الجريمة 172 "إنشاء الله"
في حين لا ينبغي لكاتب يكتب "إنشاء الله" بهذه
الطريقة أن يأسف لأن "روايته" لم توزع أكثر من 171 نسخة، رأينا أخيرا
الصحفي "شريف الشوباشي" يأسف عبر حسابه الشخصي في فيسبوك لأن روايته
"الهانم والوزير" (الصادرة في 2015، على نفقة المؤلف) لم توزع غير هذا
العدد الهزيل من النسخ. وإذا بنا إزاء زوبعة في فنجان، وذلك ربما يكون الوصف
الدقيق لسجال التعليقات على بوست الشوباشي. ونتيجة تلك الزوبعة أننا استدرجنا إلى
الوقوع ضحية للجريمة رقم 172.
قيمة الرواية فيما يتصور الشوباشي تتمثل في أنها "تكشف أسباب قيام ثورة ٢٥ يناير ومفهوم
السلطة عند كبار المسئولين والفساد الخفي فى عصر مبارك من خلال أحد الوزراء
وعلاقته بالهانم التى هى زوجة الرئيس"
على حد قوله عبر حسابه في فيسبوك. سنتغاضى عن مسألة "الفساد الخفي" في
عصر مبارك، لنوافق مبدئيا على أن الرواية تضع بالفعل بين يدي قارئها صورة لما كان
عليه الحكم وأهله في مصر منذ بداية عهد مبارك وحتى ما بعد قيام ثورة 25 يناير
بقليل. ولكن، ماذا لو أن هناك قارئا يعرف هذه الصورة، ويلم بكل النمائم التي تمتلئ
بها الرواية، وربما أكثر منها؟ ماذا لو أن هذه الأهمية المعلوماتية وهم يتصوره
الشوباشي؟ ما الذي يبقى إذن في "الرواية" مبررا لانتمائها إلى هذا الفن؟
الإجابة المختصرة للغاية هي: لا شيء تقريبا.
فبلغة كلغة الصحافة الرديئة يكتب الشوباشي هذا العمل،
وعبر بناء شديد السذاجة، ومن خلال شخصيات لا مبرر لظهورها إلا رغبة الكاتب في أن
يثير التخمينات حول أصولها الواقعية. ورداءة لغة الرواية لا تقتصر على كتابة
"إنشاء الله" بهذه الطرقة المخجلة في جميع مواضعها من الرواية (حين
تقولها أم الوزير ص 29، أو سائق الوزير ص 77، أو رئيس التحرير الموالي للوزير ص
112، أو الوزير نفسه ص 96)، ولا تقتصر على الأخطاء النحوية الفاحشة في كتاب مؤلف
اجترأ قبل سنين على المناداة بسقوط سيبويه إحياءً للغة العربية. نحن إزاء كاتب
ينتقل من الفصحى إلى العامية إلى الفصحى بدون أدنى مبرر إلا أن تكون هذه حدود
قدرته، وأمام كليشيهات تجاوزتها لغة الرواية (من قبيل: كان لمكالمة بشير الخاطفة
وقع البلسم على الجسد العليل ـ ويدس السم في العسل). ونحن أيضا أمام تصور عن اللغة
الأدبية يجعلنا نصادف سطورا مضحكة مثل: "شعر مجدي بقلبه ينشطر إلى جزئين واحد
في الشمال والآخر في اليمين" ص 94 أو "كالخازوق الذي يتغلغل داخل الجسد
رغم أنف صاحبه عاد شريط الماضي وعاد شبح ماجد حسن يطارده" ص 58.
تبدأ الرواية بعزاء والدة الوزير مجدي (أعزب، مثلي، على
علاقة قوية بزوجة الرئيس)، وبعده يبدأ الوزير في استعراض ماضيه، لنحو 130 صفحة،
بعدها يتذكر مجدي أن عاما مرَّ على وفاة أمه، ويبدأ النصف الآخر من الرواية، بين
ذكريات الوزير مجدي وسرد للأحداث الجارية قبيل ثورة 25 يناير وبعدها. في ثنايا ذلك
البناء السقيم، يصادف القارئ في صفحة أن مجدي "يشعر أنه لا يميل إلى النساء
ولا يتحرق شوقا لهن" ثم يصادف مجدي بعد ست صفحات وقد "أخذ يبحلق في
سيقان الفتيات وكأنه لم ير لحما أبيض من قبل"، ثم يصادف مجدي في الزنزانة في
ليلة قارسة البرودة إذ يترك جسمه لزميله في الزنزانة يضاجعه الليلة بعد الليلة
(سيصبح زميل الزنزانة هذا سكرتيرا لمجدي بعد تقلده الوزارة، ثم يتورط في قضية فساد
شبيهة بقضايا محمد فودة)، هكذا نشعر أننا أمام كاتب لا يعرف فعلا شيئا عن شخصيته
الأساسية.
اللعبة التي تقوم عليها الرواية تتمثل في ما تكشفه من
معلومات عن أمثال "جودت الشريف" رئيس البرلمان و"زكريا فهمي"
رئيس ديوان رئيس الجمهورية و"كمال القاضي" الوزير المخضرم المعني بإدارة
الانتخابات، و"الواد محمد عز" الذي أدار انتخابات 2010، و"مجدي
الحلاق" رئيس تحرير الجريدة الخاصة الذي "يظهر للجمهور على أنه معارض
للحكم لكنه في حقيقة الأمر جزء لا يتجزأ من السلطة وعلى علاقة سرية بأجهزة
الأمن" ص161 وعشرات الأسماء الأخرى التي على القارئ أن يفك شفرتها، المفكوكة
تماما في حقيقة الأمر.
لا يمكن أن ينكر أحد أن هذه اللعبة نجحت من قبل نجاحا
ساحقا في "عمارة يعقوبيان"، لكن الفارق، للإنصاف، أن علاقة يعقوبيان
بالرواية أقوى بما لا يقاس، والفارق أيضا، وللإنصاف أيضا، أن عمارة يعقوبيان كتبت
في وقت كانت كتابتها فيه مخاطرة حقيقية. أما "الهانم والوزير" فلا يبدو
أنها على دراية بطبيعة "فن" الرواية، أو حتى بالصحافة؛ إذ لا شيء مما في
هذا الكتاب إلا وتجاوزته الجرائد وبرامج التوكشو ربما منذ عام 2005 ناهيكم عن عام
2011.
وإذا كان المجال سمح بمقارنة مع عمارة يعقوبيان، فلعله
يسمح بمقارنة أهم بين "الهانم والوزير" ـ و"عمارة يعقوبيان"
أيضا ـ وروايتين جريئتين لجمال الغيطاني صدرتا مبكرا للغاية، محملتين برسالة
سياسية شديدة القوة، وحالة "نمائمية" تبرّر النظر إليهما مع روايتي
الأسواني والشوباشي، وأعني روايتي "حكايات المؤسسة" و"حكايات
الخبيئة". فلعل كل ما يتوهم الشوباشي أنه يفضحه عن الحكم مفضوح في هاتين
الروايتين المبكرتين، ولكن الفضيحة لم تكن غاية الغيطاني الوحيدة، بل الفن. سعت روايتا
الغيطاني إلى الفن فنالتا نصيبا منه، ورواية الشوباشي لم تسع إلى غير الفضيحة،
وحتى هذه لم تنلها.
نشرت في عالم الكتب سبتمبر/أكتوبر 2015