Thursday, September 19, 2024

في إيثار المقهى على الورشة

 

في إيثار المقهى على الورشة


واضح أن لسان العرب لم يكن يحتوي كلمة تعني "الورشة" فتصلح ترجمة لكلمة workshop الإنجليزية. ولذلك اضطر آباء لنا إلى هذا التعريب الجميل بأخذهم الواو والراء من work والشين من shop مع إضافة ساحرة لـ(تاء التأنيث) ويا لها من لمسة تكشف كم كان أولئك القوم مطمئنين وهم يدخلون في لغتهم كلمة غريبة، ببساطة من يضيف في بيته الخاص ستارة أو نافذة.

غريب إذن مفهوم الورشة على اللغة العربية، والثقافة العربية من ثم، لكنني لا أعتزم أن أستند إلى هذا لأقول إن مفهوم التدريب العملي على حرفة الأدب دخيل علينا. ففي ذاكرة الأدب العربي واقعتان تقولان عكس ذلك.

في إحدى الواقعتين يأتي صبي إلى خلف الأحمر ويستأذنه في قول الشعر فيشترط عليه أن يحفظ ألف بيت من شعر العرب، وحين يرجع الصبي وقد حفظها، يشترط عليه أن ينساها، فيذهب الصبي إلى دير يمكث فيه حتى ينسى. ثم يؤذن له أخيرا بقول الشعر، فيصبح أبا نواس.

وفي الثانية يأتي شاعر إلى أبي تمام ليأخذ عنه الشعر، بعد أن كان ينظمه معتمدا على طبع سليم، فيوجه إليه أبو تمام نصائح من قبيل أن يكتب في السَحر بعد قسط من الراحة، وأن يكتب وهو خال من الهموم والغموم إلى آخر ذلك مما لا نعلم هل أخذ به الشاب أم أهمله، لكننا نعلم أنه أصبح البحتري.

وفي الغرب نفسه، وقبل استحداث "الورشة الأدبية" وتدريس الكتابة الإبداعية، لدينا نموذج ورشة تلقائية، غير رسمية، لا سلطة فيها للأستاذ على التلميذ إلا التي يحددها التلميذ بنفسه، ولا شهادة تخرج، ولا وعد بالنشر، ولا تكلفة زهيدة أو باهظة تخرج الأمر كله من فعل الأدب إلى ممارسة التجارة. بطلا هذه الحكاية هما الشاعران الأمريكيان إزرا باوند ودبليو إس ميروين، وتجري في عنبر بمستشفى المجانين، ويا له من مكان مثالي لتعليم كتابة الشعر.

يحكي ميروين أنه حج إلى إزرا باوند في أواخر عمره وقد استقر في مستشفى للأمراض العقلية بدلا من السجن أو ما هو أسوأ بعد إدانته بتهمة موالاة الفاشية في الحرب العالمية. نصح الشاعر الكبير تلميذه قائلا إن عليه ليبرع في الشعر أن يكتبه كل يوم، ولأنه في عمره الصغير ذلك، ولم يكن ميروين قد تجاوز العشرين، لن يجد ما يكتبه كل يوم، فعليه أن يترجم الشعر، أي شعر، ليحافظ على لياقة مفاصل أصابعه بتعبير راسل إدسن.

في الوقائع الثلاث نجحت الورش في تخريج ثلاث دفعات ممتازة، وفيها جميعا يجدر بنا أن ننتبه إلى أن التلميذ هو الذي اختار الأستاذ، بل وهو الذي اختار المنهج أيضا في حالتين، فما الذي فرضه خلف الأحمر فعلا على تلميذه؟ إنما أراده فقط أن يتصعلك في شعر العرب، فلم يفرض عليه مثلا امرأ القيس إذا ركب، أو زهيرا إذا رغب، أو النابغة إذا رهب، أو الأعشى إذا شرب. وما الذي "فرضه" باوند على ميروين الشاب؟ ليس إلا أن يترجم، أي أن يقترب من الشعر اقتراب مبدعيه الأصليين منه، لم يلزمه حتى بالمؤسسين الأوائل في اليونانية أو اللاتينية، أو بالكلاسيكيين في الإنجليزية، لم يغره حتى بأن ينهل من هايكو اليابانيين الذي كان باوند أول من عرّف الغرب به. لم يزد باوند عن فتح باب للشاعر الصغير على المتاهة العظيمة التي سيؤسس فيها لاحقا ركنه الصغير.

أما أبو تمام، فلا أفسر نصيحته إلا بأحد أمرين، إما أن التليمذ أتاه مكتمل الأدوات، بغير حاجة إلى أكثر من المساعدة في تنظيم وقته، أو أنه أراد أن يصرفه عنه بنصيحة عامة. وفي كلتا الحالتين أنتج أبو تمام منافسه وشريكه في الذكر حتى يومنا هذا، ونقيضه بمعنى من المعاني.

لم ينتج أي من الأساتذة الثلاثة في الورش الثلاث نسخة منه، لأن أحدا منهم لم يعلم تلميذه كيف يحكم التشبيه أو يخلق المجاز أو يستهل القصيدة. كلهم ألقوا تلاميذهم في البحر واثقين أن النجاة لن تكتب إلا لمن يستحقها، وكذلك الغرق. ولا أتصور أن أحدا من أولئك الأساتذة كان ليقبل لعب هذا الدور إذا ما (تمأسس)، مع أنهم لعبوه عن طيب خاطر غير مأجورين عليه أو مرغمين، وذلك هو المألوف في ما أتصور في تاريخ الأدب في كل الثقافات.

كثيرا ما يحلو لي الظن بأن بدعة مأسسة ورش الكتابة ما ظهرت إلا لتحل مشكلة أمريكية، وهي مشكلة جغرافية وديمجرافية، ثم لتشبع جشعا أمريكيا أيضا.

فليست الولايات المتحدة الأمريكية بلدا كالبلاد التي نعرفها، بل إن الترجمة الأنسب في عصرنا هذا لاسمها هي "الدول الأمريكية المتحدة"، ولولا أن ترجمة الاسم تمت حينما كانت الدول العربية "ولايات" عثمانية لما ترجمت قط إلى "الولايات" (والعهدة في هذا على أستاذنا الراحل الدكتور محمد عناني). وفي حين أن كلمة الولاية توحي لنا بمثل ما توحي به كلمة "المحافظة"، فإن كلمة الدولة تكشف عن وضع أمريكا الجغرافي فعلا، وعن المسافات الشاسعة بين "الولايات" والبلدات والمدن، وعن صعوبة حقيقية تحول دون التواصل بين أهل هذه التجمعات السكنية، بما يمنع فعلا تكوين وسط ثقافي حقيقي يسهل فيه التقاء الكتاب الناشئين خضر العيدان بالراسخين المحنكين، ويسهل فيه انتقال الخبرات، وتبادل المخطوطات، وتكثر اللقاءات البسيطة حول طاولات المقاهي، حيث تنتفي السلطة، ويختار التلميذ أساتذته.

في ظل تلك المصاعب، كان لا بد من اصطناع وسط يجمع المتمرسين بالكتابة مع المبتدئين فيها، فكانت الورش، وأقسام تدريس الكتابة الإبداعية، ومشاريع التخرج (يا له من تعبير أوله التجارة وآخره الامتحان!)، ثم يتحول ذلك آجلا أم عاجلا إلى تجارة واضحة، وبدلا من بضع حلقات حول بضعة أدباء موهوبين ومتحققين، تتسرطن الورشة إلى مئات الورشات، ويتولى أمرها المتوسطون أو الدخلاء، وبدلا من كاتب حقيقي قادر على رؤية بذرة الموهبة في كاتب مبتدئ، أو الطموح الجمالي حين يتجاوز الأدوات الوليدة، إذا بأولئك المتوسطين والدخلاء يستنبطون قوالب يقيسون بها الجديد على القديم، فيقررون وصفات محددة للرواية، وأخرى للقصيدة، وللقصة، ويجعلون من عمل جوهره التدريب على المروق ونقض القديم خطا للإنتاج، فيتوالى صدور آلاف الكتب المتماثلة تماثل علب التونة على أرفف المتاجر.

ووفقا للعادة الكريهة، تعرف البدع الأمريكية كيف تغزو العالم، ومثلما شوهت أمريكا مطابخ العالم، وأنماطه المعمارية المتباينة، وطرائقه الفريدة في الملبس، ونظمه المالية والاقتصادية (لم يبق إلا أن نستقبل زوارنا في مطابخ البيوت مثلما نرى في أفلام هوليود)، انتقلت بدعة تدريس الكتابة ناشرة في آداب العالم جرثومة التنميط والتسليع.

كثيرا ما أتصور أن رواية مثل "مئة عام من العزلة"، بمفارقتها الواضحة لوصفات الروايات السابقة عليها، ما كانت لتظفر بموافقة كاتب مديوكر يدير ورشة. وكثيرا ما أتصور أستاذ كتابة ينصح ماركيز بإعادة بناء "سرد وقائع موت معلن" لتصبح رواية إثارة حقيقية، أو رواية بوليسية يلهث القارئ فيها إلى أن ينكشف القاتل، بدلا من كشف نبأ القتل منذ السطر الأول. كثيرا ما أتصور كونديرا وهو ينظر في مسودة رواية له وقد لوث المشرف عشرات الصفحات منها بعلامات حمراء مطالبا بحذف المقالات والتأملات والاستطرادات الفلسفية التي تميز كونديرا. كثيرا ما أتخيل كل ما جاء على غير مثال قبله: روايات من قبيل عوليس والبحث عن الزمن المفقود، وقصائد مثل الأرض الخراب، وشعراء مثل فرناندو بيسوا (تخيلوا مسخرة أن يحضر بيسوا كل صباح إلى ورشة وقد ابتدع من العدم شاعرا بتاريخه وسيرة حياته ومعجمه الشعري الفريد فيقول له أستاذ الشعر "جرِّب، لو سمحت، أن تكتب قصائد بدلا من أن تكتب شعراء")، وحركات بأكملها مثل الدادية أو السريالية أو الرواية الجديدة في فرنسا، أتخيل كل ذلك ممزقا في سلال قمامة ورش الأدب بسبب حرس البوابات الذين لا يتسامحون مع الإبداع، ولا يسمحون إلا بتقليد الإبداع.

لقد حدث أن أشرف الساحر الكولمبي الشهير جابرييل جارثيا ماركيز ذات مرة على ورشة، لكنها لم تكن ورشة لتعليم كتابة الرواية أو القصة، وإنما لإنتاج أعمال درامية للفيديو مدة الواحدة منها نصف ساعة لو صحت ذاكرتي. هي إذن ورشة لإنتاج فعلي، إنتاج سلعة قابلة للبيع للقنوات، قابلة لنيل رضى المعلنين، فيها السمات التي تضمن لها جمهورا معروف الذوق. ليس مطلوبا منها المخاطرة بمغامرة جمالية، ولا السعي إلى استفزاز فكري، وبالطبع ليس مطلوبا منها الحلم بالخلود، فالخلود هو العدو الأكبر للسلعة، وللرواج، ولعله الحليف الدائم للبوار.

وأخيرا يحكي فريدريك توتن حكاية عن بول بولز ومشاركته في الإشراف على ورشة لتعليم الكتابة. وكلنا نعلم بول بولز على النحو الذي يليق به، فهو المارق، الخارج على أعراف الكتابة والمجتمع، اللائذ بطنجة بحثا عن الحشيش والحرية.

حينما أراد سدنة صناعة تدريس الكتابة استغلال بول بولز، وهالة انتمائه إلى جيل البيت الأمريكي، وفتنته الخاصة، أقاموا له ورشة كتابة في طنجة، وبعثوا إليه بروائي شاب ناجح هو فريدريك توتن لـ(يشاركه) التدريس، أو لينوب عنه فيه بالأحرى، بينما يجلس بولز مدخنا الحشيش في آخر الفصل، وراء آخر الطلبة.

يحكي فريدريك توتن أن الطلبة كانوا يلتحقون بالورشة طامعين في كلمة استحسان واحدة من بولز، لكنه كان يدخر تعليقاته ليشير إلى موضع يلزم فيه تعديل فاصلة منقوطة أو فقرة أو زمن أو ليقول "في الصفحة الرابعة تقول ’فكَّر أن يشتري لها زهورا’ لكن المؤكد أنك تقصد ’كان قد فكَّر أن يشتري لها زهورا’ أو أني أتصور أنك قد قصدت ذلك".

ولا يزيد. فذلك أقصى ما يمكن تعليمه في الكتابة: علامات الترقيم، والنحو، والصرف. وحينما حاول توتن أن يستدرج بولز إلى المزيد احتال عليه قائلا:

"أرجو ألا تضيق بمشاركتي لك في الفصل يا أستاذ بولز".

فقال بولز "مطلقا. فأنا لا أعرف ما ينبغي عمله. لم أقم بتدريس الكتابة من قبل، ولا أظن أصلا أنها قابلة للتدريس" ثم إنه أضاف رجاء أخيرا، ليضمن أن يظل الكاتب وحسب:

"ومن فضلك، نادني ببول".

نشرت نسخة من هذه المقالة في مجلة القافلة وقد اختصرها المحرر مراعاة للمساحة