كنت مثل كثيرين ينظرون بتوجس إلى الترجمات التي تتم عن غير لغة
"الأصل"، أو ما يعرف بالترجمة عن لغة وسيطة. وكنت مع ذلك
"أضطر" إلى ممارستها لأسباب شتى، ليس أقلها أهمية أن يفرض نص ما نفسه
عليّ لأهميته أو لجماله أو لمجرد الرغبة الإنسانية البسيطة في إشراك آخرين في
المتعة. كنت أتوجس من هذا النوع من الترجمة، لمعرفتي أن كل نص يفقد شيئا أو أشياء
عند ترجمته إلى لغة أخرى. ولأن البعض يعلي من شأن هذا الفاقد إلى حد أن يعرف روبرت
فروست الشعر بأنه "ما يضيع في الترجمة".
وكنت أتوجس من هذه الترجمة برغم أن بعضا من أهم النصوص المؤسسة لوعيي
ـ وآخرين بالقطع ـ لم تكن إلا ترجمات عن لغات وسطى، ولعل أهم الأمثلة التي تحضرني
هنا هي ترجمة سامي الدروبي لأعمال دوستيفسكي الكاملة عن الفرنسية، وترجمة المهدي
أخريف لأعمال فرناندو بيسوا عن الأسبانية، وترجمة إزرا باوند للشعر الصيني، ولعل
هذا المثال الأخير هو المثال الصارخ للترجمة عن غير اللغة الأصلية.
لقد كتب إليوت يوما ـ والعهدة على مقال نشره مؤخرا آدم كيرش في ذي
نيو ريببليك ـ أن إزرا باوند هو "مخترع الشعر الصيني في اللغة
الإنجليزية" فلولاه لتأخرت معرفة الناطقين بالإنجليزية لهذا الشعر. إزرا
باوند لم يكن يجيد اللغة الصينية. ولكنه تلقى ذات يوم دفترا يضم ملاحظات حول قصائد
صينية كلاسيكية. هذا الدفتر كتبه أستاذ أمريكي للعلوم السياسية في إحدى جامعات
اليابان. وهذا الرجل بدوره لم يكن يجيد الصينية أو اليابانية. فاستعان على قراءة
الشعر الكلاسيكي الصيني القديم بأساتذة يابانيين. كان الأساتذة اليابانيون يترجمون
النصوص الصينية إلى اليابانية، ثم يأتي مترجمون فينقلونها من اليابانية إلى
الإنجليزية، ثم يعدل أستاذ العلوم السياسية ترجمتهم، لينتج نص أخير هو الذي وصل
إلى يدي إزرا باوند، فاعتبره مادة خاما أعد منها كتيبا صغيرا ضم أول ترجمة
إنجليزية لنصوص من الشعر الصيني القديم. وبدأت رحلة هذا الشعر في هذه اللغة،
وتوالت الترجمات، ولم تفقد ترجمة باوند قط أهميتها، وجودتها.
يبرر البعض الترجمة عن لغة وسطى بأنها عمل مؤقت. فحين يوجد نص مهم،
ويتعذر العثور على مترجم يجيد لغته الأصلية، فلا ضير ـ هكذا يرون ـ من ترجمته عن
لغة وسطى. ولكن كل ترجمة، حتى التي تتم عن اللغة الأصلية، هي ترجمة مؤقتة. فكلما
كان النص أصيلا، دعت الحاجة إلى إعادة ترجمته. معروف أن في كل كلمة مهما تكن هذه
الكلمة فائضا في المعنى، أو لنقل معاني جانبية، أو لنقل إن لكل كلمة حقلا دلاليا،
وما يفعله المترجم والقارئ هو أنه ينتخب من كل كلمة معنى، فتتوالى في ذهنه معاني
الجملة والفقرة والفصل والكتاب. وقد يقع اختيار قارئ أو مترجم غيره على سلسلة أخرى
من المعاني. وهكذا فإن أي ترجمة لأي نص هي بمعنى من المعاني ترجمة عن إحدى نسخ
النص، وليس عن الأصل، إن كان ثمة شيء اسمه "الأصل" بهذا النقاء.
لعبد السلام بنعبد العالي كتاب اسمه "في الترجمة". هذا هو
الكتاب الذي يجعلني أقول إنني "كنت" ـ أي أنني لم أعد ـ ممن يتوجسون من
الترجمات الوسيطة. فالرجل يطرح عددا من الأسئلة الذكية: أليس واردا أن ينطوي ما
نسميه "نصا أصليا" على ترجمة أو حتى ترجمات، بحيث يكون النص الأول هذا
نصا ثانيا من الأساس؟ ماذا لو أننا نريد ترجمة نص لهابرماس يناقش فيه حوارا يجريه
دريدا مع أوستين، سيكون هذا النص مكتوبا بالألمانية اعتمادا على نص فرنسي يحاور
نصا إنجليزيا، فهو أصل حاو للعديد من النسخ؟ ثم إننا وإن سلمنا بأن كل نص يفقد
شيئا عند ترجمته، إلا أننا نتجاهل أن كل نص يكسب شيئا أيضا عند ترجمته. ورحم الله
جوته الذي كتب قصيدة عن عودته إلى البيت بزهرة ذابلة، سرعان ما انتعشت بمجرد أن
وضعها في الماء. جوته ينهي قصيدته بقوله إن تلك هي حال قصيدته في لغته أخرى.
افتتاحية قراءات في 24 مايو 2009