يحدث لي كثيرا، حين أقف أمام رف في مكتبة مستغرقا في استعراض كعوب الكتب، أو متصفحا أحدها، أو حين أقف أمام رف في أحد الأسواق متصفحا تواريخ بداية الصلاحية ونهايتها، وبالجملة، يحدث لي كثيرا كلما أوليت العالم ظهري، وتلهيت عنه بما بيني وبين الحائط، أن أفيق على هاجس يجعلني ألتفت خلفي لبرهة، قبل أن أعود من جديد إلى ما كنت فيه، هاجس بأن أحدهم سوف يطعنني من الخلف، فينتهي هكذا وجودي، دون أن أعرف من، ودون أن أعرف لماذا؟
بارانويا؟ ليكن.
وأقرأ عن شاب اسمه مالونكيابوتا، ولندلله بـ مالو. قرر مالوا أنه لن يسكت أكثر مما سكت، وأنه ذاهب لا محالة إلى صاحب الغبطة، أستاذه ومرشده، المغفور له بوذا، وسيسأله: أستاذ بوذا، هل العالم خالد؟ أم أنه غير خالد؟ هل له نهاية أم لا نهاية له؟ والنفس يا أستاذ، أهي الجسد، أم شيء في الجسد؟ وهل للنفس حياة بعد موت الجسد؟ سيسأله إن كان يعرف هذه الأمور ولا يخوض فيها، وفي هذه الحالة لماذا؟ أم أنه لا يعرف شيئا عن هذه الأمور، ويخجل أن يقر بجهله، فيتظاهر أنه لا يخوض فيها لعلة أخرى غيرالجهل؟
وإذا ببوذا يقول: الأمر يا مالو (وكان بوذا مغرما بتدليل ذوي الأسماء الصعبة) مثل شخص أصابه سهم مسموم فهرع أهله إليه بجراح. ولكن الجريح قال: لن أدع أحدا ينزع السهم ما لم أعرف من الذي أطلقه، ولماذا، ومن أي طبقة اجتماعية أو دينية هو، ومن أي قرية أو مدينة، وطويل أم قصير، ومن أي قوس أطلق سهمه، ومن أي مادة صنع وتر قوسه، ومن أي ريشة صنع سهمه، وقبل أن يعرف جواب سؤال من أسئلته، مات.
ويستخلص بوذا من الحكاية درسا يعلمه لسائله: هو أن السعادة ممكنة دون التفتيش في أدراج الميتافيزيقا المتعبة. وكان يمكن للأستاذ أن يستخلص درسا آخر: هو أن السهم نفذ، عرفنا الذي أطلقه أم لم نعرفه، وأن السهم نفذ، أطلقه أحد أم لم يطلقه، وأن الحكم بالإعدام مدون في الدفاتر منذ انعقاد الجلسة الأولى، وأن إخطارنا به تم.
وكان يمكن للأستذا أن يستخلص درسا آخر: وهو أن المحيط الممتد أمامنا، أو الصحراء، أو الغابة، أو المستقبل، وأن القضية التي تستولي علينا، أو المعرفة أو الثروة أو الحب، أن كل تلك الأشياء هي أقنعة شتى لحائط واحد، وأننا مجرد مشغولين بتأمل تاريخ بداية الصلاحية ونهايتها، متلهين بمنظر المحيط أو الغابة، منهمكين في التخطيط للمستقبل، وليس كل هذا في انتظار أن تأتي الطعنة، بل في انتظار انسراب السم حتى آخر الشرايين، فالسهم، ببساطة، نفذ.
ثم إن بوذا كان ينبغي أن يكون أكثر تهذيبا، ففي ترجمة يوسف شلب الشام لكتاب "بوذا" لـ والبولا راهولا، نراه يقول لمالو "يا أحمق" لمجرد أن الأخير يريد أن يتسلى بالميتافيزيقا.