Saturday, December 21, 2013

عن "نساء الكرنتينا": الواقع بعيرا والمعاكسة إذلالا


الواقع بعيرا والمعاكسة إذلالا

مع انتصاف ليل الحادي والثلاثين من ديسمبر سنة 1999 انقسم العالم قسمين: قسم ارتحل إلى القرن الحادي والعشرين، وقسم بقي في القرن العشرين يلوح للراحلين، مستحلفا إياهم أن يحرصوا على سلامتهم في ذلك القرن المجهول، واعدا باللحاق بهم بعد عام واحد لا يزيد ولا يقل.
وفي صباح الأول من يناير سنة 2000، كان مواطنٌ صالح، يحمل كيسا فيه سندوتشات فول وطعمية ومسقعة وعلبة مخلل، يسير متجها إلى منضدة في مقهى يحتل أحد مقعديها مواطن آخر. استأذن أن يحتل المقعد الفارغ، فأومأ الجالس وفمه مترع بالبطاطس البوريه أن على الرحب والسعة. وها هما جالسان معا، مع أن بينهما ما هو أكثر بكثير من رخامة المنضدة؛ فكل منهما في قرن مختلف. وهذا هو قبول الآخر، وهذا هو التعايش.
لعام كامل ظل الكوكب مقسوما بين هذين الفريقين، ولكن، دوان أن تنشب حرب، أو يحتدم صراع، إن هي إلا مقالات صحفية، وملاسنات تليفزيونية، وسرعان ما سكت الجميع، وعاشوا الأيام والليالي.
لا أريد أن أطيل عليكم، قولوا أطل، ولكني أحدثكم عن رواية ظهرت في ذلك العام عنوانها "الـ 2000 .. قصة الحرب الكبيرة" وتتناول هذين الفريقين بالذات متصورة بينهما حربا ضروسا، ونشرت مقالتان عنها في عدد واحد من مجلة، وعلى صفحتين متقابلتين، إحداهما بعنوان: "نظرة سوداوية على الحاضر"، والأخرى بعنوان: "نظرة سوداوية على المستقبل". وليس هذا ببعيد عن رواية أخرى، أكلمكم عنها.
(ولكن، قبل أن أكلمكم عن الرواية الأخرى، أحب أن أسأل: في عام 2000، لماذا لم ننتبه إلى أننا جميعا متفقون على أنه عام 2000؟ لماذا لا نبحث عما هو مشترك بيننا، علينا اللعنة؟ ولماذا ـ وهذا هو السؤال المهم لأن السابق تافه ـ كنا نسلم أننا في عام 2000 برغم أن أغلبنا لا يعترف أصلا بالشخص الذي مر على مولده ألفا عام؟ نحن، لا أخفيكم، غرباء الأطوار.)
***
أكلمكم عن "1984" لـ "جورج أورويل".
لو اتفقنا على أن هذه الرواية تبدأ بالضبط بأولى كلماتها وتنتهي بآخر كلماتها، لو اتفقنا على أن هاتين الكلمتين هما الحدان النهائيان الثابتان لهذه الرواية، وأن أي معلومات أخرى من قبيل أن الرواية مثلا كتبت قبل سنة 1984 أو بعدها أو فيها، أو تأثرت كتابتها بغول الحرب العالمية الثانية، أو بغول الشيوعية، هي جميعا معلومات من خارج الرواية، من غير النص، لو أننا اتفقنا على هذا، فهل سيكون من الممكن أن نقرأ "1984" بوصفها استشرافا للمستقبل الأسود الذي سيكون في سنة 1984؟ أتصور أن ذلك سيكون أمرا شديد الصعوبة! سيكون بالفعل من الصعب أن نخلص إلى هذه النتيجة، خاصة والكتاب لا يقول مثلا: اعلموا يا أهل عام 1948 (السنة التي كتب فيها الجزء الأكبر من الرواية) أنه لن تحل على الإنسانية سنة 1984 إلا وقد استبدت بالعالم ثلاث دول صفاتها كذا وكذا، ومنها الدولة الفلانية، وفيها مدينة هي لندن يطغى عليها "الأخ الكبير" ويخضع أهلها جميعا لرقابة لا فكاك لهم منها وإلى آخره.
واقع الحال أن رواية 1984 التي تبدأ بأولى كلماتها وتنتهي بآخرها، إنما هي عن سنة 1984 خالدة ومؤبدة، لم تسبقها سنواتنا التي عشناها ولم تعقبها سنواتنا التي نعيشها، وحينما جاءت سنة 1984 على واقعنا، لم يبد أن مجيئها قد هز صفحة في الرواية.
***
هذا، وإن كوننا ـ أو اصطلاحنا على أننا ـ في سنة 2013، أنا وأنتم و"نائل الطوخي"، أمر لا ألاحظ إشارة إليه من قريب أو بعيد في "نساء الكرنتينا". ومن ثم، تعالوا ونحن نتكلم عن "نساء الكرنتينا" لا نتكلم عن المستقبل.
***
وأستقوي بالخارج:
أومبرتو إكو ـ على سبيل المثال لا الحصر ـ في كتابه "ست نزهات في غابة السرد" (ترجمة سعيد بنكراد) يتكلم عن فارق بين نوعين من القارئ: أحدهما الفعلي، وهو تقريبا كل مجيد للقراءة تقع بين يديه نسخة من "نساء الكرنتينا"، وقارئ نموذجي أفهم أنه حاصلٌ من تعاون مع النص المكتوب بالذات، قارئ فعلي يقرأ الرواية أو هو يحاكمها بحسب معارفه هو، وقارئ نموذجي يتعرف على قوانين الرواية ويعملها في قراءته لها أو حتى في حكمه عليها. قارئ يرفض أن يتكلم الذئب، وقارئ يكون كله للذئب آذانا صاغية.
يستطيع القارئ الفعلي ـ وحده ـ أن يحكم على رواية "نساء الكرنتينا" بأنها تستشرف المستقبل، لأنها تدور في عقود من القرن العشرين تقع جميعها في مستقبله، أو يراها "سخرية" من "واقعه" لأن فيها إشارات إلى أشياء يعرفها في عالمه، ويصادفها فيه.  يستطيع أن يقدم على هذا، لأنه يستطيع أن يقرر في كل يوم من عام ألفين، أنه لا يزال في القرن العشرين، أو أنه سبق زوجته ـ المحظوظ ـ إلى القرن الحادي والعشرين.
وله، هذا القارئ الفعلي، وهو يقرأ "نساء الكرنتينا" أن يلاحظ ـ ما لم يكن أعمى ـ أن هناك "علي وإنجي" وكلنا نعرف من أي سينما رديئة جيء بهما، وخالد سعيد، ومنا من يعرف عن قضيته تفاصيل ربما لا يعرفها كل أهل الكرنتينا، ومفيد أبو الغار وكلنا رأيناه جالسا على الرصيف في نهاية المسلسل وقد رفع قميصه رايةً بيضاء بينما صوت فردوس عبد الحميد يدعونا إلى النزول في كل ميادين مصر يوم 28 يناير 2011 لمساندة الواقفين في وجه البلدوزر. كل قارئ منا لهذه الرواية قادر ـ ما دام مصرا على بقائه القارئ الفعلي ـ أن يلاحظ في "نساء الكرنتينا" بين الحين والآخر ما أحب أن أسميه بـ "معاكسة الواقع".
***
لا يعترف المعجم بالمعنى العامي المصري لـ "المعاكسة". أو هذا ما تبين لي وأنا أبحث في لسان العرب ـ على الإنترنت ـ فلا أجد للكلمة نفسها وجودا. هناك الكثير من الاشتقاقات من "عكس"، والكثير من المعاني الملهمة، ولكن "المعاكسة" غير موجودة بمبناها هذا، أو بمعناها: "التحرش" الرقيق، بل البريء ربما، الذي في أغلب الحالات لا يبتغي من وراء وجوده شيئا، والذي لا يتطور ليكون ما هو أكثر من نفسه، إلا بالكثير للغاية من الحظ السعيد أو التعيس.
ولكنني بحاجة إلى هذه المفردة، وهذا المعنى، إضافة إلى الإرث القاموسي القديم، لأصف ما تفعله "نساء الكرنتينا" مع واقعنا: تعاكسه.
يقول لسان العرب إن العكس هو رد آخر الشيء على أوله. ويأتي في "صحاح اللغة"، وتأملوا أرجوكم، أن العكس هو "أن تشد حبلا في خطم البعير إلى رسغ يديه" لماذا؟ "ليذل"، وإنني بحاجة أيضا إلى هذا المعنى: الإذلال. أن "تعاكس" الواقع بهدف إذلاله. الواقع بعيرا، والمعاكسة إذلالا. ألا يصلح هذا، والنبي، عنوانا لهذه القراءة؟
***
تعاكس الرواية واقعنا بتوسيعه، بالمساواة بينه وهو الملموس القائم وبين غير الملموس الخيالي، كالفيلم أو المسلسل، فكلاهما مصدر من مصادر نساء الكرنتينا، وكلاهما يمكن التلاعب به بحرية شديدة وكأنما ذاكرة القارئ ـ الفعلي، أكرر ـ ليست مرجعا جديرا بالاحترام على الإطلاق. تعاكس الرواية الواقع لا بأن تتعامل معه كخامة وحسب، بل بأن تراه خامة على رف مليء بالخامات التي لا يفضل بعضها بعضا.
تعاكس الرواية مفهوم البشر السائد عن التاريخ. فالذي يصنع التاريخ في هذه الرواية ليس حتى ذلك الشيخ الجالس إلى قنديل، بلحيته الطويلة المعرضة للاحتراق في أية لحظة، يسجل "الحقيقة". وإنما هو أحيانا امرأة في قعدة تحشيش مع بنتين، تصنع لهما التاريخ، وفي ثنايا ذلك تضرب عرض الحائط بما في واقعنا من جرائد وكتب ومحاضر. فصانعة التاريخ ـ "أم صلاح" ـ تغير على قصة نعرفها بقصة "ريا وسكينة" لتنسبها إلى امرأتين أخريين هما "نادية" و"اعتماد"، وهي لا تكتفي بذلك، بل تسلب قاتلتينا شرف القتلة، لتجعل منهما داعرتين في الأساس، وهو تبديل ربما يتجاوز معاكسة الواقع ليدخل في باب الإساءة لسمعة مصر.
وعلى ذكر التاريخ. ربما يكون التاريخ هو أكثر ما تلح عليه حلقات الملحمة جميعا. فثمة هوس لدى جميع شخصيات الرواية الرئيسية بصناعة نسخة من التاريخ تبرر الحاضر، وكأنما رغبة الفرد البسيطة في تغيير واقعه ومصيره لا تقوم مبررا كافيا لمحاولته التغيير، بل ينبغي أن يمتلك سردية تبرر وجوده نفسه. ولعل ذلك درس يخرج به قارئ الرواية إلى الواقع، فيفهم لماذا وضع حسني مبارك رأسه في الصورة الشهيرة في موضع رأس سعد الشاذلي.
وتعاكس الرواية اللغةَ المفترضة في الأدب. ولعل أول، وربما أكثر، ما يصدم القارئ في هذا الكتاب هو لغته. اللغة المغايرة بوضوح لما اصطلح عليه لغةً للأدب، اللغة التي لا هي بالعامية ولا هي بالفصحى، بل هي حرة في الانتقال حيثما شاءت، وبذلك يستحيل محاكمة هذه اللغة وفقا لأي قانون.
ولكن ما ينبغي ـ في تصوري ـ أن يلفت النظر أكثر من هجنة لغة الرواية هذه هو دلالة تماهى لغة السارد مع لغة الشخصيات، بحيث لا يكاد القارئ يلحظ فارقا في المستوى بين لغة السرد ولغة الحوار. فلعل ذلك التماهي ينبئنا بشيء عن موقع السارد، لعله يقول إن السارد يكتب من هناك، من الكرنتينا، من العشوائية، والخروج على القانون، من الأرض التي يبدو أنها مثلما رفضت سلطة الحكومة، رفضت أيضا سلطتي المجمع اللغوي و"المتن الأدبي".
بريئة للغاية مفردة المعاكسة. بريئة ربما أكثر مما ينبغي. ولعلها مستفزة مثلا لعالم الاجتماع حين يرانا نستخدمها لوصف شكل الأسرة الرهيب كما تقدمه الرواية، ومستفزة لرجل الدين حين يرى تصور أبطال هذا الكتاب عن الإسلام وطريقة استخدامهم له ويرانا نعتبرهما محض معاكسة، مستفزة للشعراء حين يرون ما في الرواية من أغنيات، وللنحاتين إذ يرون تمثال الفرخة، وللرسامين وهم يرون لوحات حمادة البنفسجية الرقيقة، ومستفزة للبشر، لأي إنسان ينتظر من إنسان مثله أن يحترم على أقل تقدير قيمة الحياة نفسها.
ولا تتوقف الرواية في صفحة واحدة عن معاكسة واقعنا ووعينا وما استقرت عليه حضارتنا. ولكن الرواية، من قبل ومن بعد، وكأي عمل فني يستحق هذه التسمية، تعاكس واقعنا المعاكسة الكبرى: باغتنائها عنه، ببقائها مغلقة دونه، بوجودها وجودا لا يعتمد على شيء فيه، برغم كل ما قد يتصور القارئ أنها إحالات إلى واقعه، غير منتبه إلى أنه قارئ عابر على الرواية هو وواقعه وتارخيه وفنونه.
***
طبيعي أن ينزعج كل هؤلاء: علماء الاجتماع والدين، والنحاتين والرسامين، والشعراء، والروائيين.
طبيعي تماما.
ووارد أيضا، على فكرة، ألا تجد القطط تسلية من أي نوع حينما تشاهد القط توم وهو يلحس الأرض تحت قدمي الفأر جيري. وارد أن تقول القطط لسنا بهذا الغباء فيعجزنا فأر، ولو حدث وأعجزنا المرة  تلو المرة تلو المرة فنحن أذكى من أن نستمر في محاولة النيل منه، أذكى من أن نبقى جامدين غير قادرين على تغيير اتجاهنا إلى وجهة أخرى، ولكن، لنكن واضحين: أفلام توم وجيري غير موجهة للحيوانات، لأن الحيوانات ـ ووالت ديزني يعلم هذا جيدا ـ لا تتكلم الإنجليزية.
فليغضب إذن البشر إن هم رأوا كيف يظهر أمثال لهم في رواية الكرنتينا تائهين مضحكين يتحاربون على التوافه، يتعصبون كل واحد لـ "منطقه" العبثي. ولكن لن تكون هذه مشكلة الكرنتينا، لأنها لم تكتب للبشر، إلا القادرين منهم أن يتعالوا على بشريتهم وأن يمارسوا السخرية من أنفسهم.
ولكنني لم أعمد إلى استخدام "المعاكسة" إلا رفضا لمصطلح "السخرية" من الأساس.
لقد بدا لي أن في اعتبار هذه الرواية "سخرية" عدوانا على قانون الرواية نفسه. الرواية التي تقدم الكرنتينا دون أن تزعم أنها أفضل من نموذج آخر، دون أن تزعم أنها بديل، أو هي ـ كما يثبت في النهاية ـ ليست البديل القادر على البقاء، فهي في النهاية تنهدم، وكل المجد والبطولة، وكل تفاصيل الحياة، وكل الشهد والدموع، وكل براءة الأطفال وطموح الملائكة، كله لا يبقى في النهاية إلا قمامة يجوع فيها الكلب.
تبدو لي السخرية ـ مقارنة مع ما تفعله الكرنتينا ـ أقرب إلى ما يعرف في أوساط المذيعات وصحفيي الرياضة والفن بـ "النقد البناء". تبدو شيئا شديد الرصانة بل القتامة، شيئا لا يستهدف ذاته، شيئا ناقصا لا يكتفي بمجرد وجوده، بل هو عالة على غاية خارجه، غاية قد يكون اسمها تحسين الصورة، وقد يكون وجودها نفسه قائما على تصور مثالي بديل للشيء موضع السخرية، أو منطلقا من مآخذ على الشيء موضع السخرية إن هي زالت لم يبق لوجوده هو أي معنى. في حين: لا الواقع الذي نعيش فيه يستحق هذه السخرية، ولا الرواية ـ في قراءتي ـ تفعله.
***
في فيلم "لخمة راس" (2006) ثمة بلطجي ظريف لعب دوره "أشرف عبد الباقي". اسم هذا البلطجي هو نخنوخ. بعد سنوات من عرض الفيلم، تقوم ثورة، ويحدث أن يتم إلقاء القبض على بلطجي اسمه نخنوخ، يتبين أنه كان صديقا لبعض الفنانين، وفي بيته تعثر الشرطة على أسد، وسلاح، ونساء، ويثور كلام عن علاقة بينه وبين كادر مهم في أعرق جماعات الإسلام السياسي في العالم، هذا الكادر بالذات هو الذي بعدما تتغير الدنيا، يجد نفسه في موقع يتيح له ـ فيما أشيع ـ أن يطلب مقابلة رئيس المخابرات الحربية، ويقابله، ويقابل معه وزير الدفاع، وهذا الكادر هو الذي بعدما تتغير الدنيا مرة ثانية، يتم إعلانه رئيسا لمصر القادمة فور أن تتغير الدنيا لمرة ثالثة، ويقولون إن "نساء الكرنتينا" تسخر من الواقع! إنما يسخر الواقع من نساء الكرنتينا. فما الذي يمكن أن يجمع بين بلطجي، وممثلين، وأعضاء جماعة إسلامية، وأسد؟ ماذا إلا أن نكون في غسالة كبيرة كما يرد في موضع ما من نساء الكرنتينا.
في نساء الكرنتينا، الجميع من طبقة اجتماعية واحدة، أو من شرائح متقاربة في طبقة واحدة، والعلاقات منطقية بين الجميع، فهم في النهاية داعرات وقوادون وتجار سلاح ومخدرات ورجال شرطة فاسدون، والطموحات منطقية: المال، السيطرة على حي صغير في مجرد مدينة. ليس في الكرنتينا بلطجي تعتقله الشرطة فيتبين أنه يمتلك صحيفة، ثم تدور الأيام فإذا بصديقه ـ كادر الجماعة الإسلامية ورجل الدولة القوي ـ يختبئ من شرطة الدولة، وجيش الدولة، وفي النهاية يُزَج به في السجن، كل هذا وهو مبتسم، ثم يخرج البلطجي ليتنفس مرة أخرى نسيم الحرية.
لا أريد أن أقول إن نساء الكرنتينا أكثر منطقية من الواقع أو أقل منطقية منه، أو أن لها منطقها المغاير عن منطق الواقع. أريد أن ننسى الواقع تماما، ونقرأ الرواية. أو نغلق الرواية تماما، ونعيش الواقع.
***
تبدأ نساء الكرنتينا في الثامن والعشرين من مارس 2064، وهو اليوم الذي تنتهي فيه الكرنتينا تماما على يد الشرطة، وكذلك على يد الصف الثاني من قيادات عصابتيها. تبدأ الرواية مع كلبين، كل يشمشم في زبالة جديدة تماما عليه.
ومن ثم تكون الرواية كلها فلاش باك بطول صفحات الكتاب كله. أو هي حكاية طويلة يحكيها لنا راو عليم قلنا من قبل إنه يحكي من داخل الكرنتينا، بلغة أهلها، وبتماه بين منطقه ومنطقهم. يحكي لنا، فنتعلم من حكاياته المتتابعة أن الحكي كل مرة ما هو إلا مقدمة لقتال ومسوغ له، ما هو إلا آلية لحشد أنصار حول سردية، ونتعلم أيضا أنه يكون متزامنا كل مرة مع حكي مضاد، مع تكوّن سردية مقابلة، يحتشد حولها أنصار آخرون. يحكي لنا الراوي، فإذا الكل أبطال، علي وسوسو وإنجي وحمادة ومنة وأميرة ولارا ويارا، والجميع، لأن الرواي منح كل واحد الفرصة لتأليف نسخته من التاريخ. والراوي ربما هو الآخر تعلم اللعبة. وهو بهذا الذي يرويه يختار أسلافه، ربما هذا الراوي المجهول ليس أكثر من ربيب امرأتين رأيناهما معا في نهاية الرواية: "أم صلاح" و"الشيخة صالحة". لعله يستعد لحرب كبيرة، تريد الاستيلاء على الإسكندرية وتغيير العالم ـ المخروم كما تنبئنا نساء الكرنتينا. ولعلنا لا نحتاج إلى ذكاء كبير، أو قدرة استثنائية على التنبؤ، لنعرف ضد من يحشد هذا الراوي الأنصار، ضد من خربوا الكرنتينا في النهاية، ضد الشرطة، والحكومة، ضد الذين انتصروا على الكرنتينا، ثم لم يسمح لهم بكتابة التاريخ الذي، فيما يبدو، ليس أحوج إلى كتابته من المهزومين.



نشرت اليوم في أخبار الأدب