Wednesday, December 11, 2013

المستشار الثقافي



وكاتب وما كتب *

المستشار الثقافي


لـ "نيقولاي شافيينسكي" رواية صغيرة ـ نوفيللا ـ يغفلها محبو هذا الكاتب ويغفل عنها أعداؤه. ويبرزون بدلا منها ملحمته "شاعر الرفض المغولي" التي تعد ـ على الرغم من عنوانها الجاف الأقرب إلى عناوين الدراسات الأكاديمية منه إلى عناوين الأعمال الأدبية ـ ذروة ما كتبه شافيينسكي، بل وأهم ما كُتب عن الشقيق الأكبر لأحد قادة المغول.
كان هذا الشقيق شاعرا، مارقا على الدولة المحاربة التي قهرت شعوبا وأبادت امبراطوريات كاملة، ولكنها انهزمت أمام فرد. أم أمام شاعر؟ (خلص شافيينسكي من ذلك إلى أن الفرد قد يقدر وحده على إلحاق الهزيمة بامبراطورية، لا بجيوشها، بل بالفكرة التي تقوم عليها. ويشير البعض إلى أنه لم يصل إلى هذه النتيجة وهو معجب بقدرة الفرد، وقدرة الفكرة على مناطحة العقيدة وزعزعتها، بل وهو خائف على الإمبراطورية. خلص شافيينسكي ـ فيما يرى كارهوه ـ إلى أن على الدولة أن تنتبه إلى أن عدوها الفن، وإلى أن عدوها الفرد. وقيل "شافيينسكي يحذر من نفسه، يحاربها، يشي بها").
"المستشار الثقافي" رواية صغيرة، ينساها محبو شافيينسكي ليحبوه، وينساها كارهوه ليكرهوه، يتواطأ الجميع على نسيانها لأن التناقض مزعج. ولأنه إن كانت مجرد رواية صغيرة هي التي ستكرهنا على إعادة النظر في صورة مبسطة وثابتة عن كاتب بحجم شافيينسكي، فلننسها، ويا أهلا بنسيانها، ويا مرحبا بالطمأنينة التي تصاحب كل نمط. فلننسها تماما، ولنتذكر فقط مسرحياته التي كانت تنتجها لسنوات طوال لا فرق مسرحية بل أحزاب ووزارات في شتى أرجاء الكتلة الشرقية والدول التابعة للاتحاد السوفييتي. فلننس إذن هذه الرواية الصغيرة، مثلما نغفل عن لحظات الشروق الملتبسة بين سواد الليل الصريح، ونور النهار المبتذل، مثلما نغفل عن طور آخر بين طوري الدودة والفراشة، مثلما نضيِّع على أنفسنا جوهرة اسمها المغرب، لا هي بركعتين، ولا هي بأربع، ولا هي بالوسطى بين الصلوات.
***
تنشر مجلة "ذي باريس ريفيو" الأمريكية، منذ تأسيسها، حوارات بالغة الأهمية، مع كتاب سرد وشعراء ومسرحيين. وإنه من الصعب أن نتخيل روائيا مهما لم تجر معه "ذي باريس ريفيو" حوارا مطولا وعميقا حول أعماله وتجربته مع الكتابة. تأتي حوارات الروائيين وكتاب القصة تحت عنوان "فن القص" ومع الشعراء تحت عنوان "فن الشعر" ومع شافيينسكي تحت عنوان "فن الكتابة من الباطن"! وكأنه مجرد أجير لدى الاتحاد السوفييتي، وكأن الاتحاد السوفييتي كان يملي عليه كل ما كتبه، وكأن شافيينسكي لم يكتب "المستشار الثقافي" وهو طفل تقريبا، منطلقا فقط من محبة للاتحاد الوليد وخوف عليه.
تسعة آلاف كلمة تقريبا هي حجم حوار "ذي باريس ريفيو" مع شافيينسكي. جمع له المحاور فيها كل ما جُوبه به المسرحي الكبير من تهم على مدار عقود طويلة من الكتابة. وهذه التهم جميعا يمكن إيجازها في تهمة واحدة: لماذا رضيت أن تكون الاتحاد السوفييتي بدلا من أن تكون نفسك، أو حتى أن تكون روسيا؟ وكم بدا المحاور مستمتعا وهو يستعرض أمام الكاتب، الطاعن في السن آنذاك، دلائل انهيار الاتحاد السوفييتي الوشيك، أمام الغرب، إلى أن سأله أخيرا، وهو راض تمام الرضا عن نفسه: هل كنت تتوقع مني سؤالا ولم أسأله؟ فأجاب شافيينسكي: نعم.
في تأبين لـ شافيينسكي ـ الذي توفي قبيل نشر الحوار ـ كتب المحاور الأمريكي يوغوسلافي الأصل يقول:
سألته "وماذا يكون هذا السؤال؟" سألته وكنت أريد بالفعل أن أعرف. لقد أحاطت أسئلتي بكل شيء فيما أرى. لم تهمل الأديب ولم تقتصر عليه. لكنه أبى أن يقول. صمت. وأشار إلى خارج الشباك وقال: هل ترى ربوة الجليد تلك؟ قلت: أراها. قال: حينما يذوب هذا الجليد يا صديقي سترى شجرة كرز، أنا أراها الآن.
تلك، عمليا، قصيدة لبوشكين. وهي شهيرة. وقد عرف أني أعرفها، وأني سأفهم أنه لا يريد الكلام. صمت بدوري. ولم أعرف قط ما السؤال الذي كان ينبغي أن أطرحه على ذلك الكاتب الخلافي".
من جانبي لا أريد أن أقطع بشيء، ولكن من يقرأ هذا الحوار الطويل ـ ناهيكم عن أن يترجمه ـ سيرى كم كان شافيينسكي جَدًّا طاعنا في السن، روحه في مناخيره، ولكنه مع ذلك صابر على تبجح محاوره، ووقاحته أحيانا، حريص أن يشرح له ويوضح، ويبرر، ولكنه قليلا قليلا، بدأ ييأس، ولعله لم يكن يعني أحدا غير هذا المحاور حينما قال "إن في هذه الدنيا من يكسبون لقمة عيشهم من إغماض أعينهم، من تجميد عقولهم. هؤلاء أنا لا أملك لهم حتى الشفقة". لعل شافيينسكي ـ فيما أتصور ـ كان يريد سؤالا عن رواية صغيرة له، كتبها قبل ستين عاما، وظلت بحوزته، سرا شخصيا له، ومتعة خاصة.
***
تقع رواية "المستشار الثقافي" في ستين صفحة من القطع الصغير. توشك أن تكون فصلا من "شاعر الرفض المغولي"، بل هي لا تمثل إلا نصف عدد الصفحات التي تشغلها هوامش الملحمة وإحالاتها! نشرت "المستشار الثقافي" للمرة الأولى سنة 1987، وإن أثبت الكاتب في نهايتها أنها كتبت في عام 1927، أي بعد عشرة أعوام فقط من الثورة البلشفية. ستون عاما كاملة بلا نشر؟ لماذا؟ لماذا هذا الامتناع الطويل عن النشر؟ ولماذا النشر أيضا؟ لماذا وهي شأن بقية أعمال شافيينسكي قصيدة ولاء للنظام السوفييتي، وإيمان به، وحرب في جانبه؟
في مذكراته "سنواتي في المنفى ... سنواتي في كوكب الأرض"، يحكي شافيينسكي قصة لقاء كاريكاتوري مع وكيل وزارة لم يحددها، لكنها وزارة معنية بالعمل الثقافي لا شك.
كان شافيينسكي ولدا صغيرا عمره اثنتا عشرة سنة بالكثير عندما التحق بالعمل في متحف صغير ببلدة "م". لم يكن متحف شيء بعينه، لم يكن متحف فن، أو سجاد، أو بقايا نباتية أو حيوانية. كان اسمه "متحف م"، نسبةً إلى البلد لا أكثر، متحف يستوعب من مخلفاتها أي شيء. يقول شافيينسكي "كنت تجد في أي متجر بقالة كثيرا مما تجده في المتحف". وتجد أيضا "مفاتيح بيوت قديمة، وأقفالا، ونصال سكاكين وملابس داخلية نسائية يحب مدير المتحف أن يقول: لكن جدتي، ينبغي أن أقول، لم تكن بهذا الفحش يا سيدي. هذا إن جاء ضيف غر غريب جاهل وزار المتحف". ولكن المدهش أنك كنت تجد تحت هذه الأغراض المبتذلة بطاقات تعريفية من قبيل: "مفتاح قفل من إهداء السيدة حرم العمدة"، "حاملة صدر من مقتنيات السيدة حرم العمدة"، "فنجان قهوة كسرته الخادمة المهملة في منزل حضرة العمدة، (في المرة القادمة سوف تنتبهين يا مارفا، هه؟)".
كان نيقولاي مسئولا عن تنظيف غرف الشقة (قاعات المتحف) الثلاثة، لا سيما الغرفة التي تضم مكتب المدير، كما كان مسئولا عن تلميع اللافتة النحاسية الموضوعة على باب المتحف، والأسهم المعدنية الخضراء التي تفضي من مدخل البناية وحتى الطابق الثالث. كان كذلك مسئولا عن نفض الغبار عن المعروضات، وإعداد الشاي عشرات المرات طول النهار، وإلى أن ينتهي موعد العمل في المتحف، وحينئذ:
"يرن المدير الجرس النحاسي الصغير مرتين متلاحقتين. فأغلق باب المتحف من الداخل بعد أن أكون علّقت لافتة بأن المكان مغلق، كأنه محل حلاقة. ومن باب المطبخ الذي يصل إلى شارع خلفي صغير، يبدأ في التوافد على المتحف زوار الليل، رجال ونساء، كأنهم خارجون من السجن، وجوه مستبشرة جميعا، ضاحكة، فيها فرحة واضحة، وطفولة، وإذا بالمدير، ثقيل الظل طول النهار، يتحول، مثلهم جميعا، إلى جذوة حماس وظرف و .... موهبة".
يروي شافيينسكي: "لا أحد يطلب مساعدة مني. بأنفسهم يزيحون من على مكتب المدير أوراقه، وبأنفسهم، والمدير معهم، يضعون المقاعد حول المكتب، ويجلسون جميعا، ويبدأ ما يشبه ’بروفة الترابيزة’ بل هو ’مسرح الترابيزة’. مسرح حقيقي، فيه موسيقاه وإن تكن من فونوغراف، وإضاءته وإن تكن من مصابيح الغرفة، وفيه فوق كل ذلك مواهب مشبوبة. كان بينهم المحاسب والطبيب والحارس وموظفة البريد ومدير المتحف، والسائق، والممرضة، والمعلمة، وكلهم، كلَّ ليلة، يلتفون حول خشبتهم التي لا يمكن اعتلاؤها، وقد عرف كل منهم دوره، وحفظ سطوره، وتبدأ حياة أخرى تدب في متحف يمر عليه النهار بغير حياة تقريبا. لا زلت إلى اليوم، وبعد كل هذه العقود، أستشعر سخونة دموعي على خدي، في مشهد سقوط المنجم على ’نتاشا’ وحدها في مسرحية ’الماسة’".
قضى شافيينسكي خمس سنوات كاملة يخدم في هذا المتحف، ويشاهد ذلك المسرح. يقول:
"بدأت أنا الصبي، الجاهل، خادم المتحف الذي لا يكاد يجيد القراءة والكتابة، المحروم من كل أشكال التثقيف، بدأت .. أكتب .. الشعر! لا أعرف كيف حدث الأمر. لا أملك أي تفسير. صبي لم يتلق غير قدر ضئيل من التعليم، لم يقرأ كتابا، تقريبا، لا يعرف عن الشعر أكثر مما يسمعه في الأغاني. بدأت أكتب الشعر. طبعا كان شعرا بالغ الرداءة، ولكنني إلى الآن، لم أزل أستمتع بهذا الانضباط الموسيقي وأدهش له. لا زلت بالفعل لا أفهم كيف كان يختبئ في أعماق نفسي المظلمة هذا الإيقاع وتختبئ هذه المقدرة على الكتابة المنضبطة الملتزمة موسيقيا. ولكن كل ذلك لا ينفي أنه كان شعرا رديئا. وكان لا بد أن ينهار منجم، وتموت في جوفه حالبة الأبقار نتاشا، بينما عامل المنجم أليوشا يشرب في الحانة ويرقص غير مدرك أنها هناك، تبحث عنه فلا تجد إلا هلاكها. كان لا بد أن تنسال كل تلك الدموع الساخنة لأعرف أنني لست شاعرا.
في تلك الليلة، انفض الممثلون، عادوا أطباء ومحاسبين وممرضات ومدير متحف. ونزل المدير معهم من باب المطبخ. وعندما رجع في الصباح، ودخل من الباب الرئيسي، لم يكن يعرف أن في انتظاره مفاجأة. كانت على مكتبه ’إحياء الماسة’".
يقول شافيينسكي:
"مر النهار، والمدير في مكتبه، لم يخرج، وأنا في المطبخ، لم أجلس ولم أقف. تذرعت مرات بالشاي أدخله إليه، فلم ينظر مرة ناحيتي. كان يقرأ، وكنت أرى أنه يقرأ ’إحياء الماسة’ .
كنت قد قضيت ليلة كاملة أكتب بلا توقف، في حالة كالحمى، وكنت أشعر طوال ذلك الوقت أنني أفعل شيئا عظيما ـ بالمقارنة طبعا مع قصائدي الرديئة، بل ربما مقارنة مع بعض العروض التي شاهدتها على مسرح الترابيزة. وكنت أتلهف لأعرف إن كان شعوري هذا في محله. كنت أنتظر لا رأيه، بل اعترافه.
وفي الليل، بدأ الأصدقاء يتوافدون من باب المطبخ، عابرين إلى الصالة، ومنها إلى الممر الضيق، فإلى غرفة المدير، وهنالك فعلوا ما يفعلونه كل ليلة، ولم يحدث ما كنت أتوقع: تعال يا نيقولاي، أريد أن أقدم لكم اليوم كاتبا عظيما، ها هو ذا نيقولاي شافيينسكي، الليلة سنبدأ في التدرب على مسرحية جديدة، إحياء الماسة، تأليف نيقولاي شافيينسكي. ولكن ذلك لم يحدث. أدوا مسرحية ما، وانفضت السهرة، وخرج من باب المطبخ الجميع، وما كادت الأقدام تنتهي كلها على بازلت الشارع، حتى التفت المدير من بينهم إليَّ: نيقولاي، غدا، السادسة والنصف صباحا بالضبط، محطة القطار، البس أفضل ما عندك".
في القطار، يقول شافيينسكي، ظل المدير صامتا، ينقر على مظروف فوق ركبتيه، كنت أحدث نفسي بأن فيه مسرحيتي، وصدق ظني. قال المدير إننا ذاهبان لمقابلة رجل مهم. وعظيم. قال إنه لم يلتق به من قبل، وإن المقابلة قد لا تثمر عن شيء، وفي هذه الحالة، سيتحتم عليّ أنا أن أبقى في موسكو، وأن أحاول مقابلته لاحقا لأقول له ما سيعلمني المدير إياه. ولكن لكل حادث حديثا. الآن، قال المدير، علينا أن نأمل أن ننجح في مقابلته. قال هذا وعاد فصمت من جديد. ثم قال: لو فشلنا يا نيقولاي، سيكون عليك أنت أن تحاول وحدك. أنا لا بد أن أرجع إلى المتحف. وسأعلمك ما ينبغي أن تقوله له عندما تقابله.
لا زلت إلى اليوم أشعر بفضول جارف إلى الكلمات التي كان سيعلمني إياها، فالذي حدث أننا قابلناه. أو، للدقة، هو قابله. هو دخل غرفته، وأنا بقيت في القاعة الملحقة بمكتبه. أستطيع أن أتخيل مدير المتحف، هذا الفنان الحقيقي، الذي ما كان يمكن له أن يبقى في موسكو لأكثر من نصف يوم، بعيدا عن متحفه، ومسرحه، وعرضه الليلي، أستطيع أن أتخيله منحنيا أمام وكيل الوزارة، يؤكد له أن ما بين يديه حقيقي، موهبة واعدة، وأنه لا بد للاتحاد السوفييتي أن يتبناها ويحتضنها. أتخيل ذلك، وأكثر، لأن البؤس الذي رأيته مرتسما على وجه هذا الرجل وهو خارج كان بؤسا حقيقيا. كان مدير المتحف يغمغم ذاهلا بما لم أسمعه إلا حينما وقف أمام وجهي، موشكا أن يلاصقه، وقال، وكأنه لا يكلمني أنا بالذات:
ـ يحتاج شاعرا .. يحتاج شاعرا ... نيقولاي!
نطق اسمي كمن خطرت له فكرة عبقرية، نطقه بنبرة أعلى قليلا، وكأنه ينوي أن يتبعه بقول مهم، فلما لم يجده، هوى صوته وقال كأنما من قاع بئر، وبخيبة محزنة:
ـ يحتاج شاعرا
قلت: ولكني أكتب شعرا يا سيدي المدير
لن تتخيلوا ما نطق به وجه ذلك الإنسان العظيم من فرحة. لم يستزدني، لم يطلب أن يسمع مني شعرا، أمسكني من يدي على الفور، و"اقتحم" ـ بكل معنى الكلمة ـ الباب الذي خرج منه للتو فإذا بي في المكتب الآخر، مكتب الوكيل، وإذا بمدير المتحف يقول:
ـ إنه شاعر يا سيدي، شاعر أيضا
بقدر فرحته، واجترائه على مكتب الوكيل، كانت خيبته وهو يسمع شعري، أو ذلك ما أتصوره. أما أنا فكانت عيناي منصبتين على الوكيل، الذي ازدادت سحنته الغبية غباء وهو يستزيدني، وينقر بأصابعه مع تفعيلاتي على ورقة فوق مكتبه فيها فتات بسكويت راح يهتز ويتواثب. ثم اكتمل غباؤه تماما حين قال:
ـ أنت موهوب فعلا يا ولد. اسمع! أنا شاعر مثلك، هل تريد أن أتلو قصيدتي؟ أنا فعلا عندي قصيدة منتفخة جدا ولكنني لا أحفظها مثلما تحفظ أبياتك. هي حوار بين دودة وفراشة، وترمز إلى حوار بين ملاك وشيطان. ولا تسألني ماذا يرمز لمن، فهذا لا أقوله لك. عموما لا وقت لدينا للقصيدة. عليك أن تستعد لتسافر. قريبا جدا أيها الولد السعيد تكون في وارسو.
في "سنواتي في المنفى"، يكتب شافيينسكي، ظللت أحاول أن أستنتج الكلمة التي قصد الوكيل أن يقولها بدلا من ’المنتفخة’. أو التي كان ينبغي أن أسمعها حينما سمعت بالخطأ وصفه لقصيدته بـ ’المنتفخة’. ولكن دونما جدوى.
***
تعرفون بقية الحكاية، أو يجدر بكم ذلك، أو يسهل عليكم. فالحكاية واردة في تقديم كل ترجمة لأي من أعمال شافيينسكي تقريبا، وهي واردة بإيجاز في "سنواتي في المنفى"، وبتفصيل في نوفيلا "المستشار"، ذلك أن هذه الحكاية هي تقريبا موضوع الرواية.
ليست "المستشار"، مع ذلك، سيرة ذاتية، ولكن من يتوقع من كاتب في روايته الأولى إلا أن يكتب سيرته هو، بطريقة أو بأخرى؟ يقول شافيينسكي:
"كنت أعرف بالفعل أنني لست شاعرا. كنت أعرف ذلك منذ كتبت ’إحياء الماسة’ قبل أسابيع. ولعل الوكيل في موسكو، الذي أوفدني إلى وارسو، كان يعرف ذلك. والبولنديون أيضا كانوا يعرفون ذلك. كانت المهانة التي تعرض لها الشاعر في وارسو موجهة إلى شخص كنته، ونبذته، خرجت منه خروج عنقاء من رمادها، خروج حية من جلدها. خروج موت وولادة في آن.
كنت أتأمل الجميع، لا أستثني الشاعر من بينهم، دون أن أعرف: لماذا يفعلون فيه كل هذا، لماذا يهينونه كل هذه الإهانة، لا أعني نفسي، ولا الشاعر، بل الاتحاد، الاتحاد السوفييتي، ذلك الوليد العملاق؟"
بهذه المباشرة يصل شافيينسكي إلى موضوعه. ليس موضوعه الشاعر المهان، أو المستشار الثقافي الجاهل، ولا تبجح البولنديين وتعاليهم المقيت، بل الاتحاد السوفييتي نفسه. وذلك ما يجعل محبي شافيينسكي وكارهيه يتناسون روايته هذه، محبوه لأنهم يرونها عملا ضعيفا للغاية من وجهة النظر الفنية، وكارهوه لأنهم يرون كيف أن ذلك الولد الذي يحاربونه بزعم أنه مجرد أداة في يد النظام، كان بالفعل، ومنذ بداياته الأولى، مجرد عاشق حقيقي لبلده. ولا شك أن غيري أقدر بالقطع على تعريفنا بنوعية الثقافة والدعاية والإعلام التي امتلك من خلالها الاتحاد السوفييتي في أقل من عشر سنوات مثل هذه المكانة في نفس ولد لم يكمل بعد عقدين من الزمن. ما الذي كان يعرفه نيقولاي فعلا عن الاتحاد السوفييتي وهو يكتب هذه الرواية، او لنقل ما الذي كان يعرفه حتى يكتب هذه الرواية؟
المؤكد أنه لم يكن يعرف الكثير، وإلا لادخر طاقته هذه للدفاع عن وطنه ضد أشياء أكثر أهمية من مجرد مستشار ثقافي هو نفسه وصفه بأنه ليس أكثر من "قملة"؟
"قملة، قملة ضخمة، ملأ الشراب وجهها حمرة، وكرشها بدانة، وعقلها هلاما. ولكن لعله لا يعرف أنه محض قملة تمتص أغلى دماء الاتحاد السوفييتي. لعله يتصور أنه المستشار الثقافي، المسئول الأول عن الثقافة السوفييتية في وارسو. لكنه في النهاية قملة. مزعجة ربما، ولكنها عابرة، مؤقتة، زائلة لا مراء. كم تعيش نملة؟ وكم يعيش وطن؟"
برغم استصغاره شأن هذا للمستشار الثقافي، يبقى شافيينسكي قادرا على رؤيته كإنسان، يقول: "ولكن كيف تأتى لإنسان، وهو علاوة على ذلك متعلم، وحاصل على درجة علمية رفيعة، أن يكون قملة؟"
عدم حصول شافيينسكي على فرصة لتلقي تعليم نظامي كان فيما يبدو نعمة عليه. فقد أنشأه ذلك مستقلا رغم أنفه، ترك له عقله تماما، ولو في الفترة المهمة من حياة كل إنسان، الطفولة والصبا والمراهقة، لم يلقنه أحد تاريخا، ولم يعلمه أحد طريقة معينة في حب الوطن، ولم يضع له أحد حدودا لا يتجاوزها تفكيره واطلاعه. هكذا، عرف ولد صغير في الثامنة عشرة من عمره أن المستشار الثقافي مجرد ضحية لعقود طويلة من الإيمان بالخطأ، من اتخاذ الخطـأ عقيدة ومنهجا ومعيارا.
"لم يكن المستشار الثقافي في طفولته يذهب إلى المدرسة إلا ليتعلم، لكنهم هم الذين علموه حتى صار هكذا، لم يولد المستشار الثقافي منافقا، ولا مدعيا، ولا كذابا، ولكنهم جعلوا من النفاق والادعاء والكذب مؤهلات لا للترقي وحسب، بل لمجرد الحياة، لم يكن ممكنا أن يعيش امرؤ في البلد الغابر إلا وفيه شيء من الفساد، شيء من القابلية للخطأ، شيئ من الـ قملة.
ولكن ماذا تكون قملة في جسد الاتحاد العملاق؟ ربما لا تكون شيئا، ولكن ألف قملة هي بلا شك شيء، وشيء واضح أيضا. بل وشيء كبير لو أنها جميعا تعتلي الوجه بقعةً مخزية".
الوجه؟ أم ترى يقصد الواجهة؟ أم هو ببساطة يقصد الصورة المقدَّمة للعالم، صورةَ الاتحاد السوفييتي المعلقةَ في وارسو وقد شوَّهت بهاءها قملة؟ ذلك ما أوجع المسرحي الشاب، بل المسرحي الصبي. أن يرى قملة تمثل ثقافة بلاده العظيمة. ولكن: ألم يكن هو نفسه قملة أخرى تشوه وجه الثقافة الروسية كلها؟ ألم يكن شافيينسكي مجرد قملة؟
"لماذا أنا؟ لماذا ولد صغير لم ينشر قصيدة في مجلة أو جريدة؟ لماذا مشروع شاعر فاشل؟ لماذا ليس شخصا آخر، أقدر على تمثيل الشعر والثقافة مني؟ لماذا لا أكون هنا لأستمع فقط، لأحتك، وأعرف، وأتعلم؟ ولو كان الوكيل الذي بعثني جاهلا، فلماذا يكون المستشار أيضا جاهلا فيقبل بي، ويضعني في صدارة مشهد أنا آخر من يصلح للتمثيل فيه؟"
لم تكن مهمة المستشار الثقافي هي التي افترضها شافيينسكي، في هذه السن المبكرة من حياته، قبل أن يعرف الكثير عن الثقافة أو حتى عن الدبلوماسية أو عن الحياة برمتها. مهمة المستشار الثقافي ليست أن يستشار ("يا إلهي! أي مصيبة سوف تحدث لو استشار أحد هذا الرجل القملة في شأن من شئون الثقافة؟"). لم يكن المطلوب من المستشار الثقافي ـ وربما لا يزال غير مطلوب منه ـ أن يمثل ثقافة بلده. كان اختيار شخص لتولي هذا المنصب يقتضي اشتراطين اثنين لا ثالث لهما: أن يكون جزءا من النظام، لا بمعنى الانتماء السياسي، بل بمعنى التكوين، أن يكون فاسدا أو قابلا للفساد، جاهلا أو قادرا على تحييد ما يعرف، والشرط الثاني أن يكون هناك من يريده في هذا المنصب، أو لا ينزعج من توليه له. ويقال إن العرف جرى على أن يتم الاختيار لهذا المنصب من بين الأكاديميين، فقد كان المستشار الثقافي في واقع الأمر مستشارا تعليميا، مهمته الواضحة هي أن يتابع الطلبة المبعوثين للدراسة في البلد التي يخدم فيها، يتابع مدى انتظامهم في دراستهم، ومدى استحقاقهم للمخصصات المالية التي يوفرها لهم الاتحاد، ويتابع نشاطهم، السياسي بالطبع، ويرفع تقارير حول هذا الأمر إلى عاصمة بلده. فقط. ويحدث أن تحتفل سفارة الاتحاد السوفييتي باليوم الوطني مثلا، فيطلب منه أن يشارك ثقافيا، فيشارك ثقافيا، وهل هناك مشكلة؟ وهل الثقافة ضد الاحتفال؟ الثقافة تحب الاحتفال، ترقص على الموسيقى، وتتبادل الأنخاب، تشرب حتى تحمر عيونها وخدودها وتنطرح في آخر الليل غائبة عن الوعي، إن كان لليل آخر.
"كل هذه الدماء الزكية النبيلة التي سالت لكي تطلع روسيا من بين رمادها، وتتبوأ المكانة التي تستحقها وسط دول العالم، لم تغير الكثير. بقي رجل كهذا المستشار الثقافي في مكانه، منسيا ربما، أو مؤديا دورا سريا لا تزال الحاجة قائمة إليه. والثقافة؟ وصورة الاتحاد؟ لا يهم. لا يهم أن يمثلها أكاديمي يعرف عن الأعلاف والبهائم وضروع الأبقار المنتفخة أكثر مما يعرف عن الثقافة المنتفخة. المنتفخة! أية كلمة يا ترى يحاولون قولها".
***
مشهد الرواية الأساسي، الذي لا يهرب منه شافيينسكي إلا ليجد نفسه فيه، ولا ينتهي منه إلا ليبدأ الكلام عنه من جديد، هو المشهد الذي تجري أحداثه ـ أم ترى الأجدر أن أقول وقائعه ـ في القاعة الكبرى بـ "مكتبة وارسو الوطنية" ـ وهي القاعة التي سوف يطلق عليها في مطلع قرن تال اسم الشاعر البولندي العظيم "زبجنيو هربرت". يكاد هذا المشهد يمثل وحده الدراما في الرواية كلها. ما عداه ليس إلا محض بكائيات من "الروائي" الشاب على الاتحاد السوفييتي الذي يحاربه أبناؤه، وتأملات في طبائع البشر لا تنقصها سذاجة كاتب في الثامنة عشرة من عمره، ومقترحات لتحسين الأداء الثقافي في الملحقيات الثقافية السوفييتية في الخارج. أما الدراما، فلا وجود لها إلا كلما وجد شافيينسكي نفسه مرغما على الرجوع إلى المكتبة الوطنية، إلى خشبة المسرح العريضة العميقة، المقعد الوحيد فوقها، بقعة الضوء الحارق، المسرح الخاوي، حرج انتظار الجمهور، المستشار الثقافي يضحك مع الضاحكين. تلك هي الثيمات الأكثر ترددا في وصف المشهد. يجلس الصبي ذو الثمانية عشرة عاما على مقعد ضائع وسط خشبة واسعة والضوء مسلط من فوقه، ولا أحد في الصالة. هنالك طلب منه المستشار الثقافي أن ينتظر، ويمر الوقت ولا تمتلئ الصالة. وأخيرا يدخل أعضاء السفارة وأصدقاؤهم في السفارات، فلا يملئون أكثر من الصف الأول. ينتقل المستشار الثقافي إلى خشبة المسرح، ويلقي خطبة على أصحابه:
 "كان واضحا أنه سكران. إلا لو كان مقبولا أن يصعد دبلوماسي ليلقي باسم بلاده خطبة وفي يده سيجار، وأزرار بنطاله مفتوحة؟
لغة كالروسية، أو كاليابانية. في هذه الليلة، ووسط هذا الجمع ’المنتفخ’، رأينا ألا نقدم لكم من الثقافة الروسية العظمى، ومن تاريخ الشعر الروسي ما تعرفونه بالفعل. رأينا أن نقدم لكم المستقبل. هذا الشاب الذي لم يدرس في مدرسة، ولم يقرأ كتابا، ولم ينشر قصيدة، بعد، نعم ينبغي أن أضيف ’بعد’. ولكن هذا هو مستقبل الشعر الروسي. فلا تسمعوا ما يقوله الآن، هأ هأ، لا تفهموني خطأ يا أصحابي، إنما أعني، لا تسمعوا فقط ما يقوله الآن، ولكن اسمعوا ما نثق أنه سيقوله في المستقبل، وما إلى ذلك".
نزل المستشار الثقافي. كان الضحك قد بدأ فعلا، والتعليقات أيضا. بمجرد أن قال المستشار ’لا تسمعوا ما يقوله الآن’ حتى ضحك الحاضرون. لم يطلب أحد من الشاعر أن يبدأ في قراءة قصائده، ولكن القاعة أظلمت، وازدادت بقعة الضوء من حوله حدة. أخرج الشاعر أوراقه، وبدأ يلقي قصائده. ويتعالى الضحك. متفرقا أول الأمر، خافتا، ثم جماعيا هادرا متصلا كأنما لا نهاية له. والولد يتعرق ويقرأ. وحينما أضيئت مصابيح القاعة في النهاية، رأى الولد كم كانت الفضيحة كبيرة، رأى القاعة مكتظة بالجمهور عن آخرها.
لا يعرف الشاعر ماذا عليه أن يفعل الآن. إنه واقف أمام كرسيه، لا هو مواجه للجمهور، ولا هو مواجه للمخرج الجانبي للخشبة. المستشار الثقافي يغالب الضحك ويطلب منه أن يشكر الحضور. يقول الشاعر "شكرا لكم، شكرا لحضوركم، شكرا".
ولا يبدو أن الضحك سيخفت، ولا أن الليلة يمكن أن تنتهي.



*سلسلة نشرت صحفيا في ملحق "مرايا" بجريدة عمان قبل شهور