يجلس حابي ـ 35 سنة ـ على مصطبة بيته المقام من اللبن على شاطئ نيل
أتريب (بنها حاليا)، وقد شعر بدنو أجله. عن يمين حابي سلة (مَشَنَّة) مليئة بمزق
من البردي، وفي حجره لفائف ولفائف، بين حين وآخر يفض إحداها ليقرأها، فحينا يدمع،
وحينا يضحك، ولكنه في كل الأحيان يمزقها بلا تردد، فتستقر في نهاية الأمر في
المشنة. حابي، في آخر العمر، يطالع ذكرياته التي ظل يدونها يوما بعد يوم: كيف خرج
من أتريب إلى منف ليدرس في معبدها، وكيف كان وزملاؤه يكيدون للكاهن المعلم ويسخرون
منه، وكيف عاد بعد الأحلام العظام إلى أتريب ليعمل في بلاط حاكم الإقليم، وكيف أنه
أحب خادمة هناك، هي التي تزوجها من بعد، وهي التي قصفت عمره. كل تفاصيل حياة حابي
بين يديه الآن، وإنه يمزقها ـ غير راغب في ترك أثر منها لأبنائه. "فليبق لهم
ما يتصورونه، وليس ما أنا إياه". وتمر السنوات (حوالي سبعة آلاف وست عشرة
مثلا)، والذي يجلس الآن ليس حابي، بل عالم مصريات، يزيل، ما استطاع، وسخ آلاف
السنين عن مزق من البردي (عثر عليها فلاح من بنها) ويكد ليلصق مزقة جنب مزقة عساه
يكون صفحة أو ربما الصفحات كلها من جديد. وبين حين وآخر تفلت منه لعنة لذلك المصري
القديم السفيه الذي مزق حياة كان يمكن أن تكشف لنا الكثير من أسرار حياة القدماء.
ولكن حابي لم يكن سفيها، هو لم يكن واعيا أنه يمزق ثروة من ثروات الإنسانية لا
تقدر بثمن. لقد كان يفعل في شيء يملكه هو وحده ما عنّ له أن يفعله. ثم إن ورقات
حابي لم تكن آثارا في ذلك الوقت. لقد كانت بالضبط مثل أي كراسة في زماننا هذا يحدث
أن يلقي بها أحدنا إلى سلة القمامة حين يرى في سلة القمامة مكانا مناسبا لها. هذا
لا ينفي أن حابي اعتدى على أثر مملوك للإنسانية، حتى وإن جاء اعتداؤه على الأثر
قبل أن يصبح الأثر أثرا. وهذا ما نفعله طول الوقت، وتخيلوا التالي: أحدنا ـ وليكن
اسمه "حبيب" مثلا ـ يصحو من النوم راغبا في أخذ حمام بارد، فيأخذه. حبيب
يفطر على عجل، إنه يفض عن قطعة الجبن ورقة تغلفها، إنه يكورها وهو شارد، وإنه
يتركها تسقط إلى هاوية سلة القمامة (هذه اللفافة بالذات هي الدليل الذي سيفتقر
إليه عالم بعد بضعة آلاف سنة يريد أن يثبت أن أجداده البشر القدماء كانوا يلفون
أطعمتهم في لفائف آمنة). حبيب يستقل سيارته ويرى أن الجو بديع فيترك الشباك مفتوحا
ويستقبل طوال الطريق إلى العمل سيلا من الهواء، وحين يوقف سيارته، ويغلقها، وينزل
منها، يعطس. حبيب يعطس. حبيب يخرج منديلا ورقيا ويتمخط. وحبيب شخص مهذب، إنه لا
يلقي المنديل على الأرض حيث كان الهواء سيغطيه بالتراب، فتتراكم عليه التربة عبر
آلاف السنين إلى أن يجده عالم يبحث عن دي إن آيه للبشر القدماء. حبيب يلقي المنديل
في سلة القمامة. وهناك عامل مجد سوف يفرغ السلة ليتم إعدام هذه القمامة، إعدام
ثروة هي ملك للإنسانية، هي ثروة من ثروات أحفادنا لا تقدر بثمن، وماذا نفعل نحن؟
نحن نهدرها أيها الأعزاء!
عن ملحق قراءات 22 فبراير 2009