Friday, June 02, 2017

رسالة في زجاجة

حدث مرة، وأنا في الكلية، أن دعاني صديقان في نهاية يوم دراسي إلى الذهاب معهما إلى زميل لنا لداع ما، ربما أنه تغيب أياما عن الحضور، أو أن أحدهما كان يريد منه كتبا أو ورقا أو شيئا مما يريده الطلبة من بعضهم بعضا. قالوا إنه يقيم في قرية تابعة لمركز في محافظة الشرقية هو الأقرب من الإسماعيلة، أهو أبو كبير؟، وإننا سنركب القطار من بنها، ثم عربة إلى القرية، وفجأة كنا هناك.
سألنا عن البيت ووجدنا من دلنا. فتح لنا أحمد. أو أبوه: رجل كبير السن، لم ينجب غير أحمد وأخ له أصغر منه. واضح أنه موظف، وأنه أنجب كبيرا، ضعيف النظر، فهي وراثة إذن في الأسرة، يرتدي نظارة ندر أن صادفت أسمك من عدساتها. كان اليوم يصادف أحد المواسم. أكلنا في بيتهم رقاقا في مرق ولحما، وشربنا شايا جميلا، ومضينا عائدين.
ركبنا قطارا معتما مليئا بالمجندين العائدين من وحداتهم.
كان البيت على أطراف القرية، في خلاء لا بد أن يكون ازدحم، يرتقى إليه بدرجات قليلة، غارقا في نور العصر، مضاء من الداخل بلمبات نيون قوية.
ربما الضوء، ربما بياض بشرة الأسرة كلها، ربما أننا عوملنا للمرة الأولى ـ أو أنا على ألأقل ـ معاملة رجال يزورون صديقهم الرجل. ربما نظافة البيت والراحة التي بعثها في نفسي. ربما الرحلة. ربما الحنان الطاغي لدى أبوين في عمر جدين. ربما رقة أحمد ودماثته الطاغية. المهم، أن زيارة هذا البيت تلح عليَّ على مدار كل تلك السنين. رغبة حارقة عنيفة كأنها غصة دائمة، كأنها نقص في الكافيين، كأنها دين كلما عاودتني ذكراه طار من عيني النوم.
رأيت أحمد مرة واحدة بعد سنين من تخرجنا. كنت جالسا في ميني باص يتحرك من أمام جامع الفتح إلى عملي، ورأيته في الميدان، وناديته، وانتبه لي وعرفني. كان بيننا زجاج لا يتزحزح. أشار إلى أذنه فقلت ربما لم يضع منه رقم تليفوني المنزلي مثلما ضاع مني رقمه. ولم يتصل.
نسيت من كانا معي في تلك الرحلة. نسيت في أي سنة دراسية كنا.  ولا بد أن يكون أحمد فقد أباه مثلما فقدت أبي. 
ليست لدي صورة تجمعني بأحمد، أو تسجل ذلك اليوم. ولا أستطيع أن أقاوم حنيني كلما داهمني.
وأكتب 
عسى أن أقهر هذا الحنين. 

أو أن يقرأ.