة ـ في مستهل ولايته، فكرر كل منهما الآخر قائلا للشاعر "لن تكون مضطرا إلى عمل أي شيء". يصف موشن الملكة ورئيس الوزراء عند قولهما هذا بأنهما "كانا مبتسمين" ويضيف "لقد جعلاني أشعر أنني سوف أوضع في البرج إن أنا لم أقم بعمل أي شيء فعلا. وما حدث هو أنني لم ألق تشجيعا كثيرا على أن أشغل نفسي. وفي حين فسر أسلافي المنصب بوصفه تكريما، شعرت أنا أنه بمثابة دعوة إلى القتال".
ومضت السنوات العشر، فخدم الرجل الشعر كثيرا، ومثَّله في كل محفل يمكن أن يمثله فيه، ولم يكتب في المناسبات الملكية على مدار عشر سنوات إلا ثماني قصائد، بمعدل أربعة أخماس قصيدة في العام. وآن له أن يخرج، مفسحا المجال أمام صوت آخر، ومذاق آخر، مستجيبا لا لقانون غيره رئيس وزراء ـ هو نفسه خرج من الحكم ـ بل لقانون الطبيعة البسيط، ولروح الشعر الذي لا يعيش إلى على جثة الجمود والتكلس.
ولا نزال مع أخبار الشعر، ولكن على صعيد آخر جدا، ومن ناحية أخرى بصورة مفزعة، حيث فاز الشاعر المصري أحمد عبد المعطي حجازي بجائزة الشعر التي يمنحها مؤتمر سنوي هو رئيسه بحكم منصبه كمقرر أبدي للجنة الشعر في المجلس الأعلى للثقافة.
افتتاحية ملحق قراءات بتاريخ 22 مارس 2009

Sunday, February 22, 2009

ضرورة ألا نستخدم سلة القمامة

يجلس حابي ـ 35 سنة ـ على مصطبة بيته المقام من اللبن على شاطئ نيل أتريب (بنها حاليا)، وقد شعر بدنو أجله. عن يمين حابي سلة (مَشَنَّة) مليئة بمزق من البردي، وفي حجره لفائف ولفائف، بين حين وآخر يفض إحداها ليقرأها، فحينا يدمع، وحينا يضحك، ولكنه في كل الأحيان يمزقها بلا تردد، فتستقر في نهاية الأمر في المشنة. حابي، في آخر العمر، يطالع ذكرياته التي ظل يدونها يوما بعد يوم: كيف خرج من أتريب إلى منف ليدرس في معبدها، وكيف كان وزملاؤه يكيدون للكاهن المعلم ويسخرون منه، وكيف عاد بعد الأحلام العظام إلى أتريب ليعمل في بلاط حاكم الإقليم، وكيف أنه أحب خادمة هناك، هي التي تزوجها من بعد، وهي التي قصفت عمره. كل تفاصيل حياة حابي بين يديه الآن، وإنه يمزقها ـ غير راغب في ترك أثر منها لأبنائه. "فليبق لهم ما يتصورونه، وليس ما أنا إياه". وتمر السنوات (حوالي سبعة آلاف وست عشرة مثلا)، والذي يجلس الآن ليس حابي، بل عالم مصريات، يزيل، ما استطاع، وسخ آلاف السنين عن مزق من البردي (عثر عليها فلاح من بنها) ويكد ليلصق مزقة جنب مزقة عساه يكون صفحة أو ربما الصفحات كلها من جديد. وبين حين وآخر تفلت منه لعنة لذلك المصري القديم السفيه الذي مزق حياة كان يمكن أن تكشف لنا الكثير من أسرار حياة القدماء. ولكن حابي لم يكن سفيها، هو لم يكن واعيا أنه يمزق ثروة من ثروات الإنسانية لا تقدر بثمن. لقد كان يفعل في شيء يملكه هو وحده ما عنّ له أن يفعله. ثم إن ورقات حابي لم تكن آثارا في ذلك الوقت. لقد كانت بالضبط مثل أي كراسة في زماننا هذا يحدث أن يلقي بها أحدنا إلى سلة القمامة حين يرى في سلة القمامة مكانا مناسبا لها. هذا لا ينفي أن حابي اعتدى على أثر مملوك للإنسانية، حتى وإن جاء اعتداؤه على الأثر قبل أن يصبح الأثر أثرا. وهذا ما نفعله طول الوقت، وتخيلوا التالي: أحدنا ـ وليكن اسمه "حبيب" مثلا ـ يصحو من النوم راغبا في أخذ حمام بارد، فيأخذه. حبيب يفطر على عجل، إنه يفض عن قطعة الجبن ورقة تغلفها، إنه يكورها وهو شارد، وإنه يتركها تسقط إلى هاوية سلة القمامة (هذه اللفافة بالذات هي الدليل الذي سيفتقر إليه عالم بعد بضعة آلاف سنة يريد أن يثبت أن أجداده البشر القدماء كانوا يلفون أطعمتهم في لفائف آمنة). حبيب يستقل سيارته ويرى أن الجو بديع فيترك الشباك مفتوحا ويستقبل طوال الطريق إلى العمل سيلا من الهواء، وحين يوقف سيارته، ويغلقها، وينزل منها، يعطس. حبيب يعطس. حبيب يخرج منديلا ورقيا ويتمخط. وحبيب شخص مهذب، إنه لا يلقي المنديل على الأرض حيث كان الهواء سيغطيه بالتراب، فتتراكم عليه التربة عبر آلاف السنين إلى أن يجده عالم يبحث عن دي إن آيه للبشر القدماء. حبيب يلقي المنديل في سلة القمامة. وهناك عامل مجد سوف يفرغ السلة ليتم إعدام هذه القمامة، إعدام ثروة هي ملك للإنسانية، هي ثروة من ثروات أحفادنا لا تقدر بثمن، وماذا نفعل نحن؟ نحن نهدرها أيها الأعزاء!



عن ملحق قراءات 22 فبراير 2009


Sunday, February 15, 2009

مع مرآة تكون النهاية أجمل

يستطيع مخرج جريء، واثق في قدرات ممثله وثقافته واستيعابه للنص وتماهيه مع الشخصية التي يلعبها، أن يترك لهذا الممثل النادر مساحة للارتجال. ولكن هل يترك له الفينالة ـ أي "الخاتمة" بلغة أهل المسرح ـ يرتجلها بحسب ما تملي عليه اللحظة؟ لا أظن. فهذه اللحظة الأخيرة هي التي ستبقى في أذهان المشاهدين. هي التي سوف تجلب التصفيق أو اللعنات. وهي، لذلك، تنال من المؤلف والمخرج وشتى عناصر العرض نصيب الأسد من الاهتمام.
وعلى أهمية الفينالة، إلا أننا جميعا نتركها نهبا للارتجال، فلا يعد كثير من الناس ـ في ظني ـ للحظاتهم الأخيرة في الحياة.
في رواية "القلعة البيضاء" للتركي أورهان باموق، يجلس شخص إيطالي في قمرته، وقد حسب أن أجله موشك على الانتهاء على أيدي قراصنة عثمانيين يغيرون على سفينته. وفي قمرته تلك، وفي تلك اللحظات:
فتحتُ حقيبة ثيابي الصغيرة أفتش عن كتبي ثم شردت. فاضت عيناي بالدموع وأنا أقلّب صفحات كتاب ابتعته بثمن باهظ من فلورنسا، سمعت صراخا وخطوات تندفع ذهابا وإيابا، ثمة اضطراب بالخارج، أدركت أن من الممكن في أي لحظة أن ينتزع الكتاب من يدي، ومع ذلك لا أرغب في التفكير في ذلك، بل فيما مكتوب على صفحات هذا الكتاب. كأن هذا الكتاب بما فيه من أفكار وعبارات ومعادلات يضم بين جنبيه كل حياتي الماضية ... حدت بي رغبة يائسة أن أطبع في ذاكرتي الكتاب بأكمله.
ارتباك. هذا الإيطالي لم يتأهب للحظة الأخيرة في مسرحيته الخاصة. فإذا به يحاول تضييعها، إذا به يتشبث في كتاب محاولا الاستيلاء عليه في ذاكرته.
بالنسبة لي، لم أهدر اللحظات الأخيرة من حياتي مع كتاب التقطته عبثا من مكتبتي.
كان ذلك قبل سنوات كثيرة، وكنت وثلاثة من أصدقائي ساهرين في بيتي، وبدأت نبضات قلبي تتزايد لسبب لا داعي لذكره. وبدا أصدقائي دخلاء على الفينالة، ليس من مبرر فني لوجودهم. كان ينبغي ـ هكذا يبدو لي الأمر الآن ـ أن تخلو خشبة المسرح لمونولج نهائي لا يتلوه تصفيق أو لعنات. ولم يكن كتابا الذي التقطته بعد أن أغلقت الباب خلف أصدقائي جميعا.
استلقيت في فراشي. وبين يدي مرآة صغيرة. ولسنوات بعد ذلك سأعتبر هذا منتهى النرجسية. أن لا يريد شخص في لحظاته الأخيرة إلا أن يرى وجهه. وعلى ذكر النرجسية، ألم يكن نرجس ـ نرسيوس ـ هو آخر ما رآه نرجس من هذه الحياة؟ ألم يكن افتتان نرجس بصورته هو الذي أحياه بعد موته زهرة باقية ما بقيت الحياة؟
حتى إيطالي القلعة البيضاء جعل من الكتاب مرآة (كأن هذا الكتاب ... يضم بين جنبيه كل حياتي الماضية). ليأت الموت وليفعل ما يشاء، هو على أي حال لا يحمل أي مفاجآت، ربما تأتي المفاجآت بعد الموت. ولكن المرء لو اختار أن يحمل من هذه الدنيا، فسيختار شيئا يتحدى خلو الأكفان من الجيوب، سيختار وجهه، يحمله معه في ذاكرته، أنيس رحلة لا رجوع منها.
ليس عبثا أن هناك مرآة في غرفة النوم، وفي الحمام، وفي المصعد، وفي السيارة، وفي المركز التجاري، وفي المقهى، ليس عبثا أن وجوهنا لا السلع هي ما نراه على واجهات المحلات، ووجوهنا لا الماء على صفحات الأنهار، ووجوهنا لا الزمن على أسطح الساعات، ليس عبثا أننا لا نرى إلا وجوهنا على شاشات التليفزيون المطفأة، وعلى نوافذ السيارات في المواقف، وفي بؤبؤ عين من نحادثه ....
نشرت في قراءات 15 فبراير 2009

Tuesday, February 10, 2009

بيسوا الذي لا يعرف الشفقة

يحدث الأمر على النحو التالي: يسأل المرء البائع عن الثمن، يجد أنه قادر على دفعه، فيدفعه، ويحسب أنه اقتنى كتابا. بينما العكس بالضبط هو الذي حدث. اقتناه الكتاب. طبعا لا يحدث هذا كثيرا. فأغلب ما نقتنيه لا يبقى في دائرة اهتمامنا طويلا. ولكن من الكتب ما يبقي مالكه في فلكه طويلا، طويلا للغاية. حدث هذا معي قبل سنوات، حين صدر كتاب في المغرب ولم أطق صبرا حتى وصوله إلى القاهرة، فطلبت من زميل لي كان يعمل هناك أن يرسله إليّ، ومنذ ذلك الحين وكتاب اللاطمأنينة للشاعر البرتغالي "فرناندو بيسوا" وترجمة الشاعر المغربي "المهدي أخريف" معي، لم أعره إلى صديق، ولم أحب أحدا إلا وكلمته عنه، ونصحته به. سنوات وأنا مع كتاب اللاطمأنينة لم أنته منه ولم ينته مني. أفتحه في أي وقت، ومن أي صفحة، فأقرأ حتى أشبع أو أجوع ثم أتركه، موقنا أنني عائد إليه. كنت قبل صدور الكتاب قد قرأت لبيسوا أغلب ما نشر له بالعربية: مختاراته التي صدرت عن وزارة الثقافة في مصر، ثم عن المجلس الأعلى للثقافة هناك، ثم ديوان راعي القطيع الصادر عن وزارة الثقافة المغربية، وهذا الأخير فتنني ولا يزال. ولكن كتاب اللاطمأنينة ظل منفرد المكانة عندي. وأخيرا، وفيما أنا في القاهرة، وجدت طبعة جديدة من الكتاب صادرة في مصر، فاشتريت منها، وأهديت إلى الأحب ممن سبق وبخلت عليهم بمجرد النظر، ناهيكم عن التصفح. وكانت بانتظاري في معرض القاهرة للكتاب مفاجأة جديدة. ديوان جديد بالعربية لفرناندو بيسوا، وأيضا من ترجمة المهدي أخريف، صحيح أنه صادر في 2006، ولكنني لم أعرف بصدوره إلا حين رأيته أمامي وجها لوجه. وكالعادة: يسأل المرء البائع عن الثمن، يجد أنه قادر على دفعه، فيدفعه، ويحسب أنه اقتنى كتابا. بينما ما يحدث هو العكس بالضبط. يعرف عشاق بيسوا أنه لم يكن يكتب قصائد بقدر ما كان يؤلف شعراء: يمنحهم أسماء وتواريخ ويؤلف بهم شعرا ينشره بأسمائهم. راعي القطيع منشور باسم ألبرطو كاييرو، والديوان الذي اشتريته مؤخرا معنون بـ قصائد ألبارو دي كامبوس. عرفت منذ الوهلة الأولى أن كتاب اللاطمأنينة لم يعد منفردا بي. لقد انضم إليه هذا الكتاب؛ ففي واحدة من قصائد الكتاب الأولى وعنوانها أفيون، يقول ألبارو دي كامبوس أو فرناندو بيسوا: وأنا في الأفيونِ واهبِ السلوى أبحث عن شرقٍ في شرقِ الشرق
ويقول:
اشتغلت لأظفر بالتعب وحده
ويقول:
لأجل العيش، ثمة طريقة واحدة فحسب لذلك أتعاطى الأفيون
ويقول:
لماذا ذهبت إلى زيارة الهند الفعلية إن لم تكن الهند موجودة، ما عدا الروح فيّ؟
ويقول:
ليس في مستطاعي أن أوجد في أي مكان. وطني هو حيث لا أكون موجودا.
ويقول:
أنا أنتمي إلى فصيلة من البرتغاليين الذين بعدما اكتشفوا الهند أصبحوا بلا عمل.
ويقول:
تنقصني الطمأنينة تنقصني أرضٌ وحصيرة صغيرة.

هل تدرون عبء ومتعة أن يوجد لدى المرء كتاب من خمسمائة صفحة هذه مقتطفات من قصيدة واحدة في بدايته؟