Tuesday, April 30, 2013

كلام عن الوكيل ومرسال ومكاوي



فى مديح الطبعة الثانية
كلام عن الوكيل ومرسال ومكاوي

صدرت مؤخرا الطبعة الثانية من رواية "فوق الحياة قليلا" للسيد الوكيل، وقرأت أن طبعة ثانية قد صدرت من ديوان "ممر معتم يصلح لتعلم الرقص" لإيمان مرسال، فى الوقت الذى أقرأ فيه كتاب "للحب والحرية" الصادر فى 2003 عن المجلس الأعلى للثقافة والذى أعاد فيه الأستاذ الدكتور عبد الغفار مكاوى نشر قصائد كان قد ترجمها فى كتابه الفذ "ثورة الشعر الحديث" وغيره من كتبه الرائدة.
حين صدرت "فوق الحياة قليلا" كنت ذلك المجذوب ـ ولا أزال ـ بنجيب محفوظ، كما كنت شغوفا بالغيطانى والبساطى وصنع الله والمخزنجى وابراهيم أصلان وابراهيم عبد المجيد، وصار علىَّ أن أضيف إلى قائمة المفضلين لدىَّ اسم سيد الوكيل. رغم أننى لم أكن قرأت له حتى ذلك الحين إلا تلك الرواية.
فى هذه الرواية صيد ثمين ظفر به الوكيل حين تناول حالة الكاتب العائش "فوق الحياة قليلا"، ليس بما له من إحساس مرهف ـ أو مفرط ـ بذاته، بل بما له من قدرة على رصد هذه الذات وتفاصيل حياتها كافة وكأنها حياة أخرى لكائن آخر. كانت الرواية أكبر من صيد، بدت لى تشخيصا دقيقا لمرض كنت أستشعر أنه تلبسنى منذ وقت مبكر من حياتى، من قبل أن أمسك قلما أو أخط حرفا، مرض جعلنى ـ ولا يزال ـ أتعقب ذاتى فى كل ما تفعل، أرصدها وأسائلها محاولا أن أعرف فى كل لحظة ما الذى أفعله ولماذا، هل أستمتع به، هل أنا صادق فى هذا الذى أفعله أو أحس به .... أسئلة طالما جعلتنى خارجا قليلا عن كل حالة أعيشها، كأنى ممثل دائم، يرتجل ربما، ولكن على خشبة مسرح أنا جمهورها الوحيد الذى يعرف أنها مجرد مسرحية، أم أنها ليست كذلك؟
هكذا كانت قراءتى للرواية، ولا أدرى إن كانت القراءة الثانية ستصل بى أيضا إلى تغليب هذا المستوى من القراءة على غيره أم سأنتبه إلى ألعاب أخرى أذكر أن الرواية تحفل بها؟
كنت كلما سألت أحدا عن رأيه فى "فوق الحياة قليلا" لا يزيد عن قوله إن فيها أثرا من كونديرا. لماذا لم ينتقص من بورخيس أن فيه أثرا من ألف ليلة وليلة؟ لماذا لم يعق ذلك الأثر النقاد عن العكوف على إبداع بورخيس (وأضع خطا سميكا تحت كلمة إبداع)؟ أليست الفرشاة مشاعا للرسامين من كل الاتجاهات؟ ألا يتمايز الرسامون رغم أنوفهم وإن انتموا إلى اتجاه فنى واحد؟ كل هذه أسئلة أظنها كانت كفيلة بالرد على من يكتفون بالإشارة إلى أثر كونديرا على الوكيل، ولكنها أسئلة لم أكن أثيرها، بل كنت اكتفى بصمت قليل الحيلة مرده أننى لم أكن ـ ولعلى لا أزال ـ قادرا على الدفاع عن عمل أحببته، أو الهجوم على عمل نفرت منه. لم أكن مدربا بعد على الكلام. ألم يحدث فى ذلك الوقت أن قرأ "محمود حامد" قصة فى "ندوة المسا" وقلت "إنها لم تعجبنى ولا أعرف لماذا"، فانتفض سيد الوكيل معترضا على هذا النقد الطفولى، ولولا مساندة الأستاذ محمد جبريل لى لكنت أنا الذى انقطع عن الندوة إلى الآن، وليس سيد الوكيل.
إن فرحتى بالطبعة الثانية من "فوق الحياة قليلا" تكمن فى كونها فرصة ثانية ليعيد قراءتها من وضعوا عليها بسرعة أقرب اللوافت إلى أيديهم، وليقرأها من لم يقرأ طبعتها الأولى، خاصة وأنها تصدر هذه المرة فى عدد أكبر ـ كما أظن ـ من النسخ ضمن إصدارات مكتبة الأسرة.
أما إيمان مرسال فصدر ديوانها البديع "ممر معتم يصلح لتعلم الرقص" وكنت متوقفا عن كتابة الشعر (الذى كنت أكتبه حتى ذلك الحين موزونا، بل وموزونا مقفى أحيانا)، وصاحبت صدوره جلبة إطراء جعلتنى أتحاشاه طويلا كما أتحاشى كثيرا مما يروج له المثقفون. ثم قرأته، وأقرأته ـ ولا أزال أفعل ـ للكثيرين حتى اهترأت صفحاته وحال بياض غلافه وها هى الفرصة تواتينى لاسترداده من جديد ببهائه الأول.
لم أعد إلى كتابة الشعر فور قراءتى لهذا الديوان. لكنه كان سببا فى استعادتى لإيمانى بالشعر. فمشكلتى التى لا زلت لا أجد لها حلا هى أننى أبادل الشعر حين يهجرنى هجرا بهجر، وليت موقفى هذا يكون عن عمد. الأمر أن كتابتى للشعر هى التى تجدد إيمانى بمعناه وضرورته، وبتوقفى عن الكتابة أجدنى عازفا عن القراءة أيضا، شاعرا بزيف الشعر وافتعاله. وجاء ديوان إيمان ليكشف لى عن إمكانات للشعر كانت غائبة عنى.
فى إحدى قصائد هذا الديوان تقول إيمان مرسال (وأكتب من الذاكرة): "أما أنا فأكاد أوقن أننى أفضح نفسى لأختفى خلفها".
أليس ثمة صلة بين هذا المعنى والمعنى الذى رأيت أنه كان أحد شواغل سيد الوكيل فى "فوق الحياة قليلا"؟ أحسب أن الصلة قائمة؛ فإذا كانت الرواية قد كشفت عن ذاتين للكاتب كل منهما ترقب الأخرى دون هوادة، فإيمان تكشف عن ذاتين إحداهما تُرسٌ للأخرى ـ ولا أريد أن أقول قناعا. فالأمر لا يعدو أن ذاتا تكتب نفسها بصدق، وما أن تفعل حتى تصبح الذات الكاتبة ذاتا أكبر، ذاتا حاوية للذات المكتوبة، ذاتا جديدة، وكأننا أمام مقلوب فكرة الدارما البوذية. وكأنما كان هذا المعنى يحضرنى حين كتبت "أنا .. أنا الذى كلما قلت: هذا أنا .. صرت غيرى .. وأبدا .. لم تلاحق المرايا ملامح وجهى .. وأبدا".
وكثيرا ما حدث لى وقد فرغت للتو من كتابة قصيدة أن عدت إلى ديوان إيمان لأتثبت أن عبارة بنصها أو معنى أو صورة لم تتسلل منها  إلى قصيدتى. إلى هذا الحد تشبعت بالطرح الجمالى الذى قدمه "ممر معتم".
وإذا لم أكن الشخص المناسب للحديث عن هذا الطرح الجمالى حديثا يصغى له النقاد والعارفون، فبوسعى الزعم بأن التوجه الجمالى لهذا الديوان ـ ودواوين أخرى لأسامه الدناصورى ومحمود الحلوانى وفارس خضر وعلى منصور وقليلون غيرهم ـ ليس مجرد "كتابة اعترافية" أو "كتابة للذات" كما قيل عنه، وإنما هو بالدرجة الأكبر كتابة تستهدف الذات، أقصد ذات الشاعر/القارئ فى آن، ذات الإنسان الذى "يقرأ إميلى ديكنسن ليعرف شيئا عن ذاته هو لا عن ذات إميلى ديكنسن" كما يقول بيلى كولينز الشاعر الأمريكى الجميل.
ويا لدلالة الطبعة الثانية، التى تؤكد أن هذا الطرح الجمالى قد تأكد بعد مرور سنوات.
وأيضا كان "ممر معتم يصلح لتعلم الرقص" ـ ولاحظوا أن لى ديوانا عنوانه "طريق جانبى ينتهى بنافورة" ـ  النموذج الأكثر إصرارا على حسٍّ لغوىِّ أزعم أنه الذى ساد المشهد الشعرى المصرى حتى الآن. لا أقول إنه أول من قدم هذا الحس، وإنما هو الذى ـ فى رأيى ـ كان الأكثر استيعابا له والأحرص عليه.
ربما لا أستطيع توصيف هذا الحس بدقة، ولكنى أقول إن ترجمة الشعر كما قام بها المهدى أخريف مثلا، والرواية كما قام بها صالح علمانى وغيره من الشوام، وربما انتشار حساسيات أخرى فى التعامل مع اللغة العربية عبر الفضائيات المختلفة، كشف فى اللغة العربية عن قدرات لم تكن بارزة بشكل كاف. وأجازف فأقول إنه كشف عن (جماليات للركاكة) كانت غائبة عن وارثى عبد الصبور وأقرانه. ولعلى أدلل على هذا الحس اللغوى بقصيدة للوركا كان الأستاذ الدكتور عبد الغفار مكاوى قد ترجمها فى ثورة الشعر الحديث، هذا نصها
إن متُّ
دعوا الشرفة مفتوحة.
الصبى يأكل البرتقال.
(من شرفتى أراه).
الحصَّاد يحصد القمح.
(من شرفتى أراه).
إن متُّ.
دعوا الشرفة مفتوحة.
ثم أعاد النظر فيها ـ أم أعاد ترجمتها ـ فى كتابه "للحب والحرية" لتجىء على النحو التالى:
إن متُّ
خلوا شرفتى مفتوحة.
الولد الصغير
يأكل برتقالة
(من شرفتى أراه).

والزارع الفقير
يحصد قمحه.
(من شرفتى أراه).
إن متُّ
خلوا شرفتى مفتوحة.
لأمر ما آثرت الترجمة الأحدث أن تتخلى عن جزالة "الصبى" لصالح براءة وطفولية ـ وركاكة؟ ـ "الولد الصغير". لأمر ما آثرت على "الشرفة" التى سيعرف كل قارئ للقصيدة أنها شرفة الذات المتكلمة صيغةَ "شرفتى" بما فيها من حميمية وذاتية وإيحاء بنبرة وصية المحتضر فى القصيدة. ولأمر ما آثرت الترجمة "خلوا" على "دعوا" و"المزارع" على "الحصَّاد" و"قمحه" على "القمح" و"البرتقالة" على "البرتقال".
لأمر ما، لعله غزارة نمط لغوى بعينه ظل الشعراء يكتبونه منذ ما يزيد على عقد، وسمح له مكاوى ـ بما له من عقل متفتح ـ بالتسلل إلى معجمه، وهو المترجم والمفكر الذى ساهم فى تكوين عشرات من معاجم الجيب التى ظل الشعراء من أجيال واتجاهات شتى يعيدون الرجوع إليها وهم يكتبون للحب وللحرية.
كان هذا المقال قد نشر في موقع الامبراطور في 9 يناير 2005 ولكنه الآن غير متاح على الموقع