وكاتب وما كتب *
الدوائر
كان
يمكن، بل وكان الطبيعي، أن تتصدر غلاف هذا الكتاب، دوائرُ من كل الأنواع. ولكن
"ليست هناك أنواع من الدوائر"، هكذا يقول الكتاب في مقدمته "إن هي
إلا دائرة واحدة".
كان يمكن
أن يعمد مصمم الغلاف إلى نثر دوائر عديدة متفاوتة الأحجام، وأن يجعلها ملونة
بالأحمر والأخضر والأصفر كأنها لبان "بم بم" في الزمان القديم. ولكنه
عمد إلى غير ذلك، بل إلى ما يبدو أنه نقيض ذلك. لقد وضع خطوطا مستقيمة، والخطوط
المستقيمة هي في نهاية الأمر أيضا دوائر. فهذا، إذن، ما يصادفه القارئ أول ما
يصادفه من هذا الكتاب: سبعة خطوط مستقيمة، عرضية، يمثل كل واحد فيها لونا من ألوان
الطيف. أما الغلاف الخلفي فمرآة للأول، حتى كلمات العنوان واسم الكاتب، يجدها
القارئ هناك، لكنها، معكوسة.
تلك إذن
دائرة أخرى، يصنعها كل واحد فينا ومرآته. أو هذا على الأقل رأي مصمم الغلاف. أما
الكاتب نفسه، وهو الذي قطع في مقدمته ـ كما سبقت الإشارة ـ إلى أنه لا وجود لأنواع
من الدوائر، بل دائرة واحدة، فيناقض نفسه. إذ هو على مدار الكتاب يتكلم عن نوعين
من الدوائر، واحدة منهما حقيقية. والأخرى دائما، مجاز. أو هكذا أتصور.
غير أن
الكاتب لن يصادف مفردة الدوائر إلا في عناوين الفصول متفاوتة الطول (بعضها لا
يتجاوز كلمة، أو كلمات قليلة، وبعضها يمتد حتى ليتصوره القارئ كتابا في الكتاب)،
أما عناوين الفصول فليست إلا كلمة الدائرة متبوعة برقم، ابتداء من "الدائرة
1" وصولا إلى "الدائرة 365".
أهي
يوميات إذن، لمؤلفها، أم هي يوميات للإنسان بعامة؟ هناك فصل في الكتاب هذا نصه:
"الخروج من البيت في الصباح، الرجوع إلى البيت في المساء"، هكذا، دونما
إشارة إلى القائم بفعل الخروج، أهو رجل أم امرأة، طفل أم شيخ، ثمة هذه الرغبة في
التجريد يصادفها القارئ في كثير من مواضع الكتاب. الخروج من البيت. الرجوع إلى
البيت. هذه دائرة تكتمل، وتكتمل كل يوم، وفي حياتي مثلما في حياتك مثلما في حياة
المؤلف.
وفي
الكتاب فصول ليس في الواحد منها سوى كلمة واحدة: هي "الرغيف" مرة،
و"الشمس" مرة أخرى، وكان بوسع الكاتب أن يفرد عشرات الفصول، بل ربما
المئات أو حتى الآلاف منها، لأسماء أشياء تأخذ شكل الدائرة، لكنه لم يفعل هذا إلا
مع "الرغيف والشمس والعملة". وفيما عدا ذلك بقي يتأمل، حينا في أن الدائرة
تصلح منهج حياة، مسارا إنسانيا، خاليا من الزوايا الحادة، لا يخلو من لين وحرص على
الإحاطة لا على الاستبعاد.
وحينا
يراها قيدا، مسارا جبريا، ويتساءل: هل يملك الدم إلا أن يخرج مطرودا من القلب
ليرجع إليه في نهاية المطاف مشدودا بقوة لا يعرف لها كنها؟ ويتساءل: هل يملك الماء
إلا أن يتبخر ليتكاثف ليتقطر في دورة وجود لا يثبت/عذاب لا تنتهي؟ ويتساءل: هل
يملك الإنسان إلا أن يذوب في التراب ليصبح ثمرا يأكله أخوه الإنسان من بعد؟
ويتساءل: ما الذي أراد الإنسان أن يذكِّر نفسه به حينما اختار هذا الشكل بالذات
للعملة، لأول عملة، وللعملة التي بقيت إلى الآن صامدة برغم تغير كل شيء تقريبا في
حياتنا؟ وما الذي يريد الإنسان أن يذكّر نفسه به حينما يجعل علامة مرور عام من
حياته كعكة مدورة تقطع إربا وتؤكل وتهضم وترتد إلى الطبيعة لتؤكل مرة أخرى؟ وما
الذي يريد الإنسان أن يذكِّر نفسه به حينما يجعل ساعة المعصم على شكلها الدائري،
والختم على جواز السفر، والكوب الذي يشرب فيه ما ينبهه وما يغيبه، المر والحلو،
الساخن والبارد ..... ؟
وفي
الكتاب فصل فيه ليس فيه إلا ما يلي:
انا
ما تبدأ
به تنتهي به
وفي
منتصفها نون
نون
ما تبدأ
به تنتهي به
وفي
منتصفها واو
واو
ما تبدأ
به تنتهي به
وفي
منتصفها ألف
وألف خط
مستقيم
والألف
لا يبدأ
والألف
لا ينتهي
*سلسلة نشرت صحفيا في ملحق "مرايا" بجريدة عمان قبل شهور