من
قبوي
برغم أنه لن تكون هناك بطاطس للجميع
سنوات
مضت منذ أن قرأت كتاب سيرة "عدلي رزق الله" الذاتية، الصادر عن الهيئة
المصرية العامة للكتاب. سنوات كثيرة، أنستني حتى عنوان الكتاب، ولم تنسني حكاية
حكاها عدلي رزق الله عن أيامه العصيبة الأولى في باريس. فقد حكى أنه كان يرسم
لوحات صغيرة، تخطيطات على ورق مقوى بحجم البطاقات البريدية ويبيعها للمارة.
بقيت
الحكاية في ذهني لسببين: أولهما أنني دائما ما أرثي للفنان التشكيلي، ويبقى عندي
دائما تصورٌ بأنه أتعس الفنانين عامة؛ فهو الذي كلما راج فنه، بعدت المسافة بينه
وبين هذا الفن، واستحال عليه ـ وهو الخالق ـ أن يرى مخلوقاته وقتما يشاء، فقد
"بيعت"، أو بالتعبير الملطّف "اقتنيت"، وهي الآن في بهو بنك
يغلق أبوابه يومين كاملين كلَّ أسبوع ويغلقها كل يوم بعد الثالثة، وهي الآن في
متحف (والمتحف مقبرة) فضلا عن أنه قد تقوم من حوله ثورة فينهب، وهي في بيت ثري
ربما يكون عنده أطفال قد يحلو لأطيبهم قلبا وأكثرهم براءة أن يختبر أقصى مدى يمكن
أن يبلغه بـ بوله.
السبب
الثاني أنني أرى أنه "ليس آمنا على الأرض غير طائر، وإن وقف على نبتة في عرض
نهر"، وهذه العبارة موضوعة بين قوسين لأنها جزء من قصيدة أحاول أن أكتبها منذ
عشر سنين أو أكثر. لماذا؟ لماذا يكون الطائر هو أكثر مخلوقات الأرض أمنا؟ لأن بوسعه
دائما أن يترك الجمل بما حمل، بوسعه أن يترك الأرض كلها للبركان أو الزلزال أو
العاصفة أو الإخوان المسلمين أو الإخوان العسكريين أو الإخوان القضاة إلخه، ويذهب
هو إلى حال سبيله.
يأتي في
مرتبة تالية للطائر كلُّ من يمتلك في جسمه نفسه جميع أدوات إنتاجه، ولا أتحدث
بالضبط عن العاهرة وإن تكن المثال الأقرب لطائر على الأرض، لكنني أقصد كل من يضرب
الأرض فتطلع البطيخ: ولا أقصد الفلاح بالضبط، لكن الفلاح مثال جيد..
يمكن أن تنهار
شبكة الإنترنت، أو يختنق الاقتصاد العالمي اختناقا لا تحييه قبلات النقد الحكومية،
يمكن أن تنقلب الدنيا فإذا عاليها سافلها (وهذا نادرا ما يحدث) أو سافلها عاليها
(كأن يحكم الإخوان المسلمون)، ويبقى بوسعه هو أن يأخذ ثمرة من بطاطس العام الماضي،
فيجعلها ثمارا كثيرة. ولا أنسى فيلما عن رجل وزوجته وابنيهما، في بيت في عرض النهر..
ليس
بالضبط بيتا في عرض النهر، لكنه بيت في العراء، وجاء الفيضان فأصبح البيت كما لو
أنه مركب راسٍ، وصار الزوج يخرج كل يوم من البيت في قارب ويرجع إليه في قارب، لا
نعرف إلى أين ذهب ولا فيم كان ذهابه، ولكنه يعود فيجد زوجته وقد أعدت له البطاطس
على العشاء، فيتوجس أن يكون مخزونهم من البطاطس قد نفد، وأن يد زوجته لا بد أن
تكون امتدت إلى الثمار المدخرة للزراعة في العام القادم. ويسألها فتجزم له أن المخزون
لم ينفد بعد، وأن الثمار المدخرة للزراعة لم تمسسها يد. ويكتشف يوما أن المخزون
تناقص، وأنه عندما لن يجد بعد انحسار الفيضان
ما يغرسه في أرضه، وأن القادم أسوأ، فينهال بالضرب على زوجته، وهو يعرف أنها لم
تفعل ذلك إلا لإشباعه وإشباع أطفاله بعدما قطع الفيضان ما بينهم وبين العالم،
يضربها لأنه لا يستطيع أن يضرب المدان الحقيقي في مأساته ومأساتها، ولا أعني
الفيضان.
ميلودراما،
أعرف، وعادة ما توصف بالرخيصة. لكن القصد، بعيدا عن الاستطراد الميلودرامي كله، واضح:
هناك من بوسعهم ـ إن هم قلّصوا احتياجاتهم إلى الحقيقي منها بالفعل ـ أن يغتنوا عن
العالم.
ليس آمنا
إذن في باريس (وكل الدنيا باريس) إلا شخص يستطيع أن يأكل من رسمة يرسمها على ورقة،
ويبيعها بفرنكات قليلة. صحيح أن فنّه هذا سوف يذهب عنه إلى الأبد، صحيح أن مقتنيه
قد لا يحتفظ به إلى ما بعد نزوله من المترو، ولكن شخصا كان جائعا وشبع، ومهما يكن
ثمن هذه المعجزة، فهو لو تعلمون زهيد.
لم
يحدثنا عدلي رزق الله عن الذين اشتروا بطاقاته، أو لعله كتب عنهم ما لم تبال
ذاكرتي بانتقائه ضمن مقتنياتها اليومية. لكن ماذا عساه يعرف عن شخص مرّ به في
الشارع فاشترى منه بطاقة؟ الكثير. الكثير في الحقيقة، وربما الجوهري أيضا.
كل هؤلاء
الذين تقع عليهم أعيننا، عرفناهم أم لم نعرفهم، خائفون، إذا لم يكن من شرطي فاسد،
فمن قاض فاسد، وإن لم يكن من كليهما فمن طبيب جاهل أو مرهَق أو متلهف على الانتقال
من تقمص دور الطبيب إلى تقمص دور المضاجع. وإن كانوا غير خائفين من كل ذلك، فمن القادم،
وإذا كانوا غير خائفين من القادم فجدير بهم أن يخافوا، لأن القادم أسوأ.
ما أريد
أن أقوله هو أن كل واحد من أولئك الذين ساهموا في إطعام عدلي رزق الله، وكل واحد
ممن يقفون أمام بائعي الكتب في الشوارع يفاضلون بين العناوين، وكل من يقطع تذكرة ليدخل السينما أو
المسرح، هو واحد يعرف أن القادم أسوأ، وأن الحكمة قد تستوجب أن يشتري ثمرة بطاطس
يدخرها لعالم لن تكون فيه بطاطس للجميع.
قبل فترة
تابعت في أسبوعية "نيو ستيتسمان" الإنجليزية سلسلة مقالات نشرت بالتعاون
مع بي بي سي موضوعها "ما الذي يجعل منا بشرا"؟ وكثرت الإجابات، كل أسبوع
تقريبا إجابة جديدة، وكل واحدة مدهشة من زاويتها، وكل واحدة تكشف أننا لا يمكن أن
نصل إلى إجابة شافية لسؤال كهذا ما دام كل مجيب يبقى مقيدا بالموقع الذي يتكلم منه،
ومنه يرى العالم، وبحدوده يبقى "محدودا". ما علينا، يبدو لي، أنا، ومن
موقعي هذا الذي أكتب منه، ومنه أرى العالم، وبحدوده أحتد، أن ما يجعلنا بشرا هو
الفن، لا أننا ننتجه، بل أننا نستهلكه.
نشر
المقال أمس على موقع قل