مولاي... إني ببابك قد بسطت يدي
لا أعرف أهي أجمل قصائدي أم لا. لا أعرف أهي
قصيدة أصلا أم لا. لكني أعرف أنها كانت تثير فيمن يسمعها مني رد فعل لا أجده منه
بعد أي قصيدة أخرى لي. رد فعل أقرب ما يمكن أن يوصف به أنه شهقة. ليست بالشهقة الحادة،
لكنها شهقة. رهيفة ووجيزة. صوت قد تخطئ فتحسبه ضحكة، أو أخطئ فأحسبه شهقة.
وأحيانا كانت تتبعها كلمة إعجاب.
وقد تكون كلمة الإعجاب هي الله.
***
ليس الشاعر، صاحبُ القصيدة، هو الحكم النهائي
عليها. فبوسع أي قارئ أن يستحسن قصيدة ويستبشعها الشاعر، أو العكس، ولا سلطان لرأي
الشاعر.
ولكن صاحب القصيدة قارئ أيضا، وقارئ نادر
لقصيدته، يعرف لا أسباب نشأتها فحسب، ولكنه يعرف أيضا كيف كان ينبغي أن تكون، يعرف
ما قصرت عنه، أو يعرف أنها قصرت عن شيء وإن لم يعرفه. وذلك هو حالي.
كنت أعرف أن هذه القصيدة ذات الكلمات
القليلة، وكأنها تطمح إلى الهايكو، قصرت عن شيء.
عدني يا الله
عدني ألا تقرأ شعري
قبل أن أكتبه.
***
كنت قد استقررت على أن يكون عنوان ديواني
الأول هو "طريق جانبي ينتهي بنافورة"، بتأثير من عناوين كتب الشعر في
التسعينيات من القرن الماضي. ولم تكن في ذلك الديوان قصيدة تحمل هذا العنوان، وذلك
أيضا دأب دواوين الشعر أيامها. ولكن العنوان كان يمثل لي وصفا جماليا للكتاب
النحيل، إذ بدا لي طريقا، وبدا جانبيا، لا يكاد يدب فيه غيري، وينتهي بنافورة.
والنافورة كانت قصائد قصيرة في آخر الكتاب، مرقومة، علاجا لنقص العناوين.
والحق أنها لم تكن، جميعها، قصائد.
مضيت وقد استقررت على عنوان الكتاب أبحث في
أجنداتي التي كتبت فيها على مدى عمري عما يصلح ضمه لكتابي الأول، فكنت أجد في
القصائد المضطربة سطورا قليلة مضيئة فأستلها، أو مقاطع مكتفية بنفسها، أو أزيح وشيشا
كثيرا كريه الحضور عن نغمة تبدو لي عذبة على قصرها، ومما عثرت عليه كلمات تلك
القصيدة، بلا وشيش حولها، ولا ذيول بعدها، هي هذه السطور الثلاثة فقط.
لم تكن موثقة. وكنت مهما بلغت تفاهة مسودة لي
أحرص على تأريخها، وتوقيتها، وتحديد مكان كتابتها. ولأمر ما، لم أفعل ذلك في تلك
الكلمات أو تلك القصيدة. فبدت وكأنها مكتوبة خارج الزمن، وقادمة من خارج المكان. واجهتني
حينما واجهتني، منفردة بصفحة من أجندة، مكتملة، غنية عن الإضافة، متمنعة على
الحذف، وكنت صاحب أول شهقة.
رأيت أن أجعلها في آخر الكتاب الذي صدر ضمن
مشروع نشر مموّل من بيت الثقافة في بنها. كان كتابا فضيحة. شديد القبح. على غلافه
لوحة فنان من المحافظة أليق بكتاب عن عذاب القبر. خجلت من الكتاب فحبست نسخي إلا
أقل القليل. وكانت عندي نسخة من الكتاب بخط يدي، فصورت منها نسخا قليلة، وطويت كلا
منها على هيئة كتاب، وجعلت لنسختي أنا غلافا من لوحة لسلفادور دالي ووزعت بقية
النسخ القليلة على أقرب أصدقائي. ونسيت أمر ذلك الديوان، سواء في طبعته القبيحة،
أو بديلي الرخيص.
لولا أن تلك القصيدة الأخيرة بقيت ترافقني.
كنت أحب لو بقيت منه قصائد أخرى، قصائد حكيت
فيها قصة حبي الأولى، أعني الكبيرة والطويلة والمؤثرة، التي، خلافا لسابقاتها
الكثيرة، صمدت معي وصاحبتني من سنوات الثانوي مرورا بالجامعة، ولم تتركني، إن كانت
تركتني، إلا بعد أن أصبحت مترجما يعمل في مؤسسة حكومية، ويدخن السجائر مع رجال في
عمر أبيه، منزاحة إلى ركن منزو في عقلي، بل في قلبي، فلا ينبغي لنا نحن الشعراء أن
يغير العلم معجمنا.
***
طبيعي في ظني أن تكون للقصائد الغرامية بطولة
الكتاب الشعري الأول. طبيعي أن تكون اللوعة، والسخونة، والبحث في فتاة عما لا
تستطيع الدنيا بأسرها أن تمنحه لأحد، هي الشاغلة لشاعر كتب قصائده حول العشرينيات
من عمره.
لكنني أعلم أنني لو تصفحت ذلك الكتاب، وهو ما
لا أجرؤ أن أفعله، سأجد بجوار تلك القصائد هموما أخرى، بل وفي ثناياها، سأجد
أوجاعا لا علاقة مباشرة لها بتلك الفتاة،
وتلك المشاعر:
هناك
هناك هناك
في
الصور القديمة،
حيث
تبدو السماء بيضاء
وكل
واحد من البشر السودِ
فيه
دائرة بيضاء
شغلتها
الوجوه بعد ذلك
هل كنت أعرف حين كتبت تلك السطور ما تقوله
حقا: أننا في صورنا القديمة، أو نسخنا المتروكة، نشترك مع السماء في شيء؟ لا، لم
أكن أعرف هذا.
ثم، ما علاقة الحب الأول بذلك، بالسماء
البيضاء، والدوائر التي لوثت بياضها القسمات والملامح لاحقا؟ واضح أنه ما من
علاقة. لكنني أعرف أن العلاقة قائمة، وأن هذه العلاقة هي التي جعلت ذلك الغرام
الأول مستحيلا، أنني كنت أبحث عن السماء لكن في فتاة!
كان مطلوبا من تلك الفتاة، وهي أيضا كان
عمرها سبعة عشر عاما، أن تعوض ذلك الشاعر صغير السن عن عدم قدرته على مقابلة الله،
بالوتيرة التي يحتاج إليها وبالطريقة التي يريدها، أن تلهيه عن شبح الموت، وحلم
الاختفاء، وتنسيه بائعة الخضار العرجاء الطاعنة في السن التي عذبته منذ طفولته
المبكرة بصوتها الساحر وهي تروج بضاعتها بالغناء، أو تبرر غناءها بالبضاعة. كان
مطلوبا منها أن تغنيه عن ذلك كله، أو تعزله عن ذلك كله، أو تفيض عليه بالجمال
فيسكر ويذهل عن كل شيء. أو،
"أردنا فقط أن نسير ببطء
فيسبقنا العالم".
لا أعرف بصدق هل كانت تريد ذلك، لكني أردته
بشدة، واستعصى عليَّ بشدة. أردت أن أختفي، في طريق جانبي ينتهي بنافورة أو في
غيره. أردت بصدق أن أشير للعالم بأن تقدم أنت على الرحب والسعة، ودعني هنا وراءك.
لكن أين؟ أين والعالم مصرٌّ على أن يحتل القادم والغابر والحاضر وعلى ألا يترك
شبرا لغيره؟
وإذن:
"تدخلنى
رئتيها
تجمع
من ذاكرة الناس:
ملامحي
ونكاتي
قهقهاتي
وأثر
احتكاكي بأكتافهم في العربات.
تملؤنى بما تناثر منى
وتفرغنى
من كل شيء أخذته من كوكب الأرض".
كنت مستعدا لرد كل ما حصلت عليه، كي يخلي
العالم طرفي، ويتركني وشأني؟ لماذا؟ لماذا حقا رأيت أن سعادتي، أم حريتي؟، لن تتحقق
لي ما لم أتخلص من كوني مرئيا، حاضرا، موجودا.
وكيف كان لعلاقة حب أن تصح بين أي فتاة وشخص
كهذا يستثقل هو نفسه وجوده؟
***
أم أنه كان يأسا من قيام علاقة سوية مع
العالم، ومع الآخر، وحتى مع الله؟
"عدني يا الله
عدني ألا تقرأ شعري
قبل أن أكتبه".
مجترئة على الله؟ هل التجاوز في مناداة الله
بهذه الطريقة لا يغتفر، أبدا؟ فماذا عن الطلب نفسه: لا تقرأ شعري قبل أن أكتبه؟ مع
ذلك، أعرف أنه طلب لا يطلبه إلا مؤمن، يعرف أن الله مطلع عليه، على ما كان من
أمره، وما يكون، وما كان يمكن أو لا يمكن أن يكون؟ ولد صغير يريد أن يأتي بشيء لم
يره أحد قبله، لا يهم أن يكون عظيما، أو جميلا، لكنه يريده بكرا، خالصا، لم تقع
عليه عين من قبل، وإن تكن عين الله.
ولد صغير زيَّن له الشعر سوء قوله؟
نعم.
أم ولد صغير أظهر له الشعر بابا سيظل يطرقه
حتى النهاية؟
***
ظل في نفسي من تلك القصيدة شيء. ظلت تعاودني،
وحيدا، في أوقات تختارها هي، وأخرى أختارها أنا. حتى خطر لي بعد سنين، في خريف
2014، أن ما أردت أن أقوله هو:
"عدني يا الله
عدني ألا تقرأ شعري
حتى أكتبه".
نعم. لعل القصيدة هكذا تقول ما أرادت منذ سنة
2000، حين صدر الكتاب، أن تقوله. لا زلت فيها أطلب من الله ألا يقرأ شعري (إلى أن)
أكتبه، لكنني بت أيضا أطلب منه ألا يقرأ شعري (لكي) أكتبه.
لا تزال القصيدة تعني أن شعري موجود قبل أن
أدرك أنا نفسي وجوده، موجود عند الله، يملك أن يقرأه حتى لو لم أكتبه. وهو الغني،
وهو العليم.
لكن القصيدة، فجأة، باتت تعني لي أن الله هو
المحك، هو الذي من أجله أكتب، فإن قرأ ما لم أكتبه بعد، فأي داع إذن للكتابة؟
***
خريف 2024:
أريد الآن لقصيدتي أن تقول: يا رب
"عدني يا رب
عدني ألا تقرأ شعري
حتى أكتبه"
نعم، بنبرة شحاذ يقول يا رب، تكتمل القصيدة.
نشر المقال في أخبار الأدب بتاريخ 15 ديسمبر 2024