Monday, September 17, 2007

ضرورة الكلب في المسرحية "آخر تجليات القاهرة"

تقول أمي ـ في معرض اعتراضها على صرخة تصدر عني بين الحين والآخر في وجه أدهم ـ إن النظرة في وجهه تطيل العمر.
قد يعترض الشيخ الدكتور محمد هداية، بل إنه قد يكفر أمي لاجترائها بهذه الصورة السافرة على حقيقة أن العمر بيد الله وحده، ولا يملك إنس ولا جان أن يمد في أجل إنس ولا جان.
في المقابل، قد تروق لأحدهم تلك المبالغة الشعرية. ومع أن التعبير موروث، إلا أن وروده على خاطر أمي في الوقت المناسب يضفي عليه طزاجة توهم أنه ابن اللحظة المنطوق به فيها. لماذا لا نتكلم عن سرعة بديهة أمي؟ لأن هذا شيء لا يستدعي الكتابة عنه. هذا من قبيل المسلمات. أم أحمد شافعي تتميز بسرعة البديهة. طبعا. كان هذا ليكون خبرا لو أنها أم (من مثلا؟ هي تعرف نفسها على أية حال).
ما يهمني هنا: بماذا شعر الشخص الأول الذي قال ذلك التعبير فقال ذلك التعبير؟ بصورة أبسط: ما الشعور الذي استولى على أحدهم فلم يجد وسيلة للتعبير عنه إلا أن يبتكر ذلك التعبير الجميل؟
بوسعنا أن نعرف الكثير عن الموقف القديم المنتج للتعبير: شخص ما يحكي لنكرة ما عن شخص آخر. فيقول له وقد تمهل طويلا حتى يجد التعبير المناسب: "النظرة في وجهها يا أخي تطيل العمر".
افترضنا هنا أن الموصوف أنثى. وأنها غائبة. وهذا يكشف الكثير عني. وعن ابن عربي أيضا، أليس هو القائل إن الأنثى محل الانفعال؟
وافترضنا أنها غائبة. فيا له من قول تودد مبتذل في حال الحضور.
ما الذي يمكن أن نعرفه الآن؟ الحقيقة أن السبيل أمامنا إلى تعرف الشعور لا بد أن يمر بقائل العبارة، وعلينا هنا أن نتحلى بأكبر قدر ممكن من التحفظ والأدب لأنني أوشك أن أتكلم عن أمي.
أما والحال هكذا، فلنقل إن الشخص القائل الأول للعبارة كان في الحقيقة مشغولا بعمره أكثر من انشغاله بموصوفه. النظرة في وجهها تطيل العمر. من الصعب أن نفترض أنه يقصد عمر الموصوف. ففي هذه الحالة لا شك أن محمد هداية سيكفر القائل لافتراضه أن نظرة منه تطيل عمر المنظور إليه.
هو إذن كان يفكر في نفسه لا فيها. ولذلك لم يقل عنها شيئا. جنح جنوحا شعريا رقيقا وخلابا ـ ولكن تعالوا لا ننسى أن جنوحه هذا لم يكن إلا عنها هي بالذات ـ إلى الغاية النهائية من كل شيء: الأنا. دراكولا؟ الرجل الذي لا حياة له إلا بقبلاته؟ أهذا أمي؟ دعونا من أمي. يمكن حالا أن أعود إلى السطر الأول فأحذف أمي ـ وما أصعب ذلك ـ وأضع شخصا (هي تعرف نفسها) وما أشهى ذلك.
تقول "هي تعرف نفسها" ـ وهي من أصول هندية حمراء كما يتضح من الاسم: إن النظرة في وجه أدهم تطيل العمر. انظروا إلى الاسم: "هي تعرف نفسها". لقد حققت هذه المرأة ما لا يحققه إلا إله. هي أمي إذن لا شك. وهي مهمومة ـ وإن تكن إلها ـ بأن يطول عمرها. فيا لها من إله! لا أقصد أنها إله منقوص بما أنه ليس خالدا. بل أقصد يا لها من إله يعلمنا ما لم نعلم قط عن الإله. يعلمنا لماذا خلقنا الإله؟ ولكن هذا بالنسبة لمن يؤمنون أن هناك إلها، وأنه خلقهم، لهذا السبب أو ذاك. وبالنسبة لهؤلاء، سيعرفون سببا جديدا يزيد من سخطهم على الإله ـ بالنسبة للفاسقين منهم ـ أو من محبتهم للإله وقد اكتشفوا غلاوتهم عنده. ماذا عن المؤمنين بأنه لا إله؟ هؤلاء سيعودون قليلا ـ معذرة للمجهود ـ حيث يقولون إنه لا يوجد هذا الذي يعرف نفسه، أو هذه التي تعرف نفسها. لم يكن الرجوع إذن لإجهادكم يا أصدقائي، بل لننطلق مرة أخرى من حيث أنتم، دائما.
إنهم لا يؤمنون بوجود أمي. ومع ذلك، أغفر لهم، وأعتمد عليهم في إكمال ما هو آت لكي لا ينصرف أي منه على أمي. هو مهموم بطول عمره. ولكن: أهو مدرك لكونه يكذب، أو يبالغ؟ في حال إدراكه، يكون شاعرا، أي نصابا، أي نجارا ماهرا. فما السبيل الوحيد أمام نجار لكي يثبت أن الله موجود؟ ليس إلا أن يقيم عرشا يشعر الناظر أمامه بالدونية، يشعر أنه هو نفسه غير جدير به، ومن ثم فلا يوجد بين بني سلالته من هو جدير به، ومن ثم، هناك من هو أعلى. الجدير. كيف لم يكملهم مائة؟
ولو أنه مدرك لأنه يكذب، فهو مشغول بمن يكذب عليه أكثر من انشغاله بمن يكذب في وصفها أو يبالغ؟ هو مهموم بالفرد الجمهور أكثر من انشغاله من الموصوف؟ هو مرة أخرى مشغول بنفسه لا بالجمهور ولا بالموصوف؟ ولكنه مشغول بنفسه في هذه اللحظة بالذات ـ أمام هذا الجمهور بالذات ـ وليس بكل اللحظات التي تشكل العمر الذي ثبت أنه مشغول بأن يطول، وهذه تركيبة إله، لا يهمل التفاصيل، فهو لا يهتم كالزعماء بالنتيجة والغاية وفقط، بل بأن تكون كل لحظة من لحظات العمر الذي ينبغي أن يطول مملوءة بما يجعلها جديرة بأن تكون لحظة في عمره. إله. ما من شك. قائل تلك العبارة إله. والآن ماذا نعرف عن هذا الإله؟ لن أعيد ما سبق. نحن نعرف عنه ما سبق. ونقول إنه إله. لأنه فيما يبدو ينطوي على تركيبة لا تتوافر في الفانين أمثالنا. أهذا ما كنت أفعله إذن؟ عرش ـ على طريقتي ـ يشعر الناظر أنه غير جدير به وما إلى ذلك؟ حتى لو كان الأمر كذلك فأنا لم أكن أقصده.
لقد كنت أحاول، مخلصا، صدقوني، أن أعرف ذلك الشعور الذي جعل شخصا لا أعرفه في زمن لا أعرفه وفي موقف لا أعرفه، يقول قولا جميلا فيه شعر. وإنني الآن مستعد لأن أقترح صياغة لهذا الشعور:
الشعور باندفاع إلى جعل كل لحظة جديرة بضمها إلى عقد الخرزات المسمى بالعمر، الذي ينبغي أن يطول بقدر الإمكان، الشعور بأن جدارة اللحظة بالانضمام إلى عقد خرزات العمر مرهونة بوجود جمهور، بوجود من يفغر فمه على آخره دون أن يجد من كلمة تصلح تعليقا، الشعور بأن الألوهة لا تتحقق بغير العبيد، الشعور بأن الألوهة أمر لا بديل عنه، برغم غصتك وأنت تخلق عبيدك، وحسرتك وأنت تستعملهم، الحاضر منهم للاستماع، والغائب للاشتغال عليه. والآن، لو أنني كنت "كنفاني"، لتصورتم أنني أحاول أن أفهم لماذا يفعل الكنفاني كل هذه الكنافة، ولكنني شاعر. رمضان كريم
القاهرة صباح 17 سبتمبر 2007