Monday, February 24, 2014

لماذا لم أرقص باليه وكتبت رواية؟؟؟

لماذا لم أرقص باليه وكتبت رواية؟؟؟*
أحمد شافعي

يبدو أنه كان من الضروري منذ خمسة وعشرين عاما أن ألتحق بمعهد ما لأدرس الباليه والموسيقى، فأستطيع بعد سنين أن أكون راقصا "يوجد فقط حين توجد الموسيقى، ويغيب حين تغيب"·، لكن ذلك لم يحدث. ولأن الباليه فن أرستقراطي لا يستطيع كل من هبَّ ودبَّ أن يمارسه بل وربما مجرد أن يستمتع به، فإنني لم أستطع ممارسته في اللحظة التي احتجت فيها أن أكون في خفة راقصٍ، وفي عالمٍ كعالمه" واضحٌ ومعلَنٌ أنه مؤقت وأنه زائلٌ وأن المقصود منه الإمتاع". لذلك كان لا بد من خلق هذا العالم، فكانت الرواية.
كنت بحاجة إلى سبتمبر في وقت لم يكن فيه أي سبتمبر، لا هواؤه ولا سماؤه ولا غيمه. كان الوقت رمضان، والواحد ظمآن بالنهار كسلان بالليل، محاصر بوظيفته وساعاتها التي لا تنتهي، مفتقد سجائره وقهوة الصباح، مطعون بالمواصلات الرهيبة والزحام القاتل، مضطر إلى كل شيء. ولكن حدث أن "نجا الشاعر، لم يطله الحريق، وغادر النار مثلما أغادر عملي كل مساء، ظافرا ببداية":
"فتحت سوسو نافذة غرفتها ...". كانت هذه هي أول جملة كتبتها في روايتي "رحلة سوسو". لعل هذا قريب مما حدث لفتاة أخرى وإن تكن أصغر من "سوسو": كانت جالسة جنب أختها الكبرى المشغولة بالقراءة، حين مر أرنبٌ بدا على عجلة من أمره، وأخرج من جيب صديريته ساعة بـ "كاتينة" نظر فيها وهو منطلق، فتبعت الفتاةُ ذلك الأرنبَ العجيبَ إلى بلاد العجائب. هذه النافذة التي انفتحت ـ من تلقاء أي شيء ـ  أمام "آليس"، هي التي كان على "سوسو" أن تفتحها بنفسها.

الرواية ضرورة وأنا أعرف لماذا

كنت بحاجة ـ حين انحرفت إلى كتابتها ـ إلى هدهدة روحي، إلى بث الطمأنينة فيها، إلى تسليمها رسالة تصلح بديلا للعصا التي لم تمتلكها قط والتي كانت كفيلة بألا يختل توازنها على الحبل. وبدا لي من غير الممكن أن أستعين بالشعر على ذلك، فالشعر ـ كما أعرفه ـ لا يحب الكلام، صوفيٌّ، عارفٌ، بخيلٌ بما لديه، في غنى عن قارئه، وربما كاتبه، متعالٍ دائما، زئبقيٌّ تشعر وأنت تلمسه أنك لا تزال تريد أن تلمسه، لا تزال لم تلمسه بعد.
أما الرواية فليست أرستقراطية. منذ بدايتها وهي فن العاديين. هم موضوعها وكتابها. ليست المسرح الذي لا يزال في ذاكرته أنه كان مكانا تتمثل فيه الآلهة وأنصافها والملوك وأشباههم، ولا الشعر الذي لم ينس أنه كان صوت الكهنة وترنيمة المعابد، وليست الحدوتة البسيطة أو التي تدعي البساطة، أو الملحمة التي لا تتسع إلا للفرسان والأبطال (بل لعلها بارودي الملحمة كما يرى كونديرا). هي أقرب إلى ما يفعله المراهقون حين يقررون تدوين أيامهم، هي الأقرب إلى ما يدور في خلد شيخ مات آخرُ من كانوا ينادونه باسمه مجردا. وهي لا تنفر من الخطأ، بل تحتمله وتعوّض قارئها عنه، وهي بهذا أرحب من القصيدة والقصة القصيرة حيث لا مجال للخطأ. وهي، فوق كل هذا، سينما الكاتب.

لماذا تسألني ولا تسأل نجيب محفوظ؟

بدأوا كتابا للقصة القصيرة في "همس الجنون"، و"أرخص ليالي" و"حيطان عالية" و"أوراق شاب" و"بحيرة المساء"، وكثير ممن كتبوا الرواية في هذا البلد بدأوا بكتابة القصة القصيرة، لكن أحدا لم يسألهم عن سر انتقالهم إلى هذا الفن المختلف. ويستكثرون ذلك ـ ولعلهم يستنكرونه ـ على الشعراء. وكأننا في قرارة أنفسنا نرى القصة القصيرة والرواية فنا واحدا، أو فنين متآخيين، أو أن القصة القصيرة تدريب جيد قبل الانبراء للرواية !!!

اعتبروني أتوبيس

الرواية ضرورة. لو صح ما يراه كونديرا من أن الروائي يولد على أطلال عالمه الغنائي. ولو صح ما يقال عن أن الشعر الآن ينفر من الغنائية فقد اقترب الشعر بالشعراء من الرواية، ولو أن الصلة لم تنقطع بعد بين الشعر والغنائية (وهو ما أظنه) فالشعراء بحاجة إلى إكمال أرواحهم بالرواية أو بغيرها، ومن ثم فمن الطبيعي جدا أن يكتب الشعراء الرواية مع الشعر، أو يهجروا الشعر إليها، أو يكتفوا بالشعر عنها، كلٌّ وشأنه. ولكن من الغريب في بلدنا أنها لا تؤمن بالتخصص إلا في الأدب، فبوسع الراقصة أن تدعو إلى الله، والمكوجي أن يغني، وعديم الموهبة أن يكتب الأغاني ويلحنها ويغنيها، وبوسع الأتوبيس أن يصبح طائرة مع أول كوبري يقابله. أما أن يصبح شاعر روائيا، أو يزاوج بين الشعر والرواية، أو بين الكتابة بالعامية والفصحى، فقد صبأ، جار على زملائه، وضع كراسي مقهاه أمام مطعم جاره، خان العيش والملح وعشرة السنين. مع أنني أنظر فلا أجد أحدا استنكر على شكسبير مسرحه باعتباره شاعرا، أو سونيتاته باعتباره مسرحيا. أنظر فأجد لتشيخوف مسرحيات، ولإدجار آلن بو شعرا بل وقصائد نثر، ولهمنجواي قصائد نثر، ولماركيز سيناريوهات للسينما، .... والأمثلة كثيرة جدا على من جربوا في فنون متعددة فأثّرت هذه الفنون بعضها بعضا، وأثرت أرواحهم. أما هنا فلا زالوا يبتسمون ـ وربما يسخرون ـ حين يقدِّم واحدٌ ثانياً لثالثٍ قائلا إنه "شاعر وروائي ومترجم"، طيب أنا بقى شاعر وروائي ومترجم، وأحتفظ بحقي في أن أجرب كل ما يمكن تجريبه بالقلم والورقة.


* نص شهادة نشرت في الثقافة الجديدة قبل إحدى عشرة سنة




·  كل ما بين قوسين كهذين "" ـ باستثناء الأسماء والعناوين ـ مأخوذ من قصائد لي.