Saturday, September 28, 2024

رفات المتعة

رفات المتعة



تعزو آراء كثيرة نشر رواية (موعدنا في شهر آب) لجابرييل جارثيا ماركيز بعد وفاته إلى العقوق والجشع. فالكاتب الكولومبي كان قد أوصى ولديه بعدم نشر الرواية التي أكملها أو قطع أشواطا كبيرة فيها وهو يعاني من خرف الشيخوخة الذي أنساه كل شيء حتى بات يقرأ مؤلفاته نفسها فلا يعرف أنها مؤلفاته إلا بعد أن ينتهي من قراءتها ويصادف على أغلفتها الأخيرة صورته الشخصية، أو ذلك ما يحكيه ابنه رودريجو ماركيز (في كتابه "في وداع غابو ومرسيدس: مذكرات عن غابرييل غارثيا ماركيز ومرسيدس بارتشا، يرويها ابنهما رودريغو غارثيا"، الصادر بترجمتي عن دار أثر للنشر والتوزيع).

ويمكن أن نشم في ذلك بعضا من رائحة الطبخة التي ألزم ماركيز نفسه بها في قوله الصدق عن نفسه، لكنه الصدق المكلل بهالة من المبالغة المكشوفة والمحببة أيضا.

بسبب الخرف إذن، في ما يفترض، رأى ماركيز أن مغامرته الروائية الأخيرة التي صدرت بالعربية بعنوان "موعدنا في شهر آب" وترجمة جميلة من وضاح محمود لنا فيها عزاء عن فقدنا للكبير صالح علماني، لا ترقى إلى الانضمام إلى باقة أعماله، فأوصى ولديه بحبسها، وخالف ولداه الوصية، وبرَّرا ذلك في مقدمة للرواية مثبتة في الطبعة العربية، شأن تعليق يذيلها حكى فيه المحرر كريستوبال بيرا حكاية إشرافه على نشر العمل الأخير للساحر الكولومبي الراحل.

لكن الحق أن تفسيرا دنيويا من قبيل العقوق أو الجشع لا يليق بماركيز. فضلا عن أنه لا داعي لتفسير، فما الغريب أصلا في أن يستمر ماركيز في الكتابة، والنشر، بعد وفاته، وهو الذي أرانا من قبل أن الموت لم يمنع شعر فتاة من مواصلة النمو في قبرها حتى بات طوله أقداما عديدة؟ أتصور أن إصدار كاتب ميت رواية بعد وفاته معجزة أبسط ـ على عقل قارئ ماركيز ـ من فتاة تموت ويبقى شعرها حيا.




لم أصادف في الصحافة الثقافية الأنجلوفونية صوتا ينتصر لنشر الرواية، كأنما أراد الجميع أن يوجهوا إلى ماركيز رسالة جماعية حازمة ومذعورة: من فضلك الزم قبرك، ولا تتدخل في الصورة المستقرة لدينا عنك، وعن الموت أيضا. كما أنني لم أصادف ـ فضلا عن الجانب الأخلاقي الذي تذرع به الجميع ـ من انتصر للرواية على المستوى الفني، فالجميع رأوا لغة ماركيز أدنى من رفعتها المعهودة، ومجازه مكررا، وإيروتيكيته مبتذلة بعض الشيء، أو هم ببساطة لم يجدوا ماركيز القديم الذي يعرفون.

"موعدنا في شهر آب" نوفيلا، ولماركيز باع في هذا القالب مثلما تشهد "ليس لدى الكولونيل من يكاتبه" و"ذكريات غانياتي الحزانى" و"سرد وقائع موت معلن". وفي النوفيلا الجديدة شيء من روح المعالجات السينمائية التي نصادفها في بعض كتب ماركيز غير الروائية. وليس فيها أثر من (ملحمية مئة عام من العزلة)، أو طول نفس (الحب في زمن الكوليرا)، أو شعرية (خريف البطريرك). ومن هنا غرابتها في عالم ماركيز، حتى يمكننا القول إنها رواية اجتماعية، أو نستحضر عند التفكير فيها عبارات من قبيل أزمة منتصف العمر، أو التفكك الأسري، أو مصاعب التعامل مع ابنة مراهقة، لولا لمسة ماركيز التي لا يغيِّبها الخرف ولا تنال منها الشيخوخة، ويعرف لها الموت نفسه قدرها.

بطلة الرواية امرأة تجاوزت الأربعين، هي آنا مجدلينا باخ، متزوجة منذ قرابة ثلاثة عقود، تعيش وزوجها ـ قائد الأوركسترا ـ حياة جنسية ثرية قادرة على معالجة العثرات والالتفاف على الملل. تقرر زيارة قبر أمها المدفونة في جزيرة في يوم معين من أغسطس، وهناك تجد نفسها في علاقة غرامية عابرة، بل هي ما يعرف بعلاقة الليلة الواحدة. وتتكرر المغامرة كل عام لبضع سنوات.

شأن أي فيلم أمريكي بسيط، تعاني الزوجة المارقة في الرواية توترا بين الندم والإثارة، تتغير علاقتها بزوجها صعودا وهبوطا، تفلح بعض مغامراتها السنوية، وتخفق، وتكتشف بأثر رجعي أنها أوشكت في إحداها على الهلاك، وشأن أي فيلم أمريكي تتناثر مشاهد إيروتيكية على امتداد النوفيلا.

لا واقعية سحرية إذن، فما من امرأة ترتقي إلى السماء بملاءاتها. ولا توتر يحبس الأنفاس، فما من قتل وما من سنتياجو نصار. لا شيء مما يألفه قارئ ماركيز. ولكن لمسة الساحر تصيب القصة العادية فترتقي بها قليلا. وتأتي هذه اللمسة بيسر شديد، وضربات سريعة من فرشاة طويلة المراس، فتحول كل ما ابتذلته السينما والدراما التليفزيونية إلى مادة للأدب. وتصبح العلاقة الغرامية الممجوجة رحلة حج سنوية، فيها سفينة، وجزيرة، وفرق موسيقية "تصلح ألحانها للأحلام أكثر مما تصلح للرقص"، وفيها قبر لا بد له من زنابق، وامرأة تفضي لأمها الراحلة بتقرير سنوي عن حياتها، وتجد الأم الميتة طريقة ما للرد.

وباللمسة السحرية أيضا تكون أزمة المراهقة حيرة بين عربدة الليل برفقة الموسيقيين من ناحية، والرهبنة على طريقة الراهبات الكرمليات الحافيات من ناحية!

وتحل لمسة ماركيز أيضا على العشاق العابرين، الذي لا يحتل أحدهم من الكتاب أكثر من صفحات قليلات لا نكاد نعرف فيها اسمه أو نتيقن من شخصيته، فنجد أحدهم أسقفا، والآخر نصابا متخصصا في حب النساء ومطلوبا في نصف دول القارة، وآخر يتبين أن من وراء مظهره السقيم وشخصيته المنفرة عاشقا قديما لبطلة الرواية لا تشفع له دموعه الذليلة عندها ولا تعفيه من قسوتها عليه.

تسهل قراءة "موعدنا في آب" قراءة تسلية نتنقل فيها مع آنا مجدلينا من عشيق إلى عشيق، وبين مغامرة مكتملة وأخرى مجهضة، نرصد التغير في استعدادها لكل ليلة، وتطور انتقائها لثياب الحب، وماهية الكتاب المرافق لرحلتها، ومراوحتها بين دوري الفريسة والصياد على مدى السنين، وصولا إلى المحطة الأخيرة، وقد باتت في الخمسين، إذ تجهض بنفسها ليلتها الأخيرة مع عشيق يصغرها كثيرا. ونكون بهذه القراءة إزاء حكاية عن الشيخوخة، وسلطان الزمن على الناس.

ويمكن أيضا أن نقرأ من وراء ذلك صراعا، لا يبرزه ماركيز ولا يطمسه، بين قوتين تتنافسان على آنا مجدلينا، قوة تستشعرها فور أن تذوق المتعة العابرة، السرية، خارج إطار الزواج، فتثور على "عاثر حظها في أن تكون امرأة في عالم يسوده الرجال". وقوة أخرى تجعلها تصرخ في وجه ابنتها المراهقة حين تعلم باستعمالها وسيلة دائمة لمنع الحمل، وتجعلها ترفض خيانات زوجها المماثلة لخياناتها فهو رفض منها لنفسها أيضا، وتجعلها تعيش سنين طويلة دون أن تتخلص من إحساس الإهانة من عشرين دولارا تركها عشيقها الأول ثمنا لليلتهما معا. ثمة عدا قوة اللذة قوة أخرى تجعلها فور أن تنتهي اللذة ترى بيتها خربا، فيصيبها الذعر من "الكارثة التي حلت فيه...لاحظت أن الطيور لم تعد تغرد في أقفاصها، وأن أصص الأزهار الأمازونية، والسراخس المدلاة، والعرائش المتسلقة ذات الأزهار الزرقاء اختفت عن التراس الداخلي" إلى أن أدركت أن "التبدلات التي تتراءى لها في العالم المحيط بها إنما هي فيها هي ذاتها".

ثمة هذه القوة القاهرة التي تدفع آنا مجدلينا إلى حجها المحرم عاما بعد عام، وقوة أخرى معاكسة وإن بدت على مدار الرواية أقل أثرا، وأضعف توجيها للمسار. غير أن الزمن يلعب لصالح إحدى القوتين دون الأخرى.

لا أعتقد أن أحدا قد يستشعر وعيدا في عنوان هذه الرواية قبل أن يقرأها، ولكنني أتصور أن لحظة تأتي في ثنايا القراءة فيجد القارئ في عبارة "موعدنا في شهر آب" تهديدا، موجها إلى العشيق الأول، صاحب الدولارات العشرين، الذي صارح آنا مجدلينا مبكرا بما حولت إليه نفسها، فظلت تصيبها نوبات أرق قاتل على مدار السنين، وظلت تطارد العشيق الأول ـ دون جدوى ـ لترمي في وجهه نقوده.

ثم يتبين في صفحات الرواية الأخيرة هدف آخر محتمل لذلك الوعيد. إذ يباغتنا ماركيز في الصفحات الأخيرة بأن آنا مجدلينا ليست الزائر الوحيد لقبر أمها، ففي الزيارة الأخيرة تجد أكوام زهور على القبر، وتعرف أن عشيقا لأمها ـ وسببا لترددها على الجزيرة في حياتها ووصيتها بأن تدفن فيها ـ كان يتعهد القبر بالزيارة والزهور. فعرفت آنا مجدلينا "أنها أكملت حياة أمها بعد مماتها" و"ضاق صدر آنا مجدلينا بشدة".

ثم يباغتنا ماركيز أخيرا مباغتته الأخيرة. ففي غداة ليلتها الأخيرة في الجزيرة، وبعد  أن رفضت العشيق الشاب ورفضت معه أن تتحول من عاهرة بعشرين دولار إلى عجوز تتسول فحولة الشباب، اضطرت آنا مجدلينا "لانتظار حارس المقبرة ساعتين كي يعلمها بالإجراءات اللازمة لاستخراج رفات أمها من المقبرة".

عمليا، رفضت آنا مجدلينا تنفيذ وصية أمها، كما سيرفض رودريجو وجونثالو تنفيذ وصية ماركيز لاحقا، ورجعت إلى بيتها، من جزيرة الحياة والموت تلك، ولا شيء تحمله عدا كيس عظام.

هل كان الوعيد لذلك العشيق الذي لا بد أن يتخيل القارئ فجيعته حين يزور قبر حبيبته فيجدها ماتت مرة أخرى؟ أم كان الوعيد لأم أخفت عشقها عن ابنة لم تخف عنها سرا؟ أم كان الوعيد، والموعد، لآنا مجدلينا نفسها؟ فمع من، أم مع ماذا، كان ذلك الموعد المضروب في شهر آب؟ مع المتعة، أم مع الرفات الذي تصير إليه كل متعة؟ أم هو موعدنا نحن مع مقولة أخيرة من الروائي الذي صاحبنا منذ صبانا: علينا أن نعزل بعض المتع في جزيرة يجدر بنا أن نضمن ألا نموت فيها.

نشرت المقالة في مجلة إبداع 2024