للشاب الصديق
الراحل إدجار آلن بو قصة اسمها القلب الواشي تبدأ بشخص يؤكد أنه غير مجنون ولكنه
مرهف الحواس، يسمع جيدا، حتى أنه سمع كثيرا مما يجري في الجحيم (ومع ذلك هناك
ملاحدة كفرة مشركون ينكرون وجود الجنة والجحيم). وأنا ايضا. ليس الأمر أني أسمع ما
يدور في الجحيم، ولكني أسمع بصورة أفضل وأنا نائم.
ابتداء من أولى
ثانوي، بل الإعدادية، تركت لهم الجمل بما حمل، ولم يكن ما يحمله مغريا أصلا، وطلعت
شقة فوق شقتنا سكنت فيها وحدي، وفي ليلة شتوية باردة وأنا مستلق أقرأ في السرير
استعدادا للنوم (نعم، يحكى أنني كنت أقرأ قبل أن أنام، ويحكى أيضا أنني كنت أنام)
سمعت أصواتا مريعة، وانتهى رأيي إلى أنها عفاريت، وقررت تجاهل الأمر. كان ظهري
يواجه باب الغرفة، وأيقنت أن العفاريت تحطم أعصابي أولا قبل أن تدخل لتجهز علي.
وانتظرتها دون أن ألتفت. وانفتح الباب بعد قليل، وسألني أبي: انت ماكنتش سامع
القطط؟ دول صحوا البيت كله. وكان بصحبته نموذجين من الأشخاص الذين أيقظهم الصياح.
ربما رشا أختي ومحمود ابن عمي. فالتفت وقلت بهدوء: سمعتهم بس هاعمل لهم إيه يعني.
طبعا لم تكن أصوات
قطط. الأمر أنه رآها كذلك عندما دخل الشقة الخاوية.
المهم أنني منذ تلك
الليلة أصبحت تقريبا لا أنام، وإن نمت، فنوم قلق أفيق منه، لأي صوت: باب شقة يقفل
في العمارة، باب يفتح داخل الشقة، طبق ينكسر في حلم شخص بجانبي. إلى أن وقعت
بالأمس واقعة جديدة.
صديق لي مسافر من
عمان إلى بيروت، يتصل بي من المطار ويقول إن رحلته ألغيت وسيسافر في رحلة تالية
الساعة الثامنة صباحا. بعد نصف ساعة كنت معه في فندق قريب من المطار، سهرنا، ثم
عدنا إلى شقتي لينام حتى الصباح. كانت خطته أن أسهر معه أنا، لكن لأنني سأكون
مضطرا إلى البحلقة في الكمبيوتر وقت أن تكون كبرى مشكلاته هي أن مقعده في الطائرة
لا يتيح له النوم المتواصل، قررت أن يتم تنفيذ مخططي أنا. وفي شقتي بدا متوترا،
كيف سيصحو بعد ساعتين، في الخامسة، ليبدأ الرحلة. وطمأنته أنني سأضبط المنبه على
الخامسة، وأكيد سأستيقظ قبل ذلك فأوقظه.
وفي الخامسة، أذكر
أني رأيته وأنا واقف بباب غرفتي بعد أن رن موبايلي وموبايله، لمحته يدخل الحمام،
لا أذكر بدقة إن كنا قلنا أي شيء، ولكني ضبطت موبايلي على موعد آخر، وقررت أن
أنتظر ثم أدخل الحمام، وأستعد لتوصيله، ثم العودة للنوم ولو قليلا.
صحوت على أذان
الفجر، وفرحت جدا أنني أسمع أذان الفجر للمرة الأولى منذ شهور، ورأيت من الشباك
عتمة وبردا وقطارا واقفا في المحطة والقطط تسير على سطحه ضخمة وصوتها زاعق، وتبين
أنني نمت على الكرسي، وأنه تركني وترك نور الحمام مضاء وأنا أكره أن يترك أحد نور
الحمام مضاء، وترك باب الشقة مفتوحا فليس لديه مفتاح، لكنني أكره أن يترك أحد باب
الشقة مفتوحا ولو بدعوى أنه ليس لديه مفتاح، وتبين أيضا أن الأذان ليس أذان الفجر،
وأنه ليس هناك أي أذان أساسا، وأن الموبايل رن فلم أسمعه، وأن العفاريت عل سطح
القطار كانت تظهر لي للمرة الأخيرة، في نوع من الوداع، وأنها لسبب ما رأت أن تأتي
في الصورة التي رآها عليها أبي والتي يبدو أنها أحبتها أكثر من صورها الحقيقية.
أما القلب الواشي،
فترجمتها منذ سنوات، أيام كنت أترجم بالقلم الرصاص، استهلكت مني أياما ومجهودا
خارقا مع تراكيبها العجيبة ولغتها القديمة نسبيا، ثم اكتشفت بعد كل ذلك أنها
مترجمة ومنشورة في نزوى بترجمة طاهر البربري. وحدث منذ أسبوع أن اقترب مني رئيس
القسم في وجل وتردد ووضع أمامي نسخة منها وجلس على المقعد ولكن ليس قبل أن أدعوه
للجلوس، وقال لي إنه مطلوب منه في رسالة الماجستير أن يقارن بين أكثر من ترجمة لنص
واحد، وأنه وجد ترجمتين لقصة واحدة، ويحتاج ترجمة ثالثة. قلت له لأ مش فاضي خالص.
فقال إنه مستعد أن يدفع أجر الترجمة، فحذفت لأ لأنها ليست فصيحة، وقلت له صدقني
مشغول. فألح، فقلت له إني سآخذ النص دون وعد مني بإنجاز المهمة، ودون تحديد موعد
لإنجازها. وتبين أنها القلب الواشي. وأن الترجمتين لطاهر البربري ومترجم خليجي
اسمه الشيباني. عثرت على الترجمتين ووجدت الأخيرة منهما أفضل من الأولى، ووجدت في
الأولى أخطاء جسيمة، وترجمت القلب الواشي باستمتاع مستعينا في المواضع الملغزة
بترجمتي طاهر والشيباني، فكانتا تضعان يدي بدقة على ما لا ينبغي أن أفعله، ورغم
صعوبة ما أطلبه منكم: صدقوني حين أقول إنني أعطيت الترجمة لطالبها، ورفضت أن أحصل
على أي أجر، فكسرت عينه بضعة أسابيع قادمة (أظن يمكن أن تصدقوا الآن)، وشرحت له أن
طاهر كان لا يزال في بداياته فالقصة منشورة منذ عشر سنوات مثلا، في أعداد نزوى الأولى.
وأعطيت ترجمتي لأحد الزملاء لينشرها في ملحق ثقافي يصدر مع الجريدة. وقريبا سوف
أطلقها على بلوج قراءات العظيم الذي صرت أهمله بدون وجه حق.