Thursday, February 27, 2014

عيد ميلاد النذالة

عيد ميلاد النذالة*

ماري أوليفر. شاعرة أمريكية جميلة برغم أنها أخلاقية. تذكرت قصيدة لها يوم الأربعاء السادس من يونيو، عن سرب من طيور صغيرة اسمها المدروان، فاجأته العاصفة فاحتمت الطيور تحت ذيول سرب صغير من طيور البط. ماري اعتبرت هذا الموقف معجزة، ولكنها ليست كذلك طبعا. كانت لتكون معجزة فعلا لو كان سرب البط هذا سربا من البشر.

الثلاثاء 5 يونيو .. أربعون عاما علي النكسة
لعلي الوحيد في مسقط الذي لم يكن يبالي بالإعصار القادم. ومع وصولي إلي العمل، واستعراضي رسائل الفزع الإلكترونية من أصدقاء في القاهرة وأبوظبي ولندن ولويزيانا حيث مصري وأمريكية لا يزالان يعيشان ذكريات كاترينا. تبيَّن أنني موشك علي ما يستحق أن أخشاه. فانتقلت فورا من أقصي اللامبالاة إلي منتهي الذعر. ولم ينته يوم عملي، إلا وأنا في السوبر ماركت أجمع من كل صنف زوجين اثنين. بعدئذ وقفت في نهاية صف طويل، انتهى بعد قرابة الساعة ليتبيّن أن ثمة عطلا يحول دون الدفع بالبطاقة. أحصيت ما معي من نقود قليلة، واكتفيت بالكثير من السجائر، ومصباح قابل للشحن، وبضع زجاجات ماء.

مساء الثلاثاء
أسير مع صديقين في الشوارع الخالية، مستمتعين بخلوها، وبالهواء، وساخرين من الإعصار الذي جبن عن لقائنا، والجبناء الذين احتموا ببيوتهم. قلت لهما إن غدا عيد ميلادي. غدا أبدأ عاما جديدا.

الأربعاء 6 يونيو
الطبيعة واضحة تماما في رأيها إزاء بلوغي الثلاثين: إعصار.
صحوت علي محاكاة طبق الأصل لطوفان نوح. الجبل الذي تدير بنايتي ظهرها له، انتقل أمامها رملا وصخرا ونباتات شوكية نمت واقتلعت بليل. الشبابيك تنتفض، وثمة بِركةٌ صغيرةٌ أسفل كل منها. ما أن انتهيت من تجفيف الأرضية حتي تبيَّن أنني لست بحاجة إلي بدء يومي بالاستحمام. بداية جيدة لعام جديد.
وضعت مناشف أسفل الشبابيك، وأطلقت في البيت موسيقي من اسطوانة اسمها relax with classics، فقد كنت قبل أيام قليلة حصلت علي عدد من الأسطوانات عوّضتني عن التليفزيون الذي أطاح الإعصار بطبقه، والإذاعة التي كلما لجأت إليها شعرت بالذنب لجلوسي آمنا بل ومستمتعا فيما الفيضانات تعصف بالبشر. قضيت علي هذا الشعور بالذنب بأن استغرقت في العمل، وكنت كلما ضجرت منه وقفت في النافذة لأستمتع بالإعصار!

في الرابعة عصرا
قررت النزول إلي أسفل البناية لأري تجليات الإعصار عن كثب. وجدت بضعة أشخاص يحتمون بالبناية من المطر والرياح التي اكتشفت يوم الخميس بعد زوال الإعصار أنها اقتلعت شجرا كان راسخا علي رصيف الشارع العام قرب البناية.
أخذت أدردش مع أحدهم، آسيوي، وأنا أحتسي النسكافيه، وكل مشكلتي أنني لا أستطيع أن أشعل السيجارة بيد واحدة. سألني إن كنت أقيم بالأعلى، ورفع رأسه إلي أعلي، فقلت نعم، دون أن أرفع رأسي إلي أعلي. سألني: والعائلة؟ قلت طبعا، العائلة بالأعلى، ونظرت إلي أعلى، حيث لا توجد أي عائلة.
ليس لي ذيل بطة بالطبع، وهو وأصحابه ليسوا سربا من طيور المدروان الصغيرة.
تبيّن من الدردشة أنه يقيم وأصدقاؤه هؤلاء في نفس البناية. ندمت أنني لم أعرض استضافته، فضيّعت بذلك فرصة نادرة لتحقيق الرضا عن الذات بدون ثمن.

بعد ذلك
صعدت لأستعين بصديق لبناني، تبيّن أنه ترك منزله (الذي تحول بغتة إلي شوربة) ولجأ إلي فندق، سألته إن كانت لديه بطاقات شحن للموبايل لأن بطاقاتي نفدت، فسكت هنيهة، وارتعدت فرائصه، ثم استعاد رباطة جأشه، واستجمع قواه، وشعرت به يرتدي ترسه وقد شعر أنه عرضة لسطو بأسلحة الصداقة البيضاء، ثم قال لي بصوت كالرعد الذائب في لكنة لبنانية رقيقة إن كل المحال مغلقة، ووضّح لي سبب ذلك بأن هناك إعصارا.
إذا كان موقفي من الآسيوي دليلا علي نهاية حركة التضامن الأفروآسيوي. فما رأي عمرو موسي في موقف اللبناني مني؟ وما رأيي أنا شخصيا ناهيكم عن رأي حكومتي في الموقف التالي؟

في الحادية عشرة مساء
اتصل بي صديق مصري. الكهرباء مقطوعة عنده، مسكين. الكهرباء لم تنقطع عندي، مش مسكين. كان المطر قد توقف منذ نصف ساعة حينما اتصل بي، وكنت واقفا أسفل البناية أستمتع بالنسيم الرائع النظيف بعد المطر، وبالصمت، وبالعتمة التي أراها من بعيد، وبالنسكافيه أيضا، قال لي إنه ضجر من البقاء في العتمة، فخرج، وإن الجو بديع، وإنه قريب من بيتي. استشعرت الخطر في كلامه، وبرقت أمام عيني أسلحة الصداقة البيضاء، وتحفزت للإعصار الذي يقترب خطوة بعد خطوة من قلعة عزلتي الصامدة إلي الآن. وقلت له بصوت كالرعد الذائب في لكنتي المصرية إنني في هذه اللحظة أستحم أخيرا، بعد يوم شاق قاومت فيه المياه التي أغرقت البيت، وإنني الآن لست بحاجة إلي أي شيء سوي النوم. وقلت له إن هناك إعصارا.
ألقيت بقايا النسكافيه علي تجمع مائي صغير وراقبت البني وهو يتبدد، واستدرت لأصعد حيث كان ينتظرني بالفعل حمام ساخن.
أخيرا تأكدت أن في شقتي سخانا وليس مجرد ديكور. فكرت تحت الماء الدافئ أن المطر قد يفاجئ صديقي في أي لحظة، وانتابني إحساس بالذنب، لكنني استطعت أن أبطله تماما. قلت لنفسي: الإذاعة طلبت منا جميعا ألا نجازف، صح؟ صح. لماذا جازف إذن؟ غلطان. ثم لماذا يستمتع هو بالجو البديع، وأدفع أنا الثمن من عزلتي الحبيبة؟ عندك حق.
وعندي أيضا كهرباء. عندي من الكهرباء ما يكفي لبيتين، ومن الموسيقي فيضان لا أعرف كيف لم يجعلني إنسانا أفضل، وكنت قد أنهيت بالنهار عملا كثيرا. هكذا، وبرضا تام عن النفس، دخلت سريري، أخذت أقرأ في رواية، وأنا أدخن، ورائحة كلوز أب المنعشة تملأ فمي، وأمامي مستقبل مشرق هو عبارة عن ثلاثة أيام إجازة بسبب "جونو[i]" الجميل. ونمت مثل طفل بريء.
طبعا هذا لا ينفي أنني والآسيوي واللبناني والمصري جميعا إخوة، كلنا في النهاية من نسل قابيل.

الخميس
تختلف تعريفات الإنسان. منها ما يري أنه حيوان مفكر، منها ما يري أنه حيوان ضاحك، إلي آخر هذه التعريفات. لا أعرف لماذا ألاحظ الآن أن القاسم المشترك بين هذه التعريفات جميعا، هو أن الإنسان حيوان.
أصبح مجرد دخول الحمام تجربة عملية للواقعية القذرة

الجمعة
لو كنا أثناء الإعصار حرصنا علي جمع كل هذا الكم من المياه الذي أهدرته الطبيعة، لما عشنا أزمة نقص المياه بعد الإعصار. ولكن لو كنا جمعنا كل هذه المياه، ما كانت حركة المرور لتضطرب علي هذا النحو، وكانت سيارات نقل المياه ستتحرك في سلاستها المعتادة، وكنا سنمر بأزمة وجود مياه أكثر من اللازم!
اتصلت بـ آنجي، بواب البناية، وأنا أستبعد أنه سيستطيع في هذه الظروف أن يساعدني. قال آنجي إنه سيرسل رامش لمساعدتي. رامش؟ من رامش؟ لقد ابتكر آنجي مخلوقا جديدا لمساعدته. أم تري قذفه إليه جونو؟ آنجي اللعين يثرى علي عطشنا نحن المساكين!

السبت
أتصور أن آنجي سيغادر عمان بمجرد عودة المياه، ليستثمر أمواله بين بورصتي نيويورك وطوكيو. أفكر أن أراقبه أو أراقب رامش لأعرف من أين يحصل علي كل هذه المياه التي يبيعها لنا بالقطرة.
غدا الأحد. كيف لم ألاحظ من قبل أن الإعصار موجود طوال الوقت، علي الأقل من الثامنة من صباح السبت إلي الثالثة من ظهر الأربعاء؟

* نشرت في مجلة "حياتي" تصدر عن جريدة عمان، ثم في "أخبار الأدب"، ثم في جهة الشعر




[i] اسم الإعصار الذي ضرب سلطنة عمان في 6 يونيو 2006