المقهى
مكان، مناضد ومقاعد، وأكواب وأوان، ورواد وندل، وفواتير وشاشات؛ فكيف تجلس على
مقهى؟ ليس بوسعك إلا أن تجلس فيه. ومع ذلك نقول ـ على الأقل في العامية المصرية ـ
إن فلانا يجلس على المقهى، بل إن فلانا يجلس على القهوة. فالقهوة في العامية المصرية مشروب
ومكان. ولكن العربية الفصحى ترفض الاعتراف بهذا، لأن القهوة قهوة والمقهى مقهى ولا
مبرر مطلقا للخلط بينهما. ولكن العربية الفصحى استطاعت أن تضيف إلى كلمات قديمة ـ
مثل "الثقافة" و"القاطرة" ـ معاني جديدة، بل لقد التصقت المعاني
الجديدة بهذه المفردات إلى حد أنها صارت معانيها الأولى، وصارت المعاني القديمة أو
حتى "الأصلية" معاني بائدة لا يعرفها الكثيرون.
مؤخرا، كتب الشاعر والمترجم
المصري رفعت سلام مقالا عن ترجمة طاهر البربري لإحدى روايات كازو إيشيجيرو أشار
فيه إلى عدد من الأخطاء التي وقع فيها البربري، وكثير منها فادح فيما يبدو (لم
أطلع على ترجمة البربري). من الأخطاء المشار إليها ما يتعلق بقواعد اللغة (وهذه لا
يمكن تبريرها ولا يكفي الاعتراف بها والاعتذار عنها، بل لا بديل عن تصحيحها في
طبعات جديدة من الرواية)، ومنها ما له علاقة بما أسميه "التطور الطبيعي"
للغة وهو شيء مختلف عن "التطور الطبيعي" للحاجة الساقعة أو "التطور الطبيعي" للمستوطنات.
يتساءل رفعت
سلام في مقاله: "هل يجلس أحد علي طاولة"؟ ولا يجيب. فهو يفترض أن للسؤال
إجابة بديهية يعرفها الجميع. ولكن من الجميع الذين يستشهد بهم رفعت سلام؟ إنهم
المصابون بشيزوفرينيا لغوية كلما استفحلت أصبح المصاب بها أعلم باللغة. فنحن في
حياتنا اليومية نجلس "على المقهى" ونجلس "على المنضدة" ونجلس "على ما" نستريح،
ولكننا في آخر اليوم حينما نجلس لندون يومياتنا بلغة عربية فصحى إذا بنا كنا
جالسين في المقهى، وجالسين إلى المنضدة، وجالسين إلى أن نستريح. وكأنما نتعمد أن
يبقى استخدام "على" مقصورا في حدود استخدامات الأقدمين له، أي في ما
عليه "شواهد" من شعر الموتى الممعنين في الموت.
لماذا
لا نحاول من خلال الاعتراف باستخدامات جديدة لمفردات قديمة أن نفهم أشياء عن
أنفسنا وعن وعينا بالعالم وعلاقتنا باللغة؟ لماذا لا ننظر مثلا إلى استخدامنا
العامي لكمة "حاجة" كمرادف لـ "شيء"؟ ألا يعني استخدامنا هذا أننا
نرى كل "شيء" بوصفه "حاجة"؟ ألا يعني هذا أننا نحترم كل شيء،
وأننا نقر ـ ربما دونما أن نعي ـ بحاجتنا إلى كل شيء؟ لماذا لا يوضع في المعجم بجوار
مفردة "حاجة" معنى جديدا اكتسبته لأن الأحياء أرادوا لها أن تكتسبه؟
السؤال
الذي يطرحه رفعت سلام يفترض إجابة معينة هي "لا، بل نجلس بجوار الطاولة أو
نجلس إلى الطاولة". وأنا بدوري أسأل: هل يمكن أن يوضع شيء فوق
"استحياء" أو فوق "سفر"؟ مع ذلك نقول على سفر، وعلى استحياء
وعلى حين غرة. هذا لأننا لا نقول هذه العبارات بقدر ما نكرر قولها، نقلد أسلافا
لنا تعاملوا مع اللغة بوصفهم منتجيها لا مقترضين لها ينبغي أن يحافظوا عليها إلى
أن يعيدوها لأصحابها على حالتها، وبالمناسبة، هل يمكن أن يوضع شيء على
"حالتها"؟ 0000
كنت مرة
أترجم مسرحية مع صديق لي، وقال إنه من الخطأ أن أقول "نفس الشيء" والصواب هو "الشيء
نفسه" لأن الشيء ليس له نفس! قلت له يومها إن اللغة تتطور، وإن العربية يمكن
أن تستوعب استخدامات جديدة لمفرداتها ما دامت هذه المفردات أصيلة فيها وما دامت
الاستخدامات الجديدة لحقت بها نتيجة لشيء بسيط هو حياة الناطقين بها. وبرغم أنه
اقتنع، بقيت أستخدم "الشيء نفسه" أكثر بكثير من استخدامي "نفس
الشيء". ذلك لأنني أحاول أن أتعلم كل يوم ما يمكنني من امتلاك لغة عربية
"سليمة"، بعيدة كل البعد عن اللغة التي أستخدمها في حياتي، في محاولة
دائمة لتأكيد الشيزوفرينيا التي تصلح مقياسا لما عليه كل منا من "ثقافة". و
نشر في ملحق قراءات بتاريخ 12 يوليو 2009