أفضل ما يكتبه المصريون منذ التسعينيات هو الشعر
حوار
محمود خير الله
ـ أحببت
الذات "المناكفة" التي تكتب بها الشعر، من دون أن تتخلى عن عنفوان
خيالها.. بينما سقطت قصائد نثر كثيرة في عاديتها.. كيف فعلت ذلك.. أقصد على ماذا
كان رهانك؟
ـ نحن لا
نختار ذواتنا، أتكلم عن الناس بصفة عامة وليس الشعراء استثناء، كل واحد فينا مبتلى
بنفسه. حتى من يحاول تغيير نفسه أو تربيتها، هو يفعل ذلك في حدود قدرات هذه الذات
نفسها. أنا متقبل تماما للذات الوحيدة التي أتيحت لي، وسعيد بها، بكل ما فيها من
تعقيد أو تناقض.
المناكفة
ابتداء كلمة جميلة، وأنا سعيد فعلا بأن نستعملها. لعلك تقصد الاعتراض. أو ربما أن
تكون النظرة الأولى إلى أي شيء هي مبدئيا نظرة ارتياب. أعتقد أن من الممكن فعلا أن
تقرأ قصائد من هذا الديوان، أو ربما كل قصائده، باعتبارها اعتراضا على شيء ما، على
قانون كوني مثلا، على وضاعة إنسانية معينة، على نقيصة شخصية وضع الشعر مشكورا يدي
عليها وفضحها أمام عيني.
رهاني في
هذا الكتاب، أو المسعى الذي كان نصب عيني طوال سنوات كتابتي لقصائده، هي أن أعرف
كل مرة شيئا عن نفسي. الرغبة في إقناع أي قارئ بأنني "الشاعر" أو
"اللاعب" أو "الماهر" تقلصت إلى أقصى درجة في هذه القصائد،
إلى مجرد الدرجة التي تبقيني داخل الفن، ومع ذلك أعتقد أن في الكتاب قصائد لم تنجح
في امتحان الفن، ليس بالطريقة التي ترضيني كقارئ. لكن عزائي أن أغلب قصائد الكتاب
نجحت في الامتحان الذي كنت أكثر انشغالا به.
ـ من
وجهة نظرك لماذا يكتب الشعراء في سن الأربعين كل هذا الموت، أنت تبدأ الديوان
بقولك "أعرف الشخص الذي بعد أن أموت لن يكون لديه ما يكنسه"، وتتعدد
مشاهد الموت في أغلب القصائد وتقول مرة: "أريد أن أموت قبل أن أكبر/أعني أكثر
من هذا"..؟
ـ سأتكلم
عن نفسي طبعا. أعتقد أن لحظة ما تأتي على الإنسان قرب الأربعين فيتوقف عن عادة
شبابية حتمية، هي التعامل مع الحياة باعتبارها عصفورا مضمونا سوف يبقى دائما في
اليد. في الأربعين يفتح الرجل يده فلا يرى فيها العصفور، لا يرى أنه كان فيها قط،
لا أثر منه على الإطلاق. وما بقي من الحياة مهما يكن قدره، هو بالأحرى العصفور
الأخير من عصافير كانت تبدو كثيرة على الشجرة.
في
القرآن، وهو كتاب لا أتوقف عن مطالعته، حتى حين لا أطالعه، آية عن الموت الذي سوف
يدركنا ولو كنا في بروج مشيدة. حين أفكر في هذه الآية، حين أسأل بطفولية: كيف؟ أجد
الإجابة الطفولية: الشيء الوحيد القادر على الدخول معك إلى أمنع حصونك هو شيء
موجود أصلا بداخلك. هذا ما أكتشفه قرب الأربعين: الموت جزء مني، كيان صغير، ولد
معي، ويكبر معي يوما بيوم، وستأتي لحظة يلزمه فيها أن يستريح من عناء النمو
والتدهور، وستكون هذه بالمصادفة هي اللحظة التي سوف ينال التعب مني أنا الآخر،
فنرقد، أنا وهو، في سلام في ما أرجو.
ـ على
الرغم من أن الديوان يخلو من العناوين والأسماء إلا أن اسم أحمد شافعي يلعب دوراً
محورياً في بعض القصائد.. هل يعكس ذلك انشغالاً بالذات عن العالم والآخرين؟
ـ مرة أخرى،
نحن مبتلون بأنفسنا. وأتذكر والت ويتمن وأحذو حذوه: أحتفل بنفسي، وأغنيها. لا
أعتقد أن الانشغال المجدي بالذات يحجب الانشغال بالعالم وبالآخرين. فالحقيقة أنني
أعرف عن نفسي بتأملها، وأعرف عنها أيضا بتأمل صورتها لديك، وأعرف عنها بعضا من أهم
وأثمن ما أعرفه عنها حين أضع نفسي مكانك. ظهور مرض جديد في قرية نائية بكندا رسالة
موجهة إليَّ أنا باسمي، لكنها وصلت إلى عنواني في كندا. احتمال قيام حرب بين
أمريكا وكوريا الشمالية تهديد شخصي لأمني. وجود إسرائيل في فلسطين ورم في جسدي
نفسه. لا أظن شاعرا يستطيع الانصراف عن العالم، لكن كل واحد يهتم بطريقته. لا أظن
قصيدة يمكن أن تلهينا عن العالم إلا بقدر ما نريد ونحن نقرؤها أن نتلهى عن العالم.
ـ أريد
أن أعرف رأيك في جيلك من الشعراء، أقصد أبناء الموجة اللاحقة على شعراء
التسعينيات.. هل هناك ملامح لهذا الجيل في رأيك؟
ـ أحب من
شعراء ما بعد التسعينيات محمد خير ومنتصر عبد الموجود ومحمد أبو زيد وأدهم الصفتي.
ولا أرى أن شيئا يجمعهم إلا أنهم يكتبون قصائد جميلة. وأحب شعراء وشاعرات أصغر من
هؤلاء سنا. ولكن للأسف، ربما لا أكون الشخص المناسب لرصد الملامح المشتركة التي
تصنع أو لا تصنع "جيلا" أو "اتجاها" في الكتابة. فقط ألاحظ أن
أفضل ما يكتبه المصريون منذ التسعينيات وحتى هذه اللحظة ليس الرواية كما يتوهم البعض،
بل هو على وجه التحديد شعر النثر.
ـ كتبت
الرواية والشعر، ماذا عن عملك الروائي الجديد؟
ـ أعتقد
أنني بصدد كتابة قصيدة نثر طويلة. سوف يبدو في النهاية أنها رواية. نوفيلا مثلا.
لكن ما أكتبه حقا هو قصيدة نثر. ولا أعرف إن كنت سأحافظ على اهتمامي إلى أن أنتهي
منها، فالذي يحدث دائما أنني أظل أكتب ربما آلاف الكلمات في نشوة حقيقية، ثم تأتي
اللحظة التي يتحتم أن يبدأ فيه عمل الروائي الحقيقي: العتالة، فأفضِّل أحيانا عمل
الشاعر على عمل العتال.
ـ معنى
انك أصدرت ديوانين اثنين فقط خلال تسعة أعوام فهذا يعني أنك تلقي قصائد كثيرة في
البحر؟
ـ نعم،
أفعل الشعر وأرميه في النت J. كتبت بين ديواني "وقصائد أخرى"
و"77" قصائد قد تصنع كتابا أو اثنين، ونشرت كثيرا منها، في مدونتي، وفي
مواقع إلكترونية، وفي مجلات وجرائد أيضا. ولكنها لم تحرضني على جمعها في كتاب.
ـ أريد
أن أعرف رأيك فيما يسمى بـ "مؤتمرات" الشعر في وزارة الثقافة مثل
مؤتمرات المجلس الأعلى للثقافة وكيف ترى جوائز الدولة التشجيعية للشعر؟
ـ
الحقيقة أن تجمع أي عدد من الشعراء بعيدا عن مقهى أو حانة أمر لا ضرورة له.
أما
جائزة الدولة ففي الحقيقة لا أعرف عنها الكثير. أعرف فقط أن لدى الدولة جائزة
للشعر، وجائزة لشعر العامية، وهذا يعني أن الدولة لا تفهم جيدا، أو لا تفهم مطلقا،
وأنا أرى أن الدولة لا بد أن تقرأ أكثر لأن القراءة مفيدة عموما.
ـ أنت
مترجم نابه ونشيط، كيف ترى حالة السلاسل الأدبية المصرية الصادرة عن وزارة الثقافة
وهل تحقق إشباعاً للقاريء المصري المتعطش لقراءة الأدب الأجنبي؟
ـ أغلب
الترجمات رديئة في الحقيقة. لكن ليس في وزارة الثقافة المصرية وحدها. دور النشر المصرية
الخاصة تنافس بقوة، ودور النشر الكبرى في العالم العربي لها ثقلها أيضا. هناك زخم
مبهر في الترجمات الرديئة يجعل الواحد مطمئنا على أننا لن نعاني قريبا من أي نقص
في هذا الجانب.
ـ لديك
تجارب نشر مع وزارة الثقافة من ناحية ومع دور نشر خاصة من ناحية أخرى.. ما أبرز
العيوب والمزايا في الناحيتين؟
ـ الناشر
تعريفا هو ذلك الشخص الذي يعيش من الكتب، مع أنه لا يكتبها، ولا يطبعها، ولا
يقرؤها (في أغلب الحالات). هو الوسيط بين الكاتب والمطبعجي والقارئ. أحلم باليوم
الذي نتخلى فيه عن الناشرين، فنضع كتبنا على الإنترنت، ويشتريها الناس منا مباشرة
بقروش قليلة، فنعيش نحن الكتاب، ويستمتع القراء، وبالنسبة لحفنة الأشخاص الذين
يعملون بالنشر، فيمكن توجيههم إلى مراكز تدريب، ومن يدري، ربما يتحول بعضهم من
مصاصي دماء، إلى حالبي أبقار نافعين.
ـ أعلنت
إعجابي بكتاب "بيت حافل بالمجانين" حوارات باريس ريفيو مع عدد من
الروائيين العالميين الكبار، ماذا عن حوارات المجلة نفسها مع الشعراء هل تقوم
بترجمتها قريباً وهل تضم بعض الشعراء العرب؟
ـ طبعا
يشغلني هذا الحلم، وربما في القريب أصدر كتيبا مع إحدى المجلات العربية اتفقنا أن
يحتوي ثلاثة فقط من هذه الحوارات. أرجو أن أبدأ العمل فيه في مطلع العام القادم.
ـ أريد
أن أعرف خلاصة تجربتك مديرا لتحرير مجلة عالم الكتاب التي تصدرها الهيئة المصرية
العامة للكتاب؟
ـ كان
العمل مع محمد شعير وأمير زكي وأحمد اللباد متعة خالصة. ثبت أن بإمكان أربعة أشخاص
لا يلتقون لـ"العمل" إلا في المقهى أن ينتجوا شيئا جميلا. وثبت أيضا أن
العمل مع وزارة الثقافة المصرية غلطة عمر أي فرد من الهومو سابينز. مجلات وزارة
الثقافة لا تمتلك مقومات ذاتية للبقاء، ناهيك عن النجاح، فهي كائنات طفيلية بحاجة
دائما إلى أن تعيش على امتصاص دماء كتاب جدد.
نشر جزء من الحوار في عدد الأسبوع الحالي من مجلة الإذاعة والتليفزيون