تكاد تكون هذه أقدم الذكريات جميعا خارج
البيت، فداخل البيت هناك الذكرى الأقدم، ذكرى ميلاد أخي وعمري ثلاث سنوات. أما
أقدم الذكريات خارج البيت فتعود إلى لحظة ربما كان عمري فيها خمس سنوات. كنت أحفظ
القرآن على شيخ أعمى، وكنت جنته على الأرض، الطفل المعجزة الذي لا يرهقه، يحفظ
بسهولة، وإتقان، ويجيد مخارج الحروف، ويأتيه أبوه بالنقود بانتظام ودون أن يضطر
لطلبها. يومها كنت أسترسل في تلاوة ما حفظته من جزء تبارك، كنت أتلو سورة الجن
بديعة الاستهلال
قل أوحي إلي أنه استمع
نفر من الجن فقالوا إنا سمعانا كلاما عجبا يهدي إلى الرشد فآمنا به
بسلاسة شديدة لا تزال باقية إلى الآن. وشعرت أنني أرتفع عن
الأرض. شيء يشبه الدوخة كان ينتابني أيضا مع ذلك الإحساس، الذي لم ينتبني بعدها،
إلا نادرا.
الذي كان يحدث بالضبط ـ عسى أن يجد أحد
لي تفسيرا علميا لهذا الشعور ـ هو أنني كنت أفعل شيئين في وقت واحد، أتلو باسترسال،
دون أن أعي ما أتلوه، وأكون سارحا في شيء آخر بعيد. فعل شيئين في وقت واحد يتطلب
ذكاء أو قدرة عقلية ليست لدي في الظروف الطبيعية. أنا واحد من العظماء الذين
يقدرون عظمة الموسيقى فلا أستمع إليها إلا وحدها، ليس مثلا أثناء الكتابة أو
القراءة أو حتى الشغل، مع تقديري لعظمتها فأنا لا أستطيع المزاوجة بين عملين،
ولذلك أوقن أنني لن أجيد قيادة السيارات في أي يوم، فأي عقل هذا الذي يستوعب فكرة
أن ينظر أمامه ليرى ما خلفه في الوقت الذي يضغط فيه بقدمه ويحرك بيده ويتكلم في المحمول!!
وكنت صغيرا أيضا، حين نسيت القرآن مرة
وإلى الأبد. ولا أزال إلى اليوم أفاجأ بآيات تطفو، بديعة بلا سبب معروف: أول أمس،
وأمس، واليوم، طفت تلك الآيات، أو العبارات
قل تعالوا أتل ما حرم
ربكم عليكم
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد
إذ هديتنا وهب لنا من لدنك
واتل عليهم نبأ ابني آدم
إذ قربا قربانا
الأخيرة راودتني فورا، وهي السبب في كتابة هذا.
الشخص الذي سيأتيني بالسبب العلمي
للإحساس بالارتفاع عن الأرض المصحوب بالدوخة، هو أيضا الذي سيعرف لماذا هذه الآيات
جميلة كل هذا الجمال. أرجو ألا يتصور أحد أن الأمر يكمن في معاني الآيات، مع أن
الأمر قد يكون كذلك، لا يمكنني على أي حال أن أستبعد أي احتمال.
أنا لا أعرف شيئا عن طريقة تخزين
الذكريات في قدس الأقداس الذي هو عقلي. ماذا مثلا لو أن آية من هذه الآيات موجودة
على نفس الرف الموجود عليه أول قبلة، أو أحلى قبلة، ألا يحتمل أيضا أن يكون هذا هو
السبب في جمال تلك الآية؟
أنا أذكر واحدة من القبلات الجميلة، في
مترو الأنفاق، كنا عائدين من قصر الأمير محمد علي في المنيل، وفي المترو انقطعت
الكهرباء وتوقف المترو لبرهة كانت كافية لقبلة، ثم عضة عتاب على الجرأة. لا بد أن
الآيات الثلاثة تحيط بتلك القبلة، تلفها تماما بحيث لا يقترب منها الغبار. أو لنقل
غبار النسيان، كما يقول الشعراء. أو غبار أن تفقد حلاوتها.
فجروا المترو كما تريدون يا اولاد
الكلب، لقد أدى دوره على الوجه الأمثل