يستطيع مخرج
جريء، واثق في قدرات ممثله وثقافته واستيعابه للنص وتماهيه مع الشخصية التي يلعبها،
أن يترك لهذا الممثل النادر مساحة للارتجال. ولكن هل يترك له الفينالة ـ أي
"الخاتمة" بلغة أهل المسرح ـ يرتجلها بحسب ما تملي عليه اللحظة؟ لا أظن.
فهذه اللحظة الأخيرة هي التي ستبقى في أذهان المشاهدين. هي التي سوف تجلب التصفيق
أو اللعنات. وهي، لذلك، تنال من المؤلف والمخرج وشتى عناصر العرض نصيب الأسد من
الاهتمام.
وعلى أهمية
الفينالة، إلا أننا جميعا نتركها نهبا للارتجال، فلا يعد كثير من الناس ـ في ظني ـ
للحظاتهم الأخيرة في الحياة.
في رواية
"القلعة البيضاء" للتركي أورهان باموق، يجلس شخص إيطالي في قمرته، وقد
حسب أن أجله موشك على الانتهاء على أيدي قراصنة عثمانيين يغيرون على سفينته. وفي
قمرته تلك، وفي تلك اللحظات:
فتحتُ حقيبة
ثيابي الصغيرة أفتش عن كتبي ثم شردت. فاضت عيناي بالدموع وأنا أقلّب صفحات كتاب ابتعته بثمن باهظ من فلورنسا، سمعت صراخا وخطوات
تندفع ذهابا وإيابا، ثمة اضطراب بالخارج، أدركت أن من الممكن في أي لحظة أن ينتزع الكتاب
من يدي، ومع ذلك لا أرغب في التفكير في ذلك، بل فيما مكتوب على صفحات هذا الكتاب.
كأن هذا الكتاب بما فيه من أفكار وعبارات ومعادلات يضم بين جنبيه كل حياتي الماضية
... حدت بي رغبة يائسة أن أطبع في ذاكرتي الكتاب بأكمله.
ارتباك. هذا الإيطالي
لم يتأهب للحظة الأخيرة في مسرحيته الخاصة. فإذا به يحاول تضييعها، إذا به يتشبث
في كتاب محاولا الاستيلاء عليه في ذاكرته.
بالنسبة لي، لم
أهدر اللحظات الأخيرة من حياتي مع كتاب التقطته عبثا من مكتبتي.
كان ذلك قبل
سنوات كثيرة، وكنت وثلاثة من أصدقائي ساهرين في بيتي، وبدأت نبضات قلبي تتزايد لسبب
لا داعي لذكره. وبدا أصدقائي دخلاء على الفينالة، ليس من مبرر فني لوجودهم. كان
ينبغي ـ هكذا يبدو لي الأمر الآن ـ أن تخلو خشبة المسرح لمونولج نهائي لا يتلوه
تصفيق أو لعنات. ولم يكن كتابا الذي التقطته بعد أن أغلقت الباب خلف أصدقائي جميعا.
استلقيت في
فراشي. وبين يدي مرآة صغيرة. ولسنوات بعد ذلك سأعتبر هذا منتهى النرجسية. أن لا
يريد شخص في لحظاته الأخيرة إلا أن يرى وجهه. وعلى ذكر النرجسية، ألم يكن نرجس ـ
نرسيوس ـ هو آخر ما رآه نرجس من هذه الحياة؟ ألم يكن افتتان نرجس بصورته هو الذي
أحياه بعد موته زهرة باقية ما بقيت الحياة؟
حتى إيطالي
القلعة البيضاء جعل من الكتاب مرآة (كأن هذا الكتاب ... يضم بين جنبيه كل حياتي
الماضية). ليأت الموت وليفعل ما يشاء، هو على أي حال لا يحمل أي مفاجآت، ربما تأتي
المفاجآت بعد الموت. ولكن المرء لو اختار أن يحمل من هذه الدنيا، فسيختار شيئا
يتحدى خلو الأكفان من الجيوب، سيختار وجهه، يحمله معه في ذاكرته، أنيس رحلة لا
رجوع منها.
ليس عبثا أن
هناك مرآة في غرفة النوم، وفي الحمام، وفي المصعد، وفي السيارة، وفي المركز
التجاري، وفي المقهى، ليس عبثا أن وجوهنا لا السلع هي ما نراه على واجهات المحلات،
ووجوهنا لا الماء على صفحات الأنهار، ووجوهنا لا الزمن على أسطح الساعات، ليس عبثا
أننا لا نرى إلا وجوهنا على شاشات التليفزيون المطفأة، وعلى نوافذ السيارات في
المواقف، وفي بؤبؤ عين من نحادثه ....
نشرت في قراءات
15 فبراير 2009