Thursday, March 07, 2024

حتى بلكونتي تطل على غزة

 

ولكن بلكونتي أيضا تطل على غزة





كان ينبغي أن تكون الثمانية عشر يوما قد أهَّلتني بالقدر الكافي.

ولعلي لست بحاجة إلى التعريف بـ(الثمانية عشر يوما)، ففي ظني أنها ينبغي أن تكون غنية عن التعريف عندنا شأن الحادي عشر من سبتمبر عند الأمريكيين مثلا. رقم، محض رقم، لكنه لا يكاد يقال حتى يستحضر المرء لحظة كانت جديدة على كل من شهدوها، لا مثيل لها قبلها أو بعدها. لحظة امتدت على مدار ثمانية عشر يوما وبدا لنا فيها أننا نمتلك المستقبل كله، إلى أن تبين أننا لا نمسك إلا طرفه، ثم إذا بنا نفيق وقد أفلت من بين أيدينا، فرجعنا كلٌّ إلى قوقعته، وكان نصيبي أنا بلكونة، وضعت فيها مكتبا، فلا أنا في البيت ولا أنا في الشارع، تماما كما أنني محروم من كلا اليأس والأمل.

أقول هذا ولم أقض الثمانية عشر يوما في مصر أصلا، فلا كنت للحظة في الميدان ولا كنت للحظة خارجه.

كان ينبغي، هكذا تحدثني نفسي الآن، أن تكون الثمانية عشر يوما قد أهلتني جيدا لصباح السابع من أكتوبر، فأمسك نفسي حتى لا ترتد مرة أخرى إلى فرحة الأطفال، ثم لا تفيق منها إلا على حسرة الأطفال، وما أشدها، وما أوجعها، وما أفجعها.



لكنها للأسف، لم تحصِّني، ففرحت بالسابع من أكتوبر، وانتقلت من البلكونة لأجلس مرة أخرى، بعد كل هذه الأعوام المنصرمة منذ 2011، أمام شاشة التليفزيون، أرى المستقبل من جديد بعيني رأسي، ليس بيني وبينه إلا أن يواصل الرجال في فلسطين طوفانهم إليه.

قلت، لا في حسرة، إن خمسين سنة كاملة كان ينبغي أن تمر لننتقل من السادس من أكتوبر إلى السابع منه. ورأيت بعيني كيف يمكن أن يقهر لعب الأطفال ترسانات الأسلحة. لقد سبق أن أزيح الساتر الرملي دونما حاجة إلى قنابل أو جرافات أو قذائف من أي نوع، بل هزمه سلاح خراطيم الماء، الذي يقوم على ما تقوم عليه ألعاب الأطفال لا أكثر ولا أقل. ثم حدث في السابع من أكتوبر أن هزأت الدراجات الطائرة بخرسانة السور الكريه، وأهانت صواريخ هي أقرب إلى المفرقعات تكنولوجيا القبة الحديدية، ورجع المقاتلون بالأسرى، وبدا لوهلة أنه مهما حدث بعد ذلك فقد تحقق انتصار، وانتصار عظيم، انتصار لخيال طفولي على واقع متغطرس أعمته غطرسته عن هشاشته.

وهذا لم أفقده. فلم أزل إلى الآن متشبثا في بداهة معنى السابع من أكتوبر كما فهمته: لن ترى إسرائيل نفسها بعد اليوم آمنة، لن تبدو أرض الوعود والأحلام ليهود العالم، لن يتصور زعماء العصابة هناك أن البطش بالفلسطينيين سوف يمر دائما دونما عقاب مؤلم، لن يفلح أحد في إيهام الفلسطينيين بأنهم عاجزون أو ضعفاء، أو لا أمل لهم إلا تسول المفاوضات راجين أن تسفر لهم يوما عن دولة. ولن يقال إن الفلسطينيين بحاجة إلى غيرهم من العرب يعينونهم على تحرير بلدهم، وإنما غيرهم من العرب هم الذين يحتاجون إليهم يذكِّرونهم ويحيونهم من موتهم.

كل هذا لم أزل أصدقه، ولن يزعزعه شيء. لأني رأيته. مثلما رأيت في الثمانية عشر يوما ما لن أفقد الإيمان به ما حييت.

أما ما تغير، فظني الساذج بأن النصر قريب. كنت أعلم في أول الأيام التالية للسابع من أكتوبر أن الضربة الإسرائيلية لن تكون هينة، وأن العالم لن يثني إسرائيل أو يلجم هياجها، مثلما لم يجرؤ من قبل على أن يمنع الولايات المتحدة عن سعار اجتياحها للعالم إثر الحادي عشر من سبتمبر. لكنني كنت أقول لنفسي إن الثمن ـ الأليم ـ هذه المرة له ما يبرره. لأن ضربة السابع من أكتوبر، مهما تكن قسوة عواقبها على الفلسطينيين، منحتهم ما كانوا في أمس الاحتياج إليه: تذكير الإسرائيليين والعالم بأن لهم أنيابا يجب أن تخشى. وقلت لنفسي إن شعوب العالم لن تسكت طويلا على مجازر إسرائيل، وإنها ستضغط على حكامها، فيضغطون على إسرائيل، ويرغمون الأطراف جميعا على هدنة، وعلى محادثات، وعلى مفاوضات، وعلى حل، حل يليق بقوة الفلسطينيين، وتضحيتهم، لا الهراء الذي طالما تكلم عنه الدبلوماسيون والساسة.

جهل طبعا. أو عدم وعي بالسياسة وحسابات العصابات الحاكمة في العالم. أو في أحسن الأحوال سذاجة وحسن ظن بالدنيا. أو أنني ببساطة كنت قد ابتليت بالطفل الميت بدرجات داخل كل واحد فينا وقد ارتدت إليه الروح، واحتل مقاليد عقلي، وأجلسني أمام الشاشة أشاهد، وأمام الشاشة أشرد.

حتى قضت عليه وعليَّ الشاشة.

وجرائد الغرب أيضا.

يرغمني عملي في الترجمة الصحفية، منذ قرابة ربع قرن، على أن أبدأ يومي بتصفح بعض مواقع الجرائد الأمريكية والبريطانية، وبعض مما يصدر بالإنجليزية من صحف في أماكن أخرى. ودائما، أرغم نفسي على أن أبحث في هذه الجرائد ـ وبخاصة الأمريكية والغربية منها ـ لا عما يطمئننا أو يريحنا أو يؤكد أوهامنا عن أنفسنا أو عمن عدانا، وإنما عن أشد المقالات استفزازا لنا وعداء، وأكثرها إمعانا في تجاهلنا ومحاربة لمصالحنا، وأعني بنا المصريين والعرب والمسلمين والعالم الثالث وما بات يعرف في السنين الأخيرة بجنوب العالم، ظنا مني بأن هذا ما يجب أن نعرفه حقا، وإن كان مؤلما أو مستفزا. ومنذ السابع من أكتوبر، صرت كل يوم أصطدم بكتاب عهدت فيهم نزاهة أو حيادا أو حتى حرفية على مدار سنين إذ أراهم يكشفون عن انتمائهم الحقيقي وانحيازهم الذي أحسنوا إخفاءه طويلا، ويقفون بلا لبس في صف الباطل. صرت أقابل في كل مقالة ـ إلا النادر الاستثنائي ـ عبارة "حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها" بدلا من حرب الإبادة الجماعية ومساعي التطهير العرقي، ووصف حماس بالإرهاب والتوحش لا بالنضال والكفاح المشروع بل الواجب، وتسمية الحرب بحرب غزة لا لأنها تجري فوق غزة ولكن لأنهم لا يريدون أن ينطقوا كلمة فلسطين أو يكتبوها. صرت أستهل كل يوم بمطالعة هذا الكذب والزيف، ثم أنتقل منه إلى الشاشة بحثا عن الصدق، فتوالت عليَّ ضربات الكذب والصدق معا.

مضيت أترجم عن المناخ؛ كوب 28 شيء مهم. مهم جدا. والاحتباس الحراري بالمناسبة مسألة مهمة. مهمة جدا. وكتمت صوت التليفزيون، لفترة، ثم أطفأت الشاشة غير متوهم أنني بذلك أنهي الحرب، أو أوقف القصف، أو أضع حائلا بين الفلسطينيين والقنابل. فلم أفقد عقلي، وإنما قدرته على المتابعة، أو على درجة المتابعة التي ألزمت بها نفسي لأيام. ومرة أخرى، انتقلت إلى البلكونة، فرجة للعالم، والعالم فرجة لي.

وما هو بدعاء بالضبط. صحيح أنني أخاطب فيه الله، صامتا، لا تتحرك حتى شفتاي، ولكن ليس طلبا للنصر، ولا الثبات، ولا مدد السماء. أقول فقط: يا رب، أريد لأهل غزة، يا رب، أن يستيقظ بعضهم غدا، غدا يا رب، ضجرين، نعم، ضجرين، غاضبين لأنهم أرادوا دقائق إضافية من النوم، أريدهم أن يشربوا قهوتهم أو شايهم، ضجرين، نعم، ضجرين يا رب، وأن يخرجوا إلى الشوارع، ضجرين، ضجرين يا رب، فيجدونها، يجدون الشوارع، لم تنمح معالمها بليل، أريدهم أن يروا الناس، فلا يرون فيهم شهداء محتملين، إنما محض مواطنين يزاحمونهم على الأرصفة، وفي الأتوبيسات، أريد لهم، غدا، غدا يا رب، لا أن يكونوا أبطالا، ولا منتصرين، ولا شهداء، أريد لهم حرية أن يكون بعضهم أنذالا، وبعضهم شرفاء، بعضهم أزواجا خائنين وبعضهم قوامين صوامين، بعضهم أبناء عاقين، وبعضهم جيرانا مزعجين. أريدهم أن يموتوا بالسرطان، وبالحادثة المرورية، وبالجلطة، لا بالقنبلة والغصة ونقص الطعام. أريدهم أن يجربوا تعاسة أن يشيخوا في عزلة وجحود، بدلا من أن تنقصف أعمارهم في شبابهم. أريد لهم غدا، غدا يا رب، حق أن يكرهوا فلسطين أو يضيقوا بها. مثلنا يعني يا رب. نعم، أريد لهم، غدا، غدا يا رب، أن يكونوا عاديين، حتى لو أصبحوا مثلنا في مصر، أو مثلنا في الرباط، أو مثلنا في الخرطوم.

كفاهم يا رب، نالوا أكثر كثيرا من نصيبهم، من الشرف، والنبل، والألم.

 نشر ما سبق في عدد ديسمبر 2023 من مجلة إبداع

Friday, October 30, 2020

قدر الشاعر

قدر الشاعر


بدا لوهلة، فور الإعلان عن فوز الشاعر عماد أبو صالح بجائزة سركون بولص للشعر، أن الدنيا قد انقلبت رأسا على عقب، أعني دنيانا الصغيرة نحن محبي الأدب ومنتجي بعضه. سارع العشرات يتناقلون الخبر وينشرونه على صفحاتهم في مواقع التواصل الاجتماعي فيحصد عند كل من نشره مئات من كلمات التهنئة وتعبيرات المحبة، حتى بدا وكأن طوفانا من القلوب الحمراء يجتاح صفحاتنا جميعا. وطوال ساعات كان ضجيج عظيم، ضجيج فرح صادق ومحبة صافية. وطوال تلك الساعات كان عماد أبو صالح، بأمر من طبيبه، ممنوعا من أن يفتح فمه. صحيح أنه في العادة لا يفتح فمه، ويمسك عن المشاركة في كل ما نشارك فيه، لكن بوسعه هذه المرة بالذات أن يتذرع بأوامر الطبيب. بوسعه القول إنه كان خالعا ضرسه حين فاز بالجائزة. وهكذا، بينما كان أصحاب الشاعر ومحبوه وقراؤه فرحين بهذه الجائزة المفاجئة، كان الشاعر نفسه يعض على قطنة منقوعة في دمه. كان يغلق فمه على جرح. وأحسب أن هذا الوصف العارض صالح دائما، قبل الجائزة العارضة وبعدها، لوصف عماد الذي نهاه الطبيب هذه المرة عن المشاركة في عرس صغير مقام على شرفه، لكنه منهي عن مثل هذه المشاركات جميعا، ودائما، بأمر من نفسه، أو بسلطان لا يملك إلا الامتثال له، سلطانٍ شاء، ولا رادّ لمشيئته، ألا ينطق عماد إلا ليقول شعرا.

لم يقل أحد من مئات المتفاعلين مع الخبر، من الشعراء والقراء والمحبين، المصريين والعرب، "وهل هناك جائزة باسم سركون بولص، أصلا؟". مع أن البعض ـ وأنا منهم ـ كانوا لا يعرفون بوجود جائزة كتلك. لكنها الآن أصبحت موجودة حقا، ومهمة، وجديرة بأن ننتظرها في أواخر أكتوبر من كل عام. وعدا ذلك، عدا ولادة جائزة جديدة للشعر، في زمن لا يكافئ الشعر ولا يكاد يلتفت إليه، عدا ذلك، لم يحدث شيء. فقبل الجائزة، كان ديوان عماد أبو صالح الأول هو "أمور منتهية أصلا" وديوانه الأحدث هو "كان نائما حين قامت الثورة". ولم يزل ذلك هو ديوانه الأول وهذا هو ديوانه الأحدث. وقبلها، كان الرجل يصون عزلته ويحميها، وبعدها لم يزل هذا هو حاله. قبلها، كان له قراؤه ومحبوه وعارفو قدره، وأيضا مبغضوه أو منكروه أو حاسدوه، وبعدها لم يزل له نصيبه من كلا الفريقين. إذن، جوهريا، لم يتغير شيء.

ولا أظن أن شيئا سوف يتغير.

برغم قلة عدد النسخ المطبوعة من دواوينه، كانت هذه الدواوين ولم تزل مقروءة جيدا. قرئت منذ منتصف التسعينيات، حين تداولها الشعراء واستعاروها بعضهم من بعض، واستنسخت منها صور، فلم يصعب قط على مهتم أن يصل إليها. ثم إنها أتيحت جميعا عبر الإنترنت فوصلت إلى من لا يعلم إلا الله عددهم من القراء.

وبرغم ندرة الكتابة عن الشعر، وقلة الاعتناء به، فهذه الدواوين جميعا مكتوب عنها جيدا، من نقاد راسخين، ومن شعراء محبين، وممن يجمعون بين الصفتين، وممن يفتقرون إلى أيٍّ منهما. من الصحفيين ومن القراء. من المغرضين ومن الأبرياء. ثمة حفلة كتابة مقامة دائما على شرف هذه الكتب. لكنها حفلة هادئة أقيمت لتدوم.

كما أن قصائده حاضرة في كل أنطولوجيا أعرفها لقصيدة النثر المصرية، على قلة هذه الأنطولوجيات. وهو قد لا يكون حاضرا بشخصه في مواقع التواصل الاجتماعي المختلفة، لكن صفحات كثيرة تحمل اسمه، فضلا عن قصائد عديدة يتناقلها رواد هذه المواقع ويتداولونها.

مؤكد أن الجائزة سوف تزيد أعمال عماد أبو صالح قراءة، وتزيد اسمه حضورا، ولكن المؤكد بالقدر نفسه أنها لا تستحدث من هذا شيئا لم يكن لديه أصلا.

في بيت كفافيس- الاسكندرية 12 ديسمبر 2018

أيضا، لا أظن أن شيئا سوف يتغير في حياة عماد نفسه. لا أظنه مثلا سوف يشارك في مؤتمرات، حتى ما قد يقام منها لشاعر عزيز عليه. وهل أعز على عماد من كفافيس؟ كفافيس الحاضر في شعره حضور الفاصوليا والدم. كفافيس الذي قرأه في كل ترجمة له، وزار بيته في ورع حاج راسخ الإيمان. كفافيس هذا، نفسه، لم يزحزح عمادا أو يستدرجه للخروج من عزلته، فقصر مشاركته في مؤتمر أقيم أخيرا في الإسكندرية للاحتفاء به على كلمة بعثها وقرئت بالنيابة عنه.

ولا أظنه سوف يصبح عضوا في لجنة، أو يظهر ضيفا على برنامج، أو يحضر بكلمات قليلات في تحقيق صحفي، أو حتى أن يكثر ظهوره في المقاهي التي يختلف إليها ـ وفيها ـ الشعراء والكتاب والمثقفون.

وليت بعض ظنوني يخيب. مؤكد أنني أحب أن أجد مشاركة من عماد في ملف صحفي عن كتاب أو كاتب أو مكان، أو أي شيء مما تعد عنه الملفات. مؤكد أنني أحب هذا لأنني أحب نثر الشعراء، وأحب مثلما أقابلهم في قصائدهم أن أقابلهم خارجها. أحب أن أقرأ نثر عماد مثلما أحب نثر أسامة الدناصوري في "كلبي الحبيب .. كلبي الهرم" ومثلما أحب نثر عبد المنعم رمضان في "الشهيق والزفير" ومثلما أحب نثر صلاح عبد الصبور في كتب كثيرة أقربها إليَّ "حياتي في الشعر" ومثلما أحب نثر تشارلز سيميك في كتبه الكثيرة ومنها في العربية "ذبابة في الحساء" من ترجمة إيمان مرسال و"المسخ يعشق متاهته" من ترجمة تحسين الخطيب. ولماذا أذهب بعيدا وقد ذقت ما يقدر عليه نثر عماد أبو صالح في كتابه الفريد "مهندس العالم"؟

أحب أن يحكي عماد حياته، بعيدا في القرية، ثم في القاهرة، لأنني أعرف أن في حياته وتجربته الإنسانية ما لم يحط به الشعر بعد وما قد لا يحيط به إلا النثر مقالا أو سيرة أو ربما رواية.

أحب أن يكشف نثره عن القارئ البارع مثلما كشف شعره عن الشاعر البارع.

أحب أن تكون له زاوية أسبوعية، في صحيفة أو مجلة أو مدونة. مئتا كلمة فقط يا عماد كل أسبوع، تقدِّم فيها جوهرة من الجواهر التي لا تكف عن العثور عليها حيثما نقَّب غيرك دون أن يخرج بشيء. جوهرة من رواية أو فيلم أو قصيدة. اقتراح ـ كالذي لا تكفُّ عن تقديمه لأصدقائك ـ بقراءة جديدة لكتاب قديم.

أحب أن يصدر عماد مختاراته من الشعر العالمي، فهو من أكثر من عرفتهم دراية بالشعر المترجم، حتى أنني لم أكلمه عن كتاب إلا وقال إنه عنده أو قرأه وذكر لي منه قصيدة أو قصائد كنت أرجع إلى نسختي من الكتاب فأجد أحيانا أنني ميزتها بنجمة حمراء تزيدها إشارته سطوعا.

أحب أن يعرف الناس مثلما أعرف عماد السمِّيع صاحب المكتبة الموسيقية المذهلة، وجامع التسجيلات النادرة للأغنيات والتلاوات والموسيقى من أربعة أركان الأرض.

أحب أن يقدم عماد للناس ملاحظاته الثاقبة، ذات المرجعية الإنسانية والأخلاقية، على المشهد السياسي العالمي الذي يتابعه بدأب نادر، وقسوة على النفس قلَّ ان رأيت لها مثيلا عند أحد.

أحب أن يشارك عماد في مؤتمرات، ويظهر في برامج، ويحضر في وسائط مختلفة، بصوته وبكتابته وبصورته، فتحتفظ به أراشيف أخرى إضافة إلى أرشيف الشعر، وليكون في تلك المصادر جميعا عون لدارسين وباحثين وقراء وشعراء في المستقبل أثق أنهم سوف يكونون في أمس الحاجة إليها وهم يعكفون على شعره يعيدون قراءته ويفهمونه ويفهمون به زمانهم وأنفسهم.

أحب كل هذا وأعرف أنه ـ على الأرجح ـ لن يحدث. لسوء الحظ لن يحدث. ولحسن الحظ لن يحدث.

لن يحدث، لأنني منذ سنين أكلم عماد في أن يكتب سيرته. أكلمه بنبرة المقترح، وبنبرة الراجي، وبنبرة المحذر الخائف من الاندثار على حكايات وتجارب ليس من العدل أن تنتهي بنهاية صاحبها.

لن يحدث، لأنني أعرف إيقاع عماد، وأرى بعيني كيف يقوى على البقاء مخلصا لمشروع شهورا طويلة وسنين، يجمع دقائق المعلومات عنه، لا يحول بينه وبين معلومة يريدها أن تكون مكتوبة بلغة لا يجيدها، أو منشورة في كتاب لا يبدو أن إليه سبيلا، أو في مجلة غير مؤرشفة. أعرف أن هذا الإيقاع يضمن لنا دائما الدقة والعمق، لكنه يحرمنا من الغزارة المرجوة.

لن يحدث، لأن عماد أشبه بجاسوس ضبط مؤشر مذياعه على محطة سرية، وهو جالس في انتظار رسالة، مشكلته الوحيدة أنها رسالة غير محددة الموعد. عليه أن يتأكد كل صباح من ضبط مذياعه، ويجلس بجواره منتظرا، بلا يأس، وبلا أمل. وحين يأتي البث، وقتما يعنّ له، يتحرك القلم في يد الشاعر على الورقة البيضاء، وكلما اكتمل عدد كاف من الرسائل، نشره في كتاب. عماد جاسوس يعمل لحسابنا، يتجسس على عالم آخر ليس لنا من طريق إليه إلا تلك الكتب البيضاء حمراء العناوين. فكيف يمكن أن يغامر ويغيِّر مؤشر المذياع؟ كيف يمكن أن يسمح لنفسه بالتشويش على البث مهما تكن نفاسة ما يضحي به؟

لن يحدث، لأن عماد يعرف بالضبط ما يشعر به السيلولويد في عتمة الكاميرا، ثم في عتمة غرفة التحميض، ثم في عتمة الصندوق داخل المخزن المغلق. يعرف أنه لا ينبغي أن يتعرض للنور، وإلا احترقت الصور. يعرف أن قدره هو أن يرضى بالعتمة لنفسه، ليضمن النور لقصائده.

لن يحدث، لأن عمادا يعرف أنه لا يجب أن يسمح بأي خلل في مقادير مكونات طبخته. يعرف أن إضافة شخص إلى حياته قد ينقص ألمه، أو قد يزيده. والنقصان، كالزيادة، خلل لا يستطيع أن يغامر به. ولأنه يعرف أن خطوة في غير موضعها قد تجعله يضل الطريق نهائيا إلى غرفته، حيث جهاز الاستقبال المضبوط مؤشره بالشعرة. ولأنه يعرف أن نكتة تضحكه من قلبه كفيلة بأن تلهي قلبه هذا عن مهمته كعميل للعالم مزروع في جسد الشاعر. ولأنه يعرف أن وجبة ألذ قليلا مما ينبغي قد تنسي لسانه مذاق الحقيقة الذي شقي حتى عرفه.

لن يحدث، للأسف ولحسن الحظ، أن نبحث باسم عماد أبو صالح في أي أرشيف فنجد ما يلهينا عن قصائده. ربما نجد مقالات جميلة، لكنها في النهاية لن تقودنا إلى غير الشعر. ربما نجد بضع حوارات أجريت معه على مدار قرابة ربع القرن، لكنها لا تغري إلا بالبحث عن الدواوين. وربما، في هذه الأيام العارضة، يعثر الباحث باسم عماد على أخبار الجائزة، لكن بعد أسابيع، وشهور، وبعد سنين، وعقود، سيبحث الناس عن عماد فلا يعثرون إلا على الشعر. وهذا تحديدا ما يعمل من أجله عماد، وهذا ما ينبغي له. وهذا ما نرضى به، على مضض، لأنه كثير، ولأنه ثمين.

نشر  المقال في عدد أخبار الأدب الصادر في الأول من نوفمبر 2020

اقرأ أيضا "معي جمال كافر"

Friday, June 05, 2020

موت مترجم.. ترتيبات الأيام الأخيرة


موت مترجم.. 
ترتيبات الأيام الأخيرة






يعرف أصدقائي، ممن تؤمَن مكاشفتهم بالهواجس والمخاوف فلا يُخشى أن تحل عليهم روح من فرويد، أو يتلبَّسهم شيطان من شياطين التنمية الذاتية فتجري على ألسنتهم آيات الطاقة الإيجابية والسلبية ويسمعونني من محفوظاتهم من كتاب السرِّ ما لا أحتمل .. يعرف هؤلاء أنني أتهيأ لاحتضاري.
أتصور أن يكون في مستشفى، وأن يستمر لأسابيع، أقضيها وسط الميؤوس من قرب شفائهم أو قرب موتهم. لا أتوقع أن تكون لي غرفة مستقلة، لكنني أطمع في سرير منفرد، ولا أتوقع شبَّاكا قريبا، لكنني راض بواحد بعيد في طرف العنبر، وأرجوه أن يكون مطلا على نهر جار أو صحراء ممتدة. لم أفكر من قبل لماذا أريد هذه الإطلالة في آخر المطاف، لكنني الآن أجد السبب واضحا: كلا النهر والصحراء باق، وكلا النهر والصحراء نقي. وما الذي يلزم محتضرا أكثر من طمأنينة البقاء، وطمأنينة النقاء؟ بوسع محتضر أن يأتمن النهر ـ إن شاء ـ أو الصحراء على آخر أنفاسه، وآخر أفكاره، وآخر حسراته، متوهما أن تبقى فيهما ما بقيا. وبوسعه أن يكتفي برفقة ما في أيِّهما من نقاء، بعد طول معاشرته للدنس.
أرجوه أن يكون هادئا، احتضاري. ألا يستبد عليَّ الألم، ألمي وآلام من يجاورونني، فيصرفني إلا عن تأمله، ومحاولة احتماله، والاستسلام له. أرجوه أن يكون لطيف الحضور، إن استحال أن يكون كريم الغياب. فلا نفع في أسابيع من مرافقة الألم لمن يرتب في أيامه الأخيرة رفقة أخرى.
نعم، لتلك ـ أم ترى هذه؟ ـ الأسابيع الأخيرة من حياتي، في ذلك المستشفى المتاخم للصحراء أو المطل على النيل، في المستقبل القريب وإن بعد، أجهِّز الآن رفيق احتضاري.
*

سعيد ذلك الذي ترافقه في لحظاته الأخيرة من رافقته في لحظاته الأولى: أمُّه. سعيد بقدر ما في نفسه من بلادة تعميه عن شقائها هي. سعيد بقدر تعاستها، بقدر حسرتها إذ تراه يأفل ويذبل وينطفئ فيه النور الذي حضرته إذ يوقد.
وما من إنسان آخر أتخيله أرحم بقلب محتضر من أمِّه. لا الزوجة ولا الأخ ولا الولد نفسه. لا أتخيل أحدا من أولئك إلا متململا، يداري من وراء عطف وجهه آلة حاسبة يظهر على شاشتها ـ وإن أعاد إجراء الحسبة مرات ومرات ـ رقمٌ ثابت، هو نصيبه من الإرث أو الدَيْن أو فواتير العلاج أو نفقات ما بعد الوفاة.
لذلك، ليس الرفيق الذي أجهزه لاحتضاري إنسانا.
*
لا أعرف هل لا بد لبقية الناس أن يقطعوا أغلب الرحلة ويصلوا إلى المحطة الأخيرة، أم أن الغشاوة قد تنزاح مبكرا، حتى يروا مثلما رأيت أنا في شرخ شبابي وفي ذروة قدرتي على الائتناس بالناس أن لا رفيق لي بحق غير نفسي، فليس غيرها يصحبني ممتثلا، راضيا، مغامرا مثلي إذ تنزلق قدماي كلَّ ليلة إلى المجهول. ليس غيرها يكون معي بالداخل لحظة أن توصد عيني دون القرباء والبعداء، دون الأحياء والجمادات، دون كل شيء إلا الذي سبق واقتنيته بملء إرادتي، أو الذي سبق ونفذ إليّ مكرها. ليس غير نفسي، ومع ذلك ما هي بالرفيق الأخير الذي أعده لاحتضاري.
إنما رفيق احتضاري كتاب.
*
في القطارات والطائرات، في المطارات ومحطات السكك الحديدية. في الرحلات الطويلة إذ تشق الحافلات صحاري مصر المترامية قاصدة سواحلها النائية. وفي أحب المقاهي إلى نفسي: تلك التي تقدم أردأ المشاريب إعدادا وتقديما وأسقم الطعام مذاقا، وتحفل بأشد الذباب صبرا وأكثره إلحاحا، تلك المقاهي الملقاة على قارعات الطرق بين المدينة والمدينة، لا هي هنا ولا هي هناك، يحيط بها الفراغ والصمت ويملأ جنباتها الانتظار. في تلك الأماكن وعلى متون تلك المركبات، لم أحرص قط على رفقة حرصي على رفقة الروايات، والسير، وكتب التاريخ الخفيفة التي لا تتصارع فيها الحجج والأدلة، أو تفند الوثائق بعضها بعضا، فتطعن إحداها في صدق أختها. في رحلاتي الطويلة ـ والقليلة ـ لم أرافق أطيب رفقة من الحكايات البسيطة، المسلية، المتهادية بسلاسة حتى نهاياتها شأن الحياة كما كان ينبغي ـ لولا سوء حظي ـ أن تكون.
كم أعانتني قصص أليس مونرو الطويلة، وروايات دان براون اللاهثة، وأساطير الإغريق الكرتونية، والحواديت الشعبية البريئة النافذة إلى العمق من كل شيء في كل مكان من العالم، وآداب اليابانيين القديمة والحديثة، وكتب قراء التاريخ لا المؤرخين، كم أعانتني كل تلك الكتب وأمثالها وغيرها على عزل نفسي عن مشاق السفر ووضاعات رفاق السفر: التذمر من المضيفات وتذمر المضيفات، ضيق المراحيض وقذارتها، انخفاض الصوت أو ارتفاعه وشدة سطوع الصورة أو غشاوتها في الفيلم المعروض على الشاشة المعلقة، صياح الأطفال وضحك الأطفال ولعب الأطفال وغناء الأطفال ومجرد وجود الأطفال، وهناك كذلك الابتزاز (وكيف كدت أنسى هذا؟): الابتزاز بالنوع، وبالمرض، وبالإعاقة، وبالسن. ومن أجل ماذا؟ من أجل تبديل مقعد بمقعد! كم واجهتني العيون ـ إذ أسافر وحدي ـ باللوم والاحتقار: كيف ترضى أن تكون سببا في انقطاع الميثاق الغليظ بين زوجين طوال ساعات الرحلة؟ كيف تطمئن نفسك وقد سمحت بالفرقة بين امرأة وأمها؟ بين صديقي عمر؟ كيف قبلت أن أفرد ساقيَّ وفي الطائرة من أولئك من يثنيهما مرغما؟ كيف أنفرد بشباك يريده طفل؟ ...
كل ذلك يكون محيطا بي، منتهكا حدود جسمي، مستهدفا المقعد الذي أشغله فيزيقيا، وأكون أنا في الوقت نفسه مخلوع القلب في غابة معتمة في كندا، فزِع العينين في ليل طريق سريع يدور حول نيويورك، أو صافي النفس على سفح جبل في اليابان تنهمر عليَّ زهور الفاونيا ـ فلا وصول إليّ.
لكن ليس في الأسابيع الأخيرة من حياتي. ففيها، لا نفع لي في عالم بديل. لا نفع لي في عالم أصلا. فيها يتضح كل شيء، تتضح حقيقة اللعبة التي غيبتها كثرةُ التفاصيل، ودِقَّتُها كأن كل واحدة منها مقصودة لذاتها، وتزاحمُها فمعذور كل من لا يرى ما وراءها. في هذه الأسابيع أستعد للخروج. للذهاب بلا رجعة. والحقيبة الوحيدة التي يمكن أن أتزوَّد فيها بشيء لا تعدو عقلي. جسمي نفسه لن يرافقني. للمرة الأولى لن يكون معي. للمرة الأولى لن يكون أنا. ’أنا’ نفسها سوف تعني شيئا آخر لا أحسب أن أحدا يعرفه. ما لي في هذه الأسابيع والعالم، ومن فيه، وما ليس فيه؟ ما لي بحكاياته وآخرُ ما أريده هو إهدار الوقت، وتجاوزه؟ في هذه الأسابيع لن أكون بحاجة إلى شيء احتياجي إلى ما يدلني على النتف النقية في نفسي، يأخذ بيدي إلى نصيبي الذي اقتنصته عبر الرحلة الشاقة من النقاء، يضع إصبعي على ما في نفسي من النهر، وما فيها من الصحراء، إن كان فيها منهما أيُّ شيء.
تلك الأسابيع للجواهر، للخلاصات، للقطرة التي توجز المحيط، لحبة الرمل التي تخفي المجرة.
*
أتصور أن أسمع أزيز تكييف، أو بالأحرى طنين مروحة، همسة ممرضة متمرسة لطبيب في نوبته الليلية الأولى في طرقة المستشفى المعتمة، هذيان محموم، أو شذرات على لسان حالم لا تعني لي شيئا وتعني له ربما كل شيء، أسمع نفير سيارة نقل على طريق بعيد، وربما نعيق غراب يستوي في أذني بتسبيح كروان...
أتصور أن لا أغفل في جنح الليل عن بلاغة، نعم، بلاغة تلك الأصوات التي كم اعتبرتها ناقصة، لأتبين قرب النهاية كمالها، واكتنازها لكل ما كافح من أجل قنصه الفاعلُ والمفعول والفعل وحرف العلة.
أتصور أن أسمع تلك الأصوات المنفردة السابحة في ليل الكون فأعرف ما كان ينبغي أن أعرفه من قبل: أن المعاني الأدق والأعمق والأبقى هي دائما بنت الكثافة والإيجاز، بنت الإيماء والإشارة، بنت لمعة العين لا الخطبة العصماء، بنت الصمت لا اللغو. بنت الوحشة لا السياق.
ربما تنساب ساعتئذ دمعة يقين، دمعة كالتي أقاومها الآن، لولا أنها بلا لوعة. وقد لا تنساب. لكنني أحتال على أرقي، أو ألمي، أو وحشتي، بأن أضغط زرّا قريبا، وفي نور شحيح من مصباح مجهد، أفتح الكتاب الذي لم أنهِ إلى الآن صفحة منه.
*
مغرم أنا بأهوال نهاية العالم.
كنت في مرة أتكلم عن الترجمة، أو الشعر، أو ترجمة الشعر، ووجدتني منساقا إلى الحديث عن نهاية العالم. وعندكم حق؛ ما الذي أعرفه عن نهاية العالم؟
ولكن ما الذي أعرفه أيضا عن الموت والاحتضار؟ وما الذي أعرفه عن الشعر وإن كتبته وقرأته، وعن ترجمة الشعر وإن مارستها على مدار نصف حياتي؟ ليس الكثير.
ما أعرفه عن نهاية العالم إنما أعرفه مما أقرأ في سورة التكوير مثلا، أو سورة الانفطار: إذا السماء انفطرت، وإذا الكواكب انتثرت. وفي سورة الزلزلة: وأخرجت الأرض أثقالها وقال الإنسان "مالها؟" وسورة الحج: يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى. ولكن ليس هذا ما أعنيه بنهاية العالم، نهاية العالم التي أعنيها ليست بهذا الحسم، هي مقصورة على الأرض، فلا السماء تنفطر ولا الكواكب تنتثر، ولا الموءودة تسأل بأي ذنب قتلت. ولا هي حتى نهاية كوكب الأرض. نهاية العالم التي أعنيها هي التي تصورها أفلام هوليود، إذ تنتهي الحياة كما عرفناها ونعرفها، وتكشر الطبيعة عن أنيابها لتثأر مما اقترفناه في حقها جيلا بعد جيل، فترتفع البحار وتصطلي الشمس، ويهلك الناس ملايين بعد ملايين، فلا يكاد يبقى منهم أحد، اللهم إلا عشرات في سفينة حصينة، أو آحاد متناثرون في ما أبقت الأرض من يابسة.
أشاهد تلك الأفلام كلما أتيح أحدها، بمثل لوعة المشاهدة الأولى وفزع المرة الأولى وسؤال المرة الأولى: ماذا لو وجدت نفسي في ذلك المأزق، مأزق الناجين بالطبع لا الهالكين؟
قلت يومها في معرض الحديث عن الشعر على الأرجح لا ترجمة الشعر: بعد نهار من الكدح في التقاط الثمر أو صيد الحيوانات، بعد تأمين الكهف، وتدبير الطريق إلى النهر أو النبع، يحدث أن يجلس الرجل فيسند ظهره إلى صخرة، ويجد أن بطنه امتلأ، وأمنه استتب، وأمره استقام، ولكن شيئا لم يزل ينقصه، شيئا كان يجده بسهولة إذ يضغط أزرار الريموت فيتنقل بين القنوات تصادفه أغنية فيتمهل، أو فيلم فينظر في أمره. ينقصه شيء يذكِّره بإنسانيته، بأن حاجاته تزيد قليلا عن حاجات الأرنب المهضوم في بطنه. ينقصه فن.
وحيدا كما هو، مفتقرا إلى آخر يكوِّن معه فريقا، أو يتخذ منه جمهورا، بلا آلة إلا جسمه، يتمتم الرجل لنفسه، محيلا لغته المبتذلة إلى قصيدة. ما من فن آخر يمكن أن ينتجه الإنسان بلا عون من شيء أو من أحد. وتأملوا اسمها: قصيدة. تأملوا ما حاولت اللغة العربية أن تنبهنا إليه حين اشتقت اسم القصيدة من القصد: أنها القصد من نفسها.
مؤكد أن الاصطلاح أقوى من الاشتقاق، وأنه الألصق بكل كلمة، ولكن ما حيلتي حينما أنظر في كلمتين كـ"القصة" و"الرواية" فأرى أن اشتقاق كل منهما يشير إلى غاية لها خارجها، فالقصة لا تكون قصة بدون من تُقَصُّ عليه والرواية ليست رواية ما لم تُرْوَ على أحد. أين هذا من القصيدة التي تنطق حروف لفظها بغناها إلا عن نفسها، وتقطع بأنها القصد من نفسها، فلا غاية لها إلاها.
بلا آلة إذن إلا لسانه، وبلا جمهور إلا نفسه، وبلا خامة إلا وعيه وشعوره ولغته، ينتج الإنسان لنفسه الفن بعد نهاية العالم، أو على مقربة من نهاية الحياة.
*
ليس في الكتاب المرجوة رفقته في أسابيع آخر العمر شعر لي. لست على هذه الدرجة من النرجسية، أو بالأحرى، هذه الدرجة من النرجسية مضى عهدها، وبحلول أيام الاحتضار سيكون قد مضى على مضيها نفسه عهد آخر.
حدث قبل عقدين تقريبا أن أنهيت فجأة سهرة مع أصدقاء. كانوا في بيتي، أو هي غرفتي في طابق علوي من بيت أبي، وصرفتهم جميعا لأنفرد بنفسي. كان أحدهم، قبل ذلك، قد أخرج سيجارة حشيش من مخبئها في ثيابه، وجربته للمرة الأولى في حياتي. وبدأ خفقان قلبي يتسارع، ووجهي يمتقع، وزادني قلق أصدقائي عليَّ قلقا على نفسي. كيف أنزل إلى أبي وأمي فأقول إني أوشك على الموت، كيف أفسر سبب موتي الوشيك؟ صرفت أصدقائي مرغمين، وتناولت مرآة صغيرة كنت أعلقها على جدار غرفتي، واستلقيت في سريري منتظرا الموت، مقررا أن أقضي آخر لحظات حياتي ناظرا إلى الوجه الوحيد الذي يستحق أن يكون آخر ما أراه من العالم: وجهي.
لكن ليس الآن، وليس في آخر العمر. لم يبق من سبب وجيه لهذا الاعتزاز بالنفس. الآن قرأت من الشعر ما يكفي لأعرف قدر ما كتبت، وغاية ما قد أكتب. وأهم من ذلك، أنني لن أحب وأنا أتهيأ للخروج أن أعيد قراءة ما سبق وكتبته. تكفيني حسرات أخرى، وأسباب أدعى للندم على ما فات.
*
قررت مبكرا، وقد علمت أن وجودي مرتبط بالشعر، وأن اتزاني على هذه الأرض مرهون به، ورضاي عن نفسي في يده لا في يدي، ومعرفتي الحقيقية بأي شيء لا تتم إلا من طريقه وتوسلا به، أن أقصر عملي في الترجمة على ترجمة الشعر دون غيره.
علمت بعد ذلك أن إزرا باوند نصح شاعرا أمريكيا ـ سيصبح شاعرا أساسيا في ما يلي ذلك من عقود ـ بمثل ما نصحت به نفسي. قال له وقد رأى غضاضة سنواته الثماني عشرة: عليك إن شئت أن تكون شاعرا حقا أن تكتب كل يوم، وحدَّد له ـ على طريقة باوند في وضع القواعد لكل شيء ـ عدد الأبيات التي لا بد أن يكتبها كل يوم، ولأنك بتجربتك المحدودة لن تجد ما تكتب عنه كل يوم، فعليك أن تتعلم لغة وتترجم شعرا كل يوم. كانت نصيحة ظاهرها الحفاظ على لياقة مفاصل الأصابع (بتعبير راسل إدسن)، وباطنها الحياة في الشعر (بتعبير صلاح عبدالصبور).
هكذا بدأت اهتمامي بالترجمة بثلاثة كتب شعرية، أولها، بجرأة المبتدئين الوقحة والضرورية، أنطولوجيا من شعر الأمريكيين الأفارقة، ومن رحم ذلك الكتاب ولد كتابي الثاني فكان مختارات من قصائد الشاعرة الأمريكية الأفريقية ليوسيل كليفتن، ثم إنه بدا لي أني أوشك أن أحبس نفسي في عالم الشعراء الأمريكيين الأفارقة، بينما الشعر الأمريكي بحره واسع، فترجمت ديوان "فندق الأرق" لتشارلز سيميك مع مختارات من دواوينه الأولى، وقادني سيميك إلى جيله كله، وإلى شعراء ترجم هو بعض أعمالهم، أو كتب عنهم بعضا من نثره الرائع، وأتيح لي في ذلك الوقت تقريبا اتصال يسير ومجاني بالإنترنت في عهد كان الاتصال به يشترى بالدقيقة، ومن خلال الإنترنت انفتح لي عالم قصيدة النثر الأمريكية، فمضيت تسلمني المواقع أحدها إلى الآخر، والشعراء إلى الشعراء، والمجلات إلى مزيد من الاكتشافات كل يوم، ثم حدث للأسف أن نجوت من الغرق.
وسط دوامة الترجمة الصحفية لكسب العيش، وترجمة الروايات لأن القراء والناشرين وكل ذي علاقة بإنتاج الكتاب أجمعوا فجأة على أن الأدب هو الروايات، لم يبق من منفذ لنشر الشعر ـ ناهيكم عن الشعر المترجم ـ إلا مواقع الإنترنت وما فضل من مجلات العصر الغابر وما يظهر بين الحين والحين من ناشرين يستغلون عطش الشعراء وقراء الشعر إلى الجديد فيستنزفون لوهلة أموالهم قبل أن ينتقلوا إلى نشر الروايات أو ما هو أسوأ. وبرغم ذلك، أمكنني أن أترجم مختارات من الأمريكي بيلي كولينز، صدرت بعنوان "رجل القمر" عن هيئة قصور الثقافة في مصر، ثم ديوان "العالم لا ينتهي" لسيميك، وصدر عن الهيئة نفسها، ثم مختارات من عبقري قصيدة النثر الأمريكي الراحل راسل إدسن صدرت عن الكتب خان بعنوان "كلنا نولد مصابين بالغثيان"، وفي مثل أهمية تلك الكتب، وربما أكثر، أني قضيت سنين متفرقة منغمسا في كتابة برنامج يومي لإذاعة سلطنة عمان حمل اسم "أصوات من هناك"، ومن خلاله كنت أترجم كل يوم قصيدة وأكتب عنها. كان شريكي بصوته في ذلك البرنامج ـ أعني صديقي سليمان المعمري ـ يقاوم غرامي بالشعر الأمريكي، فلا يمر يوم إلا ويذكرني بضرورة أن أوسع نطاق اهتمامي ليشمل شعراء لغات أخرى غير الإنجليزية، وبلاد أخرى غير الولايات المتحدة. هكذا طفت العالم جغرافيا وتاريخيا باحثا عن قصيدة أكلم من خلالها مستمعا مجهولا، فلا أكلمه عن الشعر، أو الشاعر، أو القصيدة، ناهيكم عن البيوطيقا، بقدر ما أكلمه عن نفسه، عن حياته، عن الأبواب التي يغلقها، لم لا يجرب أن يفتحها؟، والشبابيك التي يمنع بها الريح، لم لا يطل منها؟، والمرايا، لم لا يجرب أن يرى فيها غير نفسه؟، وعن كل الأشياء في حياته، كيف لا يفطن إلى أنها مرايا تعمل بطرق أخرى؟ وكيف لا يرى فيها أنفسا له كان يمكن أن تكون؟
كنت أتصور أني أكلم أمَّهات يخرطن البصل في المطابخ، وسائقي سيارات أجرة يجادلون الركاب، وركابا يسابقون الزمن يريدون اللحاق بما لا قيمة له، كنت أتصور شيوخا في شرفات بيوت قديمة في قرى بعيدة، أو أطفالا يخربون أرواحهم بالأناشيد والمحفوظات. كنت أتخيل مستمعا يشيع بين الأدباء وصفه بـ"العادي"، فيقولون "القارئ العادي"، وكم فرحت حينما صادفت وصفا له في مقالة ترجمتها ذات يوم فتشبثت به: "القارئ العام". صرت أبحث عن قصيدة يمكن أن أفتح بها الكلام مع ذلك القارئ العام، ذلك الإنسان غير المدرب على ألاعيب الشعراء، غير المجهز وهو يسمع القصيدة بما يعينه على الرجوع إلى قاموس للميثولوجيا، أو معجم للمهجور من الكلام، أو موسوعة للأعلام. واكتشفت بمرور الوقت أنني أنا القارئ العام، أنا القارئ الفقير إلى هذا الحنان، القارئ الذي لا يستقيم له يومه إلا بقصيدة خافتة، دافئة، دُفع كاتبها إلى كتابتها دفعا، فلم تكن له غاية إلا أن يقولها، يقولها ويستريح.
في جهاز الكمبيوتر الذي أكتب عليه الآن هذه الكلمات ملف يحمل اسم "أصوات من هناك"، في هذا الملف قرابة نصف مليون كلمة من الشعر والكلام عن الشعر. وإذن فيه لغو كثير، وفيه ولا شك درر.
لا أعرف، بدقة، كم ترجمت من الشعر. ما نشر في الكتب يسهل إحصاؤه، وما ترجم لأصوات من هناك قابل بشيء من الجهد للحصر، ولكن هناك ما ترجم لصحف في مصر وفي عمان وفي غيرهما، وما ترجم لمواقع إنترنت بادت، وما ترجمته لمدونتي، ومدونات أخرى لي فقدت أثرها تقريبا، وما ترجمته للاستعمال الشخصي المؤقت، ذلك أن ليالي تمر عليّ بين الحين والآخر، يضيق فيها العالم أمام عيني ويوصد أبوابه في وجهي، بلا ذنب معروف أو سبب واضح. يصبح الحديث إلى الناس عسيرا، والحديث إلى الذات رعبا، والصمت جنوحا إلى المجهول، والصحو عبئا، والنوم مغامرة مريعة بمقابلة آخر من أقوى على مقابلته: أنا.
في تلك الليالي، ألوذ بموقع مؤسسة الشعر الأمريكية.
في شيكاغو ذات يوم من خريف عام 2014 زرت مبنى تلك المؤسسة، زرته وحدي، دون أصدقاء وزملاء كنت معهم في برنامج جامعة أيوا الدولي للكتابة الإبداعية، ثم زرته معهم. وفي المرتين، وقفت في بهو على الأرض، أمام جدار هائل بارتفاع طابقين، فيه عشرات آلاف دواوين الشعر. لا شيء غير الشعر. وفرة تشلك فلا تمتد يدك إلى كتاب. حسبك أن تقترب بعينيك، فترى مثلا مَن مِن العرب هنا، وبأي لغة؟ أو ترى أي الشعراء صاروا جيرانا في هذه المقبرة البهية بقوة الترتيب الهجائي؟ لا مجال أمام هذه الوفرة إلا للفرجة. لكنني قبل تلك الزيارة، وبعدها، زرت آلاف المرات موقع مؤسسة الشعر الأمريكية على الإنترنت، حيث عشرات الآلاف من القصائد أيضا.
أجرب في هذه الزيارات حظي. لا أذهب إلى شاعر أعرفه أو قرأت له. ففي ليال كهذه التي أصفها لا يكون البحث عن شاعر، إنما عن قصيدة، عن سطر، عن شذرة، عن قشة تظهر فجأة لتتشبث بها أصابعي. وأترجم هذه الشذرات، ففي أحايين أنثرها على صفحتي في فيسبوك، وفي الغالب تبقى في ملفات على الكمبيوتر، وقد أبعثها في بعض الحالات لنفسي في رسائل عبر الإيميل. وقد أترجمها على ورق مقصوص يتناثر بعد ذلك في أدراج وصناديق وبين صفحات كتب. في تلك الليالي، أظل أترجم حتى أمتلئ، أو أفرغ، أو ربما حتى أنسى ما الذي ألجأني أول الأمر إلى الترجمة. وسكرانَ ينتهي ليلي.
وأحيانا لا أقصد مؤسسة الشعر بل جوجول. أطلب منه قصائد كتبها أطفال، أو مراهقون. قصائد كتبتها الصدفة. قصائد كتبت على فراش الموت. في السجن. قصائد مجانين. قصائد مجهولين. قصائد بحارة. قصائد شعبية. قصائد دينية. قصائد حب. أجمل قصائد الحب. أجمل عشرة قصائد حب، في الشعر الأمريكي، في الشعر الفرنسي. وأقرأ، في ترجمات رديئة، أو مثالية. في مواقع موثوق فيها، وفي مدونات مجهولة الأصحاب. أقرأ بدون أن يعنيني التأصيل لما أقرأ، أقرأ مثلما يليق بقارئ عادي، نعم عادي، أستطيع أن أصف بها نفسي دون غيري. أقرأ مثلما يقرأ إنسان. أقرأ لا أريد مما أقرؤه أن يكون جزءا من محاضرة، أو كتاب، أو مباهاة، أو افتعال. أقرأ كمن يبحث عن هواء يملأ به صدره. أقرأ كمن يأكل في آخر زاده. أقرأ كمن يعيش أبدا، وكمن يموت غدا.
قلت لا أعرف كم ترجمت من الشعر. وأقول لا سبيل لأن أعرف.
*
أفكر أن أتعلم لغة برايل. نعم. أخشى أن شيخوختي تتآمر علي، وتجهز لي الفخ الأخير:
يأتيني صوت مذياع بعيد، أو لعله مدفون تحت وسادة مريض في العنبر، أو لعله وراء رأسي بالضبط لا يفصلني عنه غير جدار. يحدث ذلك في الساعة الثالثة صباحا، من يوم ما، في سنة لا أعرفها، قادمة. لا يبدو أن هذه هي الليلة الأخيرة. والكتاب معي، الكتاب الذي أعددته في كهولتي لاحتضاري، كتاب القصائد، كتاب الشذرات والأبيات، أمسكه بيدي ولكن لا سبيل لأن أقرأه وقد كلَّ البصر. لا سبيل لأن أسمع أحدا يقرأه علي وقد ثقل السمع. لا سبيل للاحتياط لهذا الفخ الذي تجهزه نفسي لنفسي إلا بأن أتعلم طريقة برايل. وتتحرك أصابعي على الورق الأبيض، فإذا الكلمات تسري في ذراعي إلى قلبي، وإذا بعيني المطفأتين تلمعان لمعة لا يراها أحد، وإذا بابتسامة رهيفة ترتسم على شفتي في عنبر لا يبتسم فيه غيري، إلا ساخرا.
*
لم أستقر بعد على عنوان للأنطولجيا.
لم أستقر بعد على القصائد التي ستندرج في الأنطولوجيا.
لا يزال أمامي عمل كثير، لكن ماذا عن الوقت؟
وأين أتعلم القراءة بطريقة برايل؟
وماذا لو أن مؤامرة شيخوختي لا تقتصر على البصر والسمع؟
لا أظن أحدا قبلي نجا من مؤامرة شيخوخته عليه. الكل يقع في الفخ. لا تشفع لأحد شطارته، ولا تنجيه ترتيبات مسبقة. ماذا لو أن مؤامرة شيخوختي لا تقتصر على البصر والسمع؟ ماذا لو أنها تنال من الأصابع نفسها؟ بل ماذا لو أنها تركت لي عيني وأذني وأطرافي، واستولت على عقلي؟ أقصد: ماذا لو أن في مؤامرتي على نفسي متسعا لألزهايمر؟ ألم أشته يوما ألزهايمر هذا؟ ألم أقل يوما إنه حل أخير بعد أن يثبت فشل بقية الحلول؟ ألم أقل إنه مقام لا مرض؟ ما يدريني أن الأماني لا تتحقق؟
أتصور أنه ما من سبيل للاحتياط، وما من خطة يضمن اتباعها احتضارا واعيا، هادئا، يمضي فيه المرء يهدهده موج الشعر الرقراق إلى حيث السكون الأخير.
ربما ليس عليَّ إلا أن أواصل ما بدأته، أبحث عن الشعر لا الشعراء، أترجم منه كلما استطعت، وكلما اضطررت، شاحنا به نفسي، واضعا منه في روحي ما تحتمله روحي، وما تحتاج إليه روحي. وما تطمئن به روحي وسط الفزع الساري والجنون المستعر.
ربما عليَّ أن أتشبث بالأمل في أنه مثلما يشق الماء أخاديد في كعبي الفلاح كالتي يشقها في الأرض، يشق الشعر أخاديد في نفسي، وتترك هذه العلاقة اليومية مع الشعر وترجمة الشعر بصمات على أجزاء من روحي لا علم لي بها، وفي أنني ذات ليلة، قادمة، على سرير في المستشفى، سوف أصادف بينما أجوب غابات نفسي المظلمة زهورا ساطعة في الأركان، لا أعرف من زرعها، ولا يعنيني، لكنني في جوارها أجلس، وبرفقتها أنتظر.



كتبت لمجلة الثقافة الجديدة ونشرت فيفها في عدد يونيو 2020
الصور الشخصية المرفقة بالمقال التقطت داخل مؤسسة الشعر الأمريكية سنة 2014

Monday, January 20, 2020

إنّ من الحجارة لما يتفجّر منه الأنهار


إنّ من الحجارة لما يتفجّر منه الأنهار


في فيلم "مدينة الملائكة" يتخلّى الملاك (نيكولاس كيدج) عن خلوده من أجل امرأة أحبّها (ميج رايان)، أو بالأحرى "وقع في غرامها" فقد كان الحصول على جسد بشري يقتضي من الملاك أن يقع من حالق. لكن قبل تحوّل الملاك، يجري حوار بينه وبين الطبيبة، يسألها فيه عن "الدموع": ما الدموع؟ ولماذا يبكي إنسان؟ تجيبه الطبيبة، بالعلم، شارحة عمل القنوات الدّمعية، ورسائل المخّ إليها إثر التّعرض لمؤثّر خارجيّ، فتطلق ذلك السّائل الملحيّ المعروف بالدّموع.
غير مقتنع يقول الملاك: لعلّ المشاعر تحتدم في الإنسان، حتى ليعجز جسمه عن احتوائها، فتنطفر منه دموعا.
شخصياً، يكفيني هذا التّفسير للدّموع. يكفيني فهمها، لا تعبيراً "عن" المشاعر، بل تجسيداً لها. يكفيني رفع ذلك الظّلم التّاريخي، إذ يعترف أخيراً بأنّ الدّموع هي المشاعر وقد تجسدت، هي المشاعر وقد صارت ملموسةً، ذات قوام ومذاق وسخونة.
***

معروف أنّ أوّل ما نقدمه للحياة من أنفسنا هو البكاء، والبكاء صوت ودموع. أما الصّوت فنتعلّم ترويضه، بتقطيعه وتقسيمه وترتيبه في سلاسل من كلمات وجُمل محددة المعنى، ومنا من يستطيع أن يحيل خامة الكلام الأصليّة تلك إلى أبيات وقصائد. وماذا عن الدّموع؟ هذه نكبتها أغلب الوقت في صورتها الخفية، مشاعرَ لا يطّلع عليها أحد، إلا حين تغلبنا بين الحين والآخر فتطفر بوضوح منحدرة على الخدود، أو في شبه وضوح فهي حشرجة تعتري الصّوت، أو غشاوة على العينين، أو خلجة في الوجه. أو رعشة. أو سكتة.
***

لو أنّني رتّبت الفنون بناء على قدرتها على إثارة البكاء لديّ، من الأعلى إلى الأدنى، فلن يتصدرها الشِّعر، أو الأدب. ستأتي الدّراما في المقام الأوّل سواء في صورتها السّينمائيّة أم المسرحيّة أم التلفزيونيّة، وتليها الموسيقى، ثمّ قد تأتي الرّواية، وأخيراً الشِّعر. مع أنني على يقين أن الشِّعر كان جديراً بالمرتبة العليا، لولا البلادة التي أصابتنا بها الفنون الأخرى.

في فيلم مثل تايتانيك الذي أبكى جيلي كلّه قبل ربع قرن تقريباً، يظلّ المشاهد قرابة السّاعتين يجهَّز للبكاء. يشهد قصّة حبّ منذ مولدها أمام ناظريه، وسط جمال البحر والموسيقى والتّرف، إلى موتها إذ تغضب الطّبيعة وتكسر أنف الكبرياء البشريّ. وفقط حينما نرى وجه العاشق تسري فيه زرقة الموت وبرودته، وجسمه إذ يهبط مبتعداً رويداً رويداً عن الحبيبة والحياة معا، يؤذن للدموع أن تنساب.

استلزم البكاء إذن ميزانية شديدة الضّخامة، لا يمكن أن تتوافر لشاعر. استلزم البكاء موسيقى أوركستراليّة، وديكورات مبهرة، وفريق عمل مؤلفاً من المئات. فأنّى لشاعر مثل هذا، وأنّى لقصيدة مثله وليس في جعبتها إلا المعالجة الأولى للخامة الشّعوريّة الإنسانيّة: الكلمات، الكلمات فقط.
أثقّ أن أجيالاً أسبق من البشر كان يبكيها الشِّعر. قبل أن تصيبنا الفنون الأخرى بالبلادة، وقسوة القلوب. ولا أعني بالبكاء هنا انسياب الدّموع على الخدود، بل أعني به التّهذيب والتربّية وتذكير النّاس بجوهر إنسانيتهم.

ربّما لا يطفر الدّمع من عينيّ وأنا أقرأ الشِّعر. وإن طفر فليس بمثل ما يحدث لي في السّينما وفي المسرح وفي الأوبرا. ولكنّي سبق وقلت إنّ البكاء أشكاله كثيرة. تحشرُج الصّوت بكاء (ومن قصائدي ما لا أقوى على قراءته في ندوة لأنّني حينما جرّبت ذلك لم أجد صوتي)، قشعريرة الجلد بكاء، غشاوة العينين بكاء، ارتعاشة الوجنة بكاء، سريان البرودة في الظّهر بكاء. وذلك كلّه يفعله بي الشِّعر. تفعله قصائد وأبيات أحفظها، ومن عجب أنّها تتباين أشدّ التّباين.
***
ما الذي يبكيني في قصيدة "أغنية إلى فيينا" لصلاح عبد الصبور؟ تراه دأب الشّاعر في رسم تفاصيل ما بين الحبيبين: كلّ لمسة وكلّ شهقة وكلّ خفقة قلب، رسمه تعبّد العاشق بعينيه وبشفتيه وبلسانه؟ أيبكيني علمي وأنا أتتبّع دقائق هذه الليلة أنّها حتماً إلى نهاية؟ أم يبكيني سؤال الحبيبة للحبيب وهما في الشّارع يطويهما تيار الباحثين عن الخبز والمؤونة: "من أنت"؟
ألم يكن كلّ ذلك الحب كافياً لتعرّفه؟ ألا أمل إذن في الحبّ، حتى الحبّ؟ أذلك ما يبكيني، أم أنّها رأت وجهه المخصّص للشّارع فأنكرته، ولم تعرف أيّ الوجهين هو الكاذب، الذي بذلت له نفسها قبل دقائق، أم الذي تراه في الشّارع؟ أم ترى يُبكيني علمي أنّ كلا الوجهين صادق، وكلاهما لا دوام له، فصادق وزائل وجه العاشق النّاسك الصّوفي عديم البدن، وصادق وزائل وجه الغافل السّائر جنب حبيبته كأنّها امرأة من جملة النّساء؟ وأنّه لا أمل في الارتقاء إلى درجة الإخلاص التي تجعل وجه الخفاء هو وجه العلن، وإلا لصافحتنا الملائكة في الطّرقات يا حنظلة؟ وليت المقام متّسع فأحكي لكم حكاية حنظلة.
***

لما دخلنا في مواكب البشر
المسرعين الخطو نحو الخبز والمئونة
المسرعين الخطو نحو الموت
...
وحين شارفنا ذرى الميدان غمغمتْ بدون صوت
كأنّها تسألني .. من أنت؟
***


تبكيني "الظل والصّليب" ـ لصلاح عبد الصبور أيضاً. يبكيني يقين بأنّي يوماً سوف أفتح يدي فلا أجدها قبضت على شيء:
أنا رجعت من بحار الفكر دون فكر
قابلني الفكر، ولكني رجعت دون فكر
أنا رجعت من بحار الموت دون موت
حين أتاني الموت، لم يجد لديّ ما يُميته،
وعدت دون موت
أنا الذي أحيا بلا أبعاد
أنا الذي أحيا بلا آماد
أنا الذي أحيا بلا ظلٍّ .. ولا صليب
***

يبكيني أمل دنقل حين يقولها ببساطة لكلّ من ينظر إلى أعلى رأسه أو إلى أسفل قدميه:
رسائلي للشّمس
تعود دون أن تُمسّ
رسائلي للأرض
تردُّ دون أن تُفضّ

وفي "كلمات سبارتاكوس الأخيرة":
يا قاتلي إنّي صفحت عنك
في اللحظة التي استرحتَ بعدها منّي
استرحتُ منك

يبكيني إذ يصفح، ويبكيني إذ يريني إلى أيِّ ذرى قد يصل نبل الإنسان، الإنسان الذي لم أصر إيّاه برغم كلّ محاولات الشِّعر معي على مدار سنين:
أوصيك إن تشأ شنق الجميع
أن ترحم الشّجر
لا تقطع الجذوع كي تنصبها مشانق
لا تقطع الجذوع
فربما يأتي الرّبيع
***

يبكيني ابن نوح ـ في قصيدة أمل أيضاً ـ حينما يقال له:
انجُ من بلد لم تعد فيه روح
فيكون رده:
قلت طوبى لمن طعموا خبزه في الزّمان الحسن
وأداروا له ظهره يوم المحن.
ولنا المجد نحن الذين وقفنا
وقد طمس الله أسماءنا
نتحدى الدّمار

يبكيني أنّنا كلّنا أبناء نوح، في وطن يغرق، لا نقدر أن نمدّ له يداً تنجيه، ولا أن ننجو بأنفسنا، نشاهد في غرقنا غرقه، ونعرف أنّ غرقه غرقنا، ولا عزاء لنا إلا الذي كان لابن نوح:
كان قلبي الذي نسجته الجروح
كان قلبي الذي لعنته الشروح
يرقد الآن فوق بقايا المدينة
وردة من عطن
هادئاً
بعد أن قال لا للسّفينة
وأحب الوطن.
***

وتبكيني الأم فسوافا شمبورسكا:
"ما اسمك يا امرأة؟" "لا أعرف"
"كم عمرك؟ من أين أنت؟" "لا أعرف"
"لماذا حفرت هذا المخبأ" "لا أعرف"
"منذ متى وأنت مختفية هنا؟" "لا أعرف"
"لماذا عضضتِ إصبعي؟" "لا أعرف"
"ألا تعرفين أنّنا لن نمسسك بأذى؟" "لا أعرف"
"في أيّ جانب أنت؟" "لا أعرف"
"هذه حرب، وعليك أن تختاري" "لا أعرف"
"هل لا تزال قريتك موجودة؟" "لا أعرف"
"هل هؤلاء أبناؤك؟" "نعم"

كم هي حاسمة هذه النّعم. كأنّها شهقة. كأنّها صحوة. كأنّها صليل خنجر يُشهر. كأنّها أظافر وأنياب في وجه خطر. كأنّها الأمومة كلّها في ثلاثة حروف وجيزة. كيف لا تبكيني هذه النّعم؟ كيف لا يبكيني الشِّعر حين يحوّل إحدى أكثر الكلمات استعمالاً وابتذالاً واستهلاكاً إلى جوهرة، ماسّة لا تقْدم ولا تبلى.
***

وتبكيني الشّاعرة الأمريكيّة الأفريقيّة مارجريت دانر:
هذه دودة أفريقيّة،
إلا أنّ الدّودة أينما تكون من الأرض
هي دودة ليس أكثر.

لن تسير بخطى واسعةٍ
ولن تجري
ولن تقف أمام فراشاتٍ
تجاوزت طورها الدّودي.

لا بدّ أن تظلّ واطئةً، لا ترتفع لها رأس.
أنا خضت هذه التّجربة البشعة
وأعرف.
لا يمكن لدودة إلا أن تزحف...

تزحف وتنتظر.
***

كثيرة كثيرة كثيرة القصائد، والشذرات، والهايكوات، والآيات التي إذا ذكرت وجل لذكرها القلب، وتواضع، وخشع، وعرف أنه صغير لا قوّة له إلا في نبله وإنسانيته.
يبكيني الشِّعر حين لا يلهيه طلب الجمال والإبهار، عن سبر حقيقة الإنسان والوجود. يبكيني الشِّعر الذي لا يريد من القارئ إعجابه وانفغار فمه، بل يقصد روحه وعقله. يبكيني الشِّعر حينما يقسو، بدون أن يسيل دماً. حينما يرقِّيك بالألم، وينضجك بالرّؤية. حينما يعضّك عضّة الجمال فلا تعرف أهي آهة وجع تفلت منك أم آهة طرب. يبكيني الشّعر حينما يكون تربيتة على الكتف، فيها التّنبيه بقدر ما فيها من الحنان.

يبكيني وإن لم يُجرِ دموعاً حيث تجري الدّموع لتغسل العين وتبلّل الوجه. يبكيني، ويجري الدّموع لكن حيث ينبغي أن تجري، في الخفاء، في أحراش النّفس المظلمة، فتزول بجريانها أوساخ نعرفها ولا نراها، وتلين أنفس هي - لولا الشّعر - كالحجارة، أو أشدّ قسوة.

قصيدتا شمبورسكا ومارجريت دانر من ترجمتي.

نشرت هذه المادة في صحيفة العربي، في يناير 2020، تحت عنوان "كيف لا يبكيني الشعر" ضمن زاوية "والشعر إذا أبكى" التي يشرف عليها الشاعر المصري عماد فؤاد

* تحديث
أعيد نشر المقالة في العدد العشرين من صحيفة الحداثة  اليومية السودانية في 21 يناير 2020