Sunday, May 11, 2008

كتاب فلسفة في الشاي أبو من غير نعناع

ظللت حتى تالتة إعدادي أضبط السكر في الشاي حسب ما تستسيغه أمي، في البداية كان الأمر يبدو مثيرا للضحك: ماما شوفي لي الشاي عايز سكر واللا لأ؟ فتتذوقه، وتضبطه لي وفقا لمذاقها، وأستسيغ أنا ما تستسيغه هي بالضبط. لا أعرف معنى هذا حتى الآن: هل كان ينبغي عرضي على طبيب لبحث قدرتي على التذوق؟ لم يبد أن الأمر يقتضي هذا لأنني كنت أتذوق بالفعل أشياء أخرى. ربما لم أكن قد طورت ـ بلغة الترجمة العقيمة ـ إحساسا بتذوق الشاي أصلا وربما كان علي أن أتخلى عن شربه أصلا. ولكن نشأت تلك العلاقة الرقيقة بيني وبين أمي. ولا أظنها استمرت طويلا. أتذكر جيدا تلك الليلة وأنا في أولى أو تانية ثانوي على سطح البيت: مصدر الإضاءة أباجورتان أسلاكهما ممتدة عبر وصلات إلى شقة في الطابق الثالث، ثمة منضدة حولها ثلاث كراسي: أنا ومحمود طارق وكأننا نذاكر، وبالقرب منا موقد نعد عليه الشاي. كان طارق المسئول الوحيد عن إعداد الشاي، لأنه لا يستطيب إلا الشاي الذي يعده بنفسه، لا أعرف إن كان طارق الآن يعد شايه أم يطلبه من زوجته. وبرغم أن القاعدة تقول إن طارق هو معد الشاي إلا أنني أتذكر أنني طلبت من محمود ألا يضع لي سكرا في الشاي. ورشفت فكان بشعا، فوضعت أقل من نصف ملعقة سكر، وبدا للشاي طعم بديع، وبعد نحو سبعة عشر عاما من حياتي استطعت أن أتوصل بنفسي وبما يشبه الحدس إلى مقدار السكر المطلوب بالضبط. ولم أتنازل عن ذلك منذ تلك اللحظة. بدأت سنوات الشاي منذ تلك الليلة الجميلة واستمرت حتى عام 2000 مثلا. كوب شاي بين شوطي المباراة، أعده، بلا أي نكهات إضافية مثل النعناع أو القرنفل، وأصعد به إلى السطح، فأشربه وأدخن. كوب شاي على السطح في الثامنة مساء، في الشتاء، أراقب السيارات المتتابعة التي تتوقف في محطة القرية، مركزا على البنات العائدات من الكلية، مترقبا بنتا معينة، ما أن تصل حتى أنزل جريا، فأكون أمام البيت لحظة أن تحاذي البيت، نتصافح، وأسير معها حتى بيتها. كوب شاي على السطح، قبل السابعة صباحا، وأنا أطل لأراها قادمة، فأتابعها حتى تركب أول سيارة أجرة منطلقة إلى كليتها، بعد ذلك أنزل لأذهب إلى المدرسة. وكنت حينما أطلب بعد الغداء ألا يضعوا أكثر من نصف ملعقة سكر، أسمع سخريات للصبح من الذي لحد أول امبارح كان يطلب من ماما أن تتذوق له الشاي.
استطاع الشاي أن يعيش بضع سنوات برغم أن القهوة كانت قد بدأت وجودها الفعلي في حياتي مع دخولي هيأة الاستعلامات، وفي مقهى الندوة، والتكعيبة، وفي ندوة جبريل من قبلهم جميعا، وامتلكتني. إلى أن بدأت أعدها بنفسي، وتوصلت إلى أن الحل الوحيد لي مع القهوة هو أن أشربها مغلية، وأشربها في كوباية. وظللت كل خمسة عشر يوما أذهب إلى البنان الشهير في باب اللوق فأشتري ربع كيلو غامق سادة ـ أي بدون تلك الأعشاب الزبالة التي يحبونها، وطور أبي علاقته من جديد مع القهوة معتمدا على المدد المنتظم.
كان كوب الشاي الأول في السابعة عشرة من عمري، ولكن فنجان القهوة الأول، والأحلى، كان قبل ذلك بكثير، ربما كنت في الثالثة عشرة، في أولى إعدادي، وفي رحلة لعلها كانت في القناطر، كنت جالسا على العشب، على ربوة، وحدي على الأرجح، فإذا بزميل ـ أحمد الصباغ الذي كان يغضب جدا حين أنطق اسم عائلته بالصاد لا بالسين كما هو معتاد ـ يأتي ليجلس بجواري ويقول لي إنه يدعوني إلى فنجان قهوة. كان خلفنا كشك قريب، نادى أحد بثقة بدت لي مثيرة للإعجاب، وطلب قهوة، فسأل الجرسون عن مواصفاتها، قال أحمد زيادة، وأنا قلت مضبوط. بدا هذا أسلم من المجازفة بأحد الاختيارين الآخرين. كان اليوم في نهايته، وقت المغرب، ولم أتذوق قهوة أجمل بعد ذلك. وهذا حكم لا أظن أن له علاقة بأي نوستالجيا.
جئت إلى مسقط ومعي الكنكة، وربعان من البن السادة الغامق. وبعد شهر اكتشفت أن بن النجار أجمل ميت مرة من بن باب اللوق الذي كنت أتساءل كيف سأعيش من غيره. خصوصا العبوة الزرقاء. وبدأت القهوة تقترب كثيرا من فنجان القناطر القديم. ومنذ عامين، انتهت حقبة القهوة التركي. أنا الآن في عداد مدمني النسكافيه، الماركة والمشروب. عندي في المكتب غلاية صغيرة في الدرج، ودائما هناك علبة نسكافيه متوسطة، وبرطمان سكر. ولا داعي للحليب طبعا.
يحدث أحيانا حين آتي إلى المكتب أن أكتشف نفاد النسكافيه، فألجأ إلى الكافيتريا حيث يعدون النسكافيه على نحو بالغ الرداءة. اليوم صحوت بعد موعدي بساعة، فنزلت جريا دون إفطار، وفي المكتب تبين أنه ليس لدي نسكافيه، والكافيتريا نفسها ليس لديها حتى النسكافيه الرديء، وبرغم طول الهجران والبعد والتعالي عليه وعلى من لا يزالون يشربونه، ها هو الشاي يمنحني نفسه لذيذا بصورة تستحق الندم على السنوات من 99/2000 إلى 2008.