عن الصاحب في السفر
في سن مبكرة للغاية، كنت أقرأ كتاب التجليات
للغيطاني، أو بالأحرى، أمرّ بصفحاته الواحدة تلو الأخرى، في سفر تلو الآخر من
أسفار الكتاب الثلاثة، فأفهم ما أفهم، وأحار فيما أحار فيه، وبغتة، وجدتني وأنا في
غمرة أوجاع الكتاب، أصادف مرثية بالغة العذوبة لخالد الإسلامبولي! والآن لا أعرف
إن كانت علامة التعجب هذه ابنة الآن الذي أكتب فيه هذه الكلمات، أم إحدى علامات
التعجب القديمة التي تزاحمت في عقلي وأنا أقرأ تلك الكلمات للمرة الأولى، ولدا صغيرا،
بلا معرفة بسياق أي شيء، اللهم إلا السياق الرسمي لواقعة اغتيال أنور السادات،
أعني السياق المدرسي، الذي أظهر خالد الاسلامبولي وصحبه شياطين مطلقي الشيطنة
يستهدفون بطل الحرب والسلام الذي انتصر لمصر بعد هزيمتها. ربما أكون سألت، أو
بحثت، أو عرفت بمرور السنين وتشعب القراءات أن الغيطاني لم يكن وحده الذي رأى في
خالد الاسلامبولي ذلك الذي رأى. هناك كثيرون غيره رأوا فيه ذلك البطل المخلص الذي
أنهى ـ فيما كانوا يأملون ـ مشروع السادات لمحو كل ما أنجزته الناصرية من قبل،
المشروع الذي استمر مع حسني مبارك، بمزيد من الوقاحة والأنانية والاستهانة بملايين
المصريين الذين لم يقرّ أغلبهم ذلك التوجه قط. في تلك
السن المبكرة، كانت كتب الغيطاني، وأعني كلّ كتبه، كتب الروايات والقصص، وكتب
السيرة واليوميات، وكتبه الحوارية مع محفوظ أو الحكيم، ومقالاته أينما صادفتها، في
الصفحة الثالثة من أخبار الأدب، أو الأخيرة في الأخبار، بل وظهوره التليفزيوني
ضيفا أو مقدّما، كل كلمة كان ينطق بها هذا الرجل، ولسبب لم أفهمه وقتها ولم أتساءل
عنه أصلا، كانت تجد طريقها واضحا وسلسا إلى عقلي، تشكّله، وترسم في صفحته الغضة
إما مسارات للاتباع في أغلب الحالات أو هي تثير فيه أسئلة وتقيم نقاشا فتنقلني خطوات
إلى حيث يكون لي وعيي الخاص.
جيل
الغيطاني كله بلا استثناءات تقريبا ممسوس بالسياسة، ولكن جمال الغيطاني وحده، من
هذا الجيل، هو الذي استطاع أن يخاطب قارئا مثلي. ربما لأن السياسي لم ينفصل عنده
قط عن الإنساني، أو لأن السياسي لم ينفرد ولو مرة بتفسير أي شيء. بقي الغيطاني في
كل سطر يكتبه يسائل نفسه، وخالقه، عن المبتدأ والمنتهى والمعنى، ويرى وجوده الشخصي
جزءا من الوجود كله، وانتماءه الحق إلى ذاته أو الكون الكبير لا فرق. لم تبد لي
هذه الأسئلة همًّا مصطنعا قط، لم تبد حلية يزخرف بها كاتب كتبه ليضفي على ما يقوله
بعدا تأمليا غير حقيقي. علّمني الغيطاني، منذ أن كنت صبيا في سنوات الدراسة
الإعدادية، أن هذه الأسئلة، التي تبدو حقا مقصورا على الفلاسفة والمتصوفة وكبار
المفكرين ومن شاكلهم، ما هي في حقيقتها إلا أسئلة الحياة اليومية العادية، أو هكذا
ينبغي أن تكون.
قادني
الغيطاني، عبر كتبه أو مقالاته، إلى قراءات في أدب الصوفية وتراثهم، علّمني أن ثمة
كتبا أخرى غير الكتب يمكنني أن أطالعها في مخططات المدن، فأقرأ الاتساع بعد الضيق
في الساحة بعد الحارة، وفي التكوينات المعمارية، وفي النقوش، علمني ما الذي ينبغي
أن أنظر إليه حينما أنظر إلى الهرم الجليل أو المشربية اللعوب. فتحت كتابته عيني
على ما يقوله العالم طول الوقت عن نفسه بلغة بغير اللغة. لفت نظري حتى إلى اللغة،
إلى الفوارق الرهيفة بين المفردة وما يبدو مرادفها، أزال لي الغبار عن تراكيب
قديمة علمتنا البلاغة المدرسية البائسة أنها ابنة عصور التدهور وإلزام الكتّاب
أنفسهم بما لا يلزم. وعلّمني المعيار الأغلى ـ فيما أحسب ـ للحكم على أي عمل فني،
فقد كتب مرة ـ وهنا أستدعي من الذاكرة ـ أن العمل الفني العظيم هو الذي يحرِّض
مبدعا على الإبداع.
لا أعرف
ما الذي كنت أقاسيه يومها، في الصف الثاني الثانوي، ربما أوجاع قصة غرامية ستنتهي
في غضون أعوام قليلة، أو ربما أعاني حيرتي بين أبيض الدنيا وأسودها، وكنت في تلك
السن أميّز بينهما بوضوح، ولكني أتذكر جيدا جلستي في غرفة من بيتنا القديم، وكتبت:
"عزيزي الكاتب الكبير جمال الغيطاني...". لم تكن رسالة قارئ بالضبط. لم
تكن رسالة إعجاب، برغم الإعجاب، بل رسالة مريد صغير يسأله شيخه. وكان عليّ أن أعرف
العنوان الذي يمكن أن أرسلها إليه. اتصلت بأخبار الأدب، وطلبت محادثة رئيس
التحرير. قلت له إنني بحاجة إلى عنوانه. سألني فقلت إنني طالب. تصورني طالب دراسات
عليا، ولما عرف الحقيقة أملاني العنوان، مجرد رقم صندوق بريد في المعادي. وقال
"منتظر رسالتك". وتلتها رسائل أخرى. رسالة مراهق صغير تحيّره الكتابة
والدنيا، وينتظر الإجابات من كاتب لم يعرفه إلا في كتبه.
سنوات
سوف تمضي، وأبدأ في النشر شبه المنتظم بأخبار الأدب، ولكن تعاوني يبقى دائما من
خلال الكاتب عزت القمحاوي، وتبقى لقاءاتي كلها معه، ولا أقابل الغيطاني نفسه غير
مرات قلائل. وأستمر في قراءة كل كتاب له، بوعي جديد، ومزيد من الدربة، وذائقة
تكوّنت عبر السنوات، وفجأة لا يستوي لديّ كل حرف خطّه ذلك الرجل كما كان الحال من
قبل، فتصبح له كتب أحب من كتب، وتصبح لي مواقف مناقضة تماما لمواقف له، يبقى
الغيطاني في مكانه ولكنني أنا الذي أتزحزح عن مكاني القديم، وأبقى في كل لحظة مدينا
له بإرشاده للولد الذي كنته، ومصاحبته الطويلة له رفيقا وشيخا، وأبقى على يقين بأنه
موهبة من مواهب الثقافة المصرية الكبرى، وصاحب منجز من أنصع منجزاتها، سار في طريق
وحده لم يزاحمه فيه أحد، منحازا للخيال وإن سادت الواقعية، حريصا على الجزالة وإن
استشرت الركاكة، قادرا طول الوقت أن يعثر على الجانب الأبهى من روحه، وأن يتخفف من
الانشغال بصغائر الدنيا، وأن يجلس للكتابة ـ منذ كتابه الأول وحتى الأخير ـ بمقدرة شيخ وحيرة تلميذ.