سمعت في صباي حكاية ولدين لهما وجهان بريئان وأب ضابط كبير في الجيش، وأم ميتة وشقيقات كثيرات من أمهات شتى، كلهن متن إلا الأخيرة. وفيما عاش الأب وبناته عيشا رغدا في فيلا ظليلة حولها كلاب كانت مشاهدتها فقط من مسرات طفولتي: ذلك الرعب الذي لا يملك من أمرك شيئا. فيما عاش الولدان ـ وكانا أكبر مني قليلا ـ مع جدتهما لأمها في بيت صغير بالإيجار وكان ذلك دلالة على أشد أنواع الفقر في قرية كل أهلها ـ في ذلك الوقت ـ يمتلكون بيوتهم. وبرغم بعد الولدين عن أبيهما إلا أن الجميع على يقين أن الأب يعذب ولديه (!!) فيقيدهما بالساعات تلو الساعات في جذع شجرة. وتلك ـ برغم قراءتي بعد ذلك لكتاب زينب الغزالي ومشاهدتي ألوانا من التعذيب على المدونات وترجمتي لأخبار جوانتانامو الموصوفة تفصيليا للجمهور الأمريكي الذواقة ـ ظلت أسوأ وأبشع حكايات التعذيب ولأستخدم قاطبة لأن أحدا لا يعرف ماذا يكسب غدا وبأي أرض يموت.
اختار زميل قديم لي في المدرسة، كان يجلس ملاصقا لي سنوات طويلة أن يزورني في الحلم منذ قليل، ولكن بوجه أحد ولدي ذلك الضابط القديم. فلنسم زميلي القديم س وليغفر لي س هذه المرمطة بين شخصيات عالمي.
أنا في الحلم مدرس ويأتيني س، بحكاية ابن الضابط ووجهه، ولكنه بقوة الحلم زميل الفصل القديم. س طالب عندي. يحكي لي ببراءة وجهه مدى معاناته، وأنه وحده بلا مأوى وأنه جائع ويريد نقودا فأعطيه أربعين جنيها.
الفصل الثاني. يطلب س نقودا مرة أخرى، وأنا أطلب منه أن يكلم الناظر. فيخرج من جيبه خمسة وسبعين قرشا ويقول بحقد بشع إنه لم ينفقها وإنه منتظر ليوم يضعها فيه في مؤخرة الناظر. أضربه. يكشف عن ولد رديء الطبع يريبك في أوجه إنفاق النقود التي يأخذها منك. ويسيل دم من أنفه. أنا أعرف أن أنف الولد تنزف بصورة طبيعية، مثلي في سنه كلما دخلت من حر الشارع إلى البيت. لكن مدرسا أصلع يأتي والولد تحت ذراعه ويقول لي إن الناظر لن يعطي الولد فلوسا وإن علينا نحن المدرسين أن نساعده ويطلب مساهمة مني. ويقع الولد ميتا.
هو زميلي في الفصل الآن، بلا مواربة. أنجح في رده إلى الحياة مرة أخرى. لكنه بعد قليل يفقد القدرة على التنفس، وأمكنه منها مرة أخرى. كنت ملتاعا في الحالتين، وفجأة تتحول لوعتي رعبا: لقد أحييته مرتين. لماذا فعلت ذلك؟ وزملائي المدرسون يضحكون، وأنا أقول ليته مات، وليتني مت. هذا أحسن من أن أعيش وأنا الذي أحييته. فينظر لي س، ببراءة الولد القديم، لكنه صاحبي، ويقفز من البلكونة.
حين نمت بالأمس، إذا بي وصديق في صالة شقة نائل، منتظرين أن يخرج من غرفة نومه لنذهب جميعا، ويخرج فعلا، مريضا بقوة، ويقول إنه لن يخرج لأنه ينتظر أحدا. فنذهب أنا والآخر، إلى البار، في الطريق أستأذنه لحظات لأعيد ضبط القميص داخل البنطلون. نحن بالليل، في قريتي، وأخرج فلا أجد الصديق، وأجد مقهى في موضع البيت القديم لزميلي الذي كان يجلس ملاصقا لي في الفصل. أجلس ويأتيني النادل ببيرا أشربها كأنني ميت من الظمأ، وأطلب أخرى، وفي منتصفها، أسمع أصوات ذكر بعيدة، وارى نورا، وأعرف أن الصديق الذي دخلت لأضبط ملابسي ثم خرجت فلم أجده هناك، وأترك نصف البيرة وأذهب إليه، لكي لا يحس أنني خنته وبدأت الليلة وحدي، يخرج لي من زحمة المولد فأجده أصبح عملاقا تقريبا، تضخم جسمه كثيرا، وغفر لي.
وأخيرا. الآن. بينما كنت أكتب هذه السطور كنت تاركا موقعا ثقيلا ليكتمل تحميله. عدت لأدخل منه على المدونة، فوجدت على صفحته الأمامية عنوان قصيدة اسمها دريم لاند لإدجار آلن بو. هي قصيدة اليوم على الموقع. هذه التقاطعات تجبرني دائما أن ألاحظها.