مرة صائبة
كان من مآخذ الحرامي (شعبان عبد الرحيم) على مخطوطة
رواية المواطن (خالد أبو النجا) في فيلم داود عبد السيد الشهير، أن الرواية لم
تتوقف مرة ـ على مدار الأعوام الكثيرة التي تدور فيها أحداثها ـ لتصوير الشهر
الفضيل، أي شهر رمضان. وهو اعتراض، أكتشف الآن، أن له وجاهته. فرمضان ليس شهرا
عابرا في حياتنا فتتجاهله الروايات بهذه الطريقة المخزية، خاصة وأن له تأثيرا
فعليا على أمزجة الناس، وربما على مصائرهم.

والإجابة على كل هذا هي تقريبا: رمضان.
كنت أعمل لسنوات في سلطنة عمان، وكنا قد اعتدنا أن يتوقف
صدور ملحق "شرفات" التابع لجريدة عُمان في شهر رمضان. ربما لأن الضغط
الإعلاني في هذا الشهر يزداد فتحتاج الجريدة إلى مزيد من الصفحات، وربما لأن
الجريدة تصدر ملحقا دينيا يوميا طوال الشهر، وربما لأن الصيام ـ كما ينبئنا شيوخ
التليفزيون كلَّ عام ـ يستوجب أكثر من الإمساك عن الطعام والشراب. مهما يكن السبب،
كان ملحق شرفات يتوقف عن الصدور في رمضان، وكان هذا طيبا وعادلا وإنسانيا، ولو من
وجهة نظري. فأنا لا أستطيع أن أعمل في رمضان. ولا أرى أن أحدا يعمل في رمضان. ولا
أرى هذا إلا أمرا طبيعيا تماما، بل وبديهيا.

يمكنكم أن تتذكروا البطل في "إكس لارج" (لشريف
عرفة) حينما رأى الفانوس معلقا فوق رأسه كالمشنقة، وكيف سارع يسابق الزمن، مختزنا
كفايته من الطعام، مالئا بطنه بما يستعين به على المجاعة القادمة، وأهم من ذلك، كيف
أنه اتصل بعمله يطلب إجازة لمدة شهر. ذلك بالضبط ما حدث. سارعت في جنون إلى أكبر
مكتبة في مسقط (فرع من سلسلة مكتبة بوردرز العالمية الراحلة، أصبح لاحقا متجرا للعب
الأطفال) وانتقيت أصغر الروايات حجما، وشرعت على مدار أسبوعين أترجمها، فلما أقبل
الشهر الكريم (جدا) كان عليّ فقط أن أنقِّح بضع فصول منها كلَّ أسبوع وأدفع بها
إلى النشر. لا أعتقد أن أحدا منكم يجهل أي رواية هذه. بالضبط. هي الباب الأزرق.
أعتقد أن هذا يجيب واحدا على أقل تقدير من أسئلة الحوار
المجهض: فيم ينبغي أن يفكر المترجم وهو يختار عملا لترجمته. ولكن هذا لا يعني إطلاقا أنني ندمت، سواء وأنا أترجم الرواية، أو وأنا أرى اسمي مقرونا بها بعد ذلك. بل على
العكس.
مؤكد أنني تصفحت الرواية قبل أن أشتريها، فرأيت الكاتب
يستهلها مثلا بمقتطف من ميلان كونديرا (وهذا يشي مبدئيا بأنه منا وعلينا)، ورأيت
على غلافها الخلفي شهادة في حق الرواية وكاتبها من نادين جورديمر (أي أنني لن أقرئ
الناس شيئا لم يسبقهم إلى قراءته من يوثق فيه)، ثم إنني وضعت اسم الكاتب في جوجل
قبل أن أخرج من المكتبة فعرفت من نظرة سريعة على نتائج البحث دون أن أقرأ أيا منها
بالتفصيل أنني لست أمام كاتب ثانوي في سياقه أو رواية غير جديرة بالجهد.
وبينما أتقدم بعد ذلك في الترجمة، كنت أتيقن من صفحة إلى
صفحة، ومن فصل إلى فصل، أن الصدفة أحسنت قيادتي إلى هذه الرواية القصيرة. ولم لا
أقول القدر، خاصة وقد كنا على مقربة من شهر الصيام؟
تعرض الرواية للقضية العنصرية، والعلاقات بين السود والبيض
في جنوب أفريقيا في ظل سياسة الأبارتيد. لكنها تعرض لذلك عرضا رهيفا، وعلى
استحياء، فلم يثر الأمر ضيقي. بل كنت أرى موضوعها الأساسي هو الباب، الأزرق، بل
الأبواب. موضوعها ببساطة شديدة هو الأبواب الكثيرة المتاحة لنا في حياتنا، والتي
نعرف بوجودها، ونخمِّن ما وراءها، لكننا قد نبقى خائفين من مجرد لمس مقابضها،
ممتنعين حتى عن مواربتها وإلقاء نظرة على ما يمكن أن تكون عليه حياتنا إن نحن
دفعناها بأرجلنا دفعا، وانطلقنا إلى ما وراءها من احتمالات مهما تكن.

بطل الرواية مدرس، لعله يدرِّس التاريخ أو شيئا من هذا
القبيل. يذهب إلى المدرسة ويرجع إلى البيت، حيث زوجته ولا أطفال، وعنده مرسم، لأن
أستاذ التاريخ هذا رسام هاو. وبرغم إشارات نبَّهته من قبل إلى أنه رسام قبل أن
يكون مدرسا وزوجا، بل أنه رسام وليس مدرسا أو زوجا، إلا أنه أحجم عن التعامل مع
هذه الإشارات بما هي جديرة به من اهتمام، بل امتثال. ففرض عليه القدر فرضا أن يفتح
الباب الأزرق، ليجد نفسه في عالم مواز اتخذ فيه القرار الآخر: قال لا للوظيفة
والزوجة الملائمة، وقال نعم الكبرى التي كلمنا عنها كفافي في قصيدة عظيمة، نعم
للغريزة، نعم للنداء الداخلي، نعم للفن والحب والمغامرة.
صرت أتقدم في الترجمة، وقد غفلت عن اقتراب رمضان، وعن
الملحق الذي لن تناسبه الرواية بأية حال (ففيها على أقل تقدير فصل إيروتيكي لا
يناسب الملحق في سبتمبر ناهيكم عن رمضان)، وعن أي اعتبارات خارج الرواية والترجمة.
صرت أتقدم في الترجمة كمن يقرأ رسالة شخصية من أهم شخص يمكن أن يبعث إليه رسالة:
من نفسه، من نسخة أخرى من نفسه، بمثل هذا الفضول، بمثل هذا الشغف.
هذه حكاية "الباب الأزرق". وفصل من فصول حكاية
الترجمة لدينا عنوانه الصدفة التي مرة تصيب، وكثيرا ما تخيب.
نشرت المقالة أمس الثلاثاء في جريدة القاهرة، ونشرت "الباب الأزرق" في الكتب خان