فاطر
برخصة
لا أعرف
ما الذي نقصده بالضبط حينما نصف وقتا
معينا بأنه لا يحسب من العمر. أتخيل أن
شخصا قد يضع على باب كباريه لافتةً بعبارة تنطوي على هذا المعنى، قاصرا دعايته
عليها، فإذا كل عابر، فيما أفترض، يرجو أن يدخل ليعرف تلك البهجة التي تعده الدعاية أنها من خارج العمر.
وبوسع صادق أن يضع العبارة نفسها على باب سجن. ولنا أن نؤلف كتابا عن النوم عنوانه
هذه العبارة، ولنا أن نعنون بها كتابا عن الجنس. فعلا لا أعرف ما الذي اصطلح عليه
الناس بالضبط بوصفه معنى هذه العبارة: وقت من خارج العمر.
في حدود
هذه السطور، تعني العبارة وقتا لا هو بالمبهج ولا هو بالمقبض، لا هو بمتعة الجنس
ولعلها أغلى نعم الدنيا، ولا هو بعذاب فقدان الحرية ولعله أشد عذاب على الإنسان.
إنما العبارة تعني، في حدود هذه السطور، وقتا خاويا، لا يحدث فيه شيء، وقتا ما أشبهه
بساعات النوم، لولا أنك لا تقضيه حالما، ولا تكون بعده أكثر ارتياحا.
أن تكون
في طائرة.
لا أحب وجودي
في الطائرة. اللهم إلا في مرة واحدة، كنت أسافر فيها بالنهار، وسفر النهار أمتع لي
في كل الحالات، يكفي أن الواحد يتسلى بالسحاب، وبالرمال وبالجبال، وبالبحر حينما
يظهر. ومرة أخرى استمتعت فيها بالطائرة لأسباب علاقتها بالسفر أوهى من
علاقتها بمتع أخرى من متع الأرض. وهناك بالطبع كباريهات على الأرض.
إنما
المعتاد، أنني أقضي ساعات الطائرة القليلة ـ أربع فقط ـ متأففا، ضائقا بمن حولي،
وبمن معي إن كان معي أحد، أقضيها وأنا على يقين كل ثانية أن ما أفعله هو أنني لا أدخن،
ولا أقرأ، ولا أفتح الكمبيوتر، ولا أشاهد الفيلم التافه، ولا أستمع إلى الموسيقى
الرتيبة المتكررة. فقط أراقب الساعة، وأتابع على الشاشة خط السير كل حين حاسبا
المسافة والوقت، ما قطعته الطائرة وما ينتظرها، وأحاول أن أستنتج المسافة الباقية
والوقت المتبقي، وأضع الخطة المثلى التي ينبغي اتباعها عند توقف الطائرة لأسبق
بخطوات ضئيلة إلى الخروج من الطائرة. أقضيها وأنا أتأمل ظلم العالم للمدخنين،
وقهره لهم، وتغوله عليهم، وأمني نفسي بأن يوما سيأتي يشعل فيه الناس سجائر في
الطائرات، وفي غرف العمليات، وفي حضانات الأطفال، وفي استديوهات القنوات الفضائية،
وفي نهار رمضان، وفي نومهم، وفي قبورهم، ولن يجرؤ أحد أن يعترض لأن هذا حق من حقوق
الإنسان.
ما علينا
كل مرة أجد
نفسي فيها في طائرة أتساءل لماذا لم تبق السفن وسيلة السفر الوحيدة. ولا تتصوروا
أن من السهل أن أتعامل أنا على هذا الأساس وأبحث عن سفينة أستخدمها بين مسقط
والقاهرة. فالعالم، كله، يجب أن يتفق على هذا، أعني القضاء على كل وسائل النقل ما
عدا السفينة، وإلا فإن أيام السفينة كلها ستكون ـ بطريقة أو بأخرى ـ من خارج
العمر. صحيح أنني قد أقرأ، وأتقيأ، وأدخن،
وأتقيأ، وأتعرف على امرأة جميلة برغم أنها تتقيأ، وأتقيأ، ونتسلى في غرفتها أو في
غرفتي أو في أي خرابة من خرائب السفينة في الوقت الذي لا نتقيأ فيه، ولكن، من
سيوافق لي على أسبوعين زيادة في إجازتي لأنني أقضيهما فعلا في الوصول إلى مقصدي،
وليس في مقصدي نفسه؟ نعم، أعتقد أنني كنت أبالغ حينما قلت إن على "العالم كله"
أن يتفق على السفينة، إذ يكفي تماما أن أتفق أنا مع الزملاء هنا في جريدة عمان،
لولا أن إقناع العالم أسهل. هذا، ما لم يكن لي هدف أعمق، وأي شخص حرفته الكتابة
يستطيع أن يغلف مصالحه الشخصية بهذه الأهداف الأعمق: سيرجع العالم أهدأ، وأقل
سرعة، بل أبطأ، فعلا، عندكم حق، وأستشهد في هذه الحالة برائعة كونديرا، لا، ليس
البطء، الجهل بعيد عنكم.
المهم. أخونا
في الأدب ماركيز يصحح مسوداته في الطائرة، أو أن هذا ما يزعمه. ولكنه متوقف عن
الكتابة منذ عهد بعيد، فما الذي يفعله في السفر؟ أنا شخصيا استطعت مرة أن أكتب
شيئا متماسكا في طائرة. ترجمت قصيدة وكتبت عنها كلمتين. وقرأت مرتين.
مرتين
فقط استطعت أن أقرأ وأنا في الطائرة. مرة "في كل أسبوع يوم جمعة". ومرة
"مولانا". وكأنما لا سبيل إلى قراءة عمل جاد في طائرة. في أول سفرة إلى
مسقط على الإطلاق، حاولت أن أقرأ مغامرات بينوكيو، وإلى اليوم، لم أنته منها.
بينما روايتا الابراهيمين انتهتا تماما قبل أن تصل الطائرة. ولعلهما انتهتا من
الوجود نفسه قبل أن أغادر المطار.
الساعة
الآن 00.30 من صباح الثلاثاء 30 يوليو بتوقيت مسقط. السيارة مركونة في موقف الجريدة
فهذا أكثر أمنا، حقائبي فيها، سيمر علي صديق بعد ساعتين ليقلني إلى المطار. آه، مؤخرة
السيارة هي الملاصقة للرصيف، لأنني سأرجع فأجد بطارية السيارة وقد ضاعت فيحسن أن
تكون مقدمة السيارة قريبة من سيارة موهان التي ستشحن بطاريتي. موهان هو السائق
الهندي الذي يقلني إلى المطار منذ سنين، ولكن سيارته معطلة. من سيشحن لي بطارية
سيارتي عندما أرجع؟ موهان، لن يعيش كل هذه الأسابيع بدون سيارة.
المهم. حقيبة
الطائرة أمامي: الباسبور مهم لذلك ينفرد بجيب بارز فيها. في جيب ثان محفظة مسقط
بأوراقها والنقود العمانية، وفي جيب ثالث محفظة القاهرة بأوراقها والنقود المصرية.
وفي الحقيبة نفسها اللابتوب بدون الكابل، ومعه الهارد ديسك الذي عليه كل شيء مهم
في حياتي. هناك أيضا علبة سجائر مغلقة، مع أنني لن أفتحها إلا بعدما أصل إلى
البيت. لكن، من يضمن، مع أنه لم يحدث من قبل، ألا تتأخر الطائرة في الإقلاع؟ وإنني
امرؤ لم يكن منذ عشرين عاما بدون أن تكون معه سجائر. وهناك عودا ثقاب، طويلان،
أنتزعهم قبيل السفر من أي علبة ثقاب أكون سرقتها من فندق أو مطعم محترم. لماذا
عودا الثقاب؟ أعتقد أنكم سوف تتقززون، ولكنه أمر متعلق بأذنيّ. أحيانا تفاجئني فيهما
نوبات لا يكون لها حل آخر. وفي الحقيبة أيضا لبان. لماذا: لأنه في غياب السجائر
ماذا يفعل الإنسان؟ ولأن الواحد حينما يصل يعانق، وليس مستحبا أن تعانق برائحة فم خبيثة.
ولا تكلموني عن رمضان، أنا الليلة فاطر برخصة، سأخرج من المطار في القاهرة، فأشعل
سيجارة في الهواء الطلق، ثم لبانة، ثم نفسا عميقا من هواء القاهرة الضار جدا
بالصحة، ثم ينطلق التاكسي دون أن أنشغل أنا بمحاولة إقناع سائق التاكسي بأن الأجرة
أصلا كبيرة، وأنه لا ينبغي أن يطلب مبلغا إضافيا. لماذا؟ لأن في حقيبة الطائرة جيبا
أتأكد وأنا راحل عن القاهرة كل مرة أن فيه مائة جنيه عشرات وأن الستين جنيها التي اتفقنا عليها قبل أن نتحرك هي
"كل المصري اللي معايا والله" ولكن "خد دي وادعيلي" وفعلا،
الجلواز سيجارة هي أثمن ما يمكن أن يضحي به مدخن يحترم التدخين.
أشوفكم
بخير