Tuesday, February 10, 2009

بيسوا الذي لا يعرف الشفقة

يحدث الأمر على النحو التالي: يسأل المرء البائع عن الثمن، يجد أنه قادر على دفعه، فيدفعه، ويحسب أنه اقتنى كتابا. بينما العكس بالضبط هو الذي حدث. اقتناه الكتاب. طبعا لا يحدث هذا كثيرا. فأغلب ما نقتنيه لا يبقى في دائرة اهتمامنا طويلا. ولكن من الكتب ما يبقي مالكه في فلكه طويلا، طويلا للغاية. حدث هذا معي قبل سنوات، حين صدر كتاب في المغرب ولم أطق صبرا حتى وصوله إلى القاهرة، فطلبت من زميل لي كان يعمل هناك أن يرسله إليّ، ومنذ ذلك الحين وكتاب اللاطمأنينة للشاعر البرتغالي "فرناندو بيسوا" وترجمة الشاعر المغربي "المهدي أخريف" معي، لم أعره إلى صديق، ولم أحب أحدا إلا وكلمته عنه، ونصحته به. سنوات وأنا مع كتاب اللاطمأنينة لم أنته منه ولم ينته مني. أفتحه في أي وقت، ومن أي صفحة، فأقرأ حتى أشبع أو أجوع ثم أتركه، موقنا أنني عائد إليه. كنت قبل صدور الكتاب قد قرأت لبيسوا أغلب ما نشر له بالعربية: مختاراته التي صدرت عن وزارة الثقافة في مصر، ثم عن المجلس الأعلى للثقافة هناك، ثم ديوان راعي القطيع الصادر عن وزارة الثقافة المغربية، وهذا الأخير فتنني ولا يزال. ولكن كتاب اللاطمأنينة ظل منفرد المكانة عندي. وأخيرا، وفيما أنا في القاهرة، وجدت طبعة جديدة من الكتاب صادرة في مصر، فاشتريت منها، وأهديت إلى الأحب ممن سبق وبخلت عليهم بمجرد النظر، ناهيكم عن التصفح. وكانت بانتظاري في معرض القاهرة للكتاب مفاجأة جديدة. ديوان جديد بالعربية لفرناندو بيسوا، وأيضا من ترجمة المهدي أخريف، صحيح أنه صادر في 2006، ولكنني لم أعرف بصدوره إلا حين رأيته أمامي وجها لوجه. وكالعادة: يسأل المرء البائع عن الثمن، يجد أنه قادر على دفعه، فيدفعه، ويحسب أنه اقتنى كتابا. بينما ما يحدث هو العكس بالضبط. يعرف عشاق بيسوا أنه لم يكن يكتب قصائد بقدر ما كان يؤلف شعراء: يمنحهم أسماء وتواريخ ويؤلف بهم شعرا ينشره بأسمائهم. راعي القطيع منشور باسم ألبرطو كاييرو، والديوان الذي اشتريته مؤخرا معنون بـ قصائد ألبارو دي كامبوس. عرفت منذ الوهلة الأولى أن كتاب اللاطمأنينة لم يعد منفردا بي. لقد انضم إليه هذا الكتاب؛ ففي واحدة من قصائد الكتاب الأولى وعنوانها أفيون، يقول ألبارو دي كامبوس أو فرناندو بيسوا: وأنا في الأفيونِ واهبِ السلوى أبحث عن شرقٍ في شرقِ الشرق
ويقول:
اشتغلت لأظفر بالتعب وحده
ويقول:
لأجل العيش، ثمة طريقة واحدة فحسب لذلك أتعاطى الأفيون
ويقول:
لماذا ذهبت إلى زيارة الهند الفعلية إن لم تكن الهند موجودة، ما عدا الروح فيّ؟
ويقول:
ليس في مستطاعي أن أوجد في أي مكان. وطني هو حيث لا أكون موجودا.
ويقول:
أنا أنتمي إلى فصيلة من البرتغاليين الذين بعدما اكتشفوا الهند أصبحوا بلا عمل.
ويقول:
تنقصني الطمأنينة تنقصني أرضٌ وحصيرة صغيرة.

هل تدرون عبء ومتعة أن يوجد لدى المرء كتاب من خمسمائة صفحة هذه مقتطفات من قصيدة واحدة في بدايته؟