إنّ من الحجارة لما يتفجّر منه الأنهار
في فيلم "مدينة الملائكة"
يتخلّى الملاك (نيكولاس كيدج) عن خلوده من أجل امرأة أحبّها (ميج رايان)، أو بالأحرى
"وقع في غرامها" فقد كان الحصول على جسد بشري يقتضي من الملاك أن يقع من
حالق. لكن قبل تحوّل الملاك، يجري حوار بينه وبين الطبيبة، يسألها فيه عن "الدموع":
ما الدموع؟ ولماذا يبكي إنسان؟ تجيبه الطبيبة، بالعلم، شارحة عمل القنوات الدّمعية،
ورسائل المخّ إليها إثر التّعرض لمؤثّر خارجيّ، فتطلق ذلك السّائل الملحيّ المعروف
بالدّموع.
غير مقتنع يقول الملاك: لعلّ المشاعر
تحتدم في الإنسان، حتى ليعجز جسمه عن احتوائها، فتنطفر منه دموعا.
شخصياً، يكفيني هذا التّفسير للدّموع.
يكفيني فهمها، لا تعبيراً "عن" المشاعر، بل تجسيداً لها. يكفيني رفع ذلك
الظّلم التّاريخي، إذ يعترف أخيراً بأنّ الدّموع هي المشاعر وقد تجسدت، هي المشاعر
وقد صارت ملموسةً، ذات قوام ومذاق وسخونة.
***
معروف أنّ أوّل ما نقدمه للحياة من
أنفسنا هو البكاء، والبكاء صوت ودموع. أما الصّوت فنتعلّم ترويضه، بتقطيعه وتقسيمه
وترتيبه في سلاسل من كلمات وجُمل محددة المعنى، ومنا من يستطيع أن يحيل خامة الكلام
الأصليّة تلك إلى أبيات وقصائد. وماذا عن الدّموع؟ هذه نكبتها أغلب الوقت في صورتها
الخفية، مشاعرَ لا يطّلع عليها أحد، إلا حين تغلبنا بين الحين والآخر فتطفر بوضوح منحدرة
على الخدود، أو في شبه وضوح فهي حشرجة تعتري الصّوت، أو غشاوة على العينين، أو خلجة
في الوجه. أو رعشة. أو سكتة.
***
لو أنّني رتّبت الفنون بناء على قدرتها
على إثارة البكاء لديّ، من الأعلى إلى الأدنى، فلن يتصدرها الشِّعر، أو الأدب. ستأتي
الدّراما في المقام الأوّل سواء في صورتها السّينمائيّة أم المسرحيّة أم التلفزيونيّة،
وتليها الموسيقى، ثمّ قد تأتي الرّواية، وأخيراً الشِّعر. مع أنني على يقين أن الشِّعر
كان جديراً بالمرتبة العليا، لولا البلادة التي أصابتنا بها الفنون الأخرى.
في فيلم مثل تايتانيك الذي أبكى جيلي
كلّه قبل ربع قرن تقريباً، يظلّ المشاهد قرابة السّاعتين يجهَّز للبكاء. يشهد قصّة
حبّ منذ مولدها أمام ناظريه، وسط جمال البحر والموسيقى والتّرف، إلى موتها إذ تغضب
الطّبيعة وتكسر أنف الكبرياء البشريّ. وفقط حينما نرى وجه العاشق تسري فيه زرقة الموت
وبرودته، وجسمه إذ يهبط مبتعداً رويداً رويداً عن الحبيبة والحياة معا، يؤذن للدموع
أن تنساب.
استلزم البكاء إذن ميزانية شديدة الضّخامة،
لا يمكن أن تتوافر لشاعر. استلزم البكاء موسيقى أوركستراليّة، وديكورات مبهرة، وفريق
عمل مؤلفاً من المئات. فأنّى لشاعر مثل هذا، وأنّى لقصيدة مثله وليس في جعبتها إلا
المعالجة الأولى للخامة الشّعوريّة الإنسانيّة: الكلمات، الكلمات فقط.
أثقّ أن أجيالاً أسبق من البشر كان
يبكيها الشِّعر. قبل أن تصيبنا الفنون الأخرى بالبلادة، وقسوة القلوب. ولا أعني بالبكاء
هنا انسياب الدّموع على الخدود، بل أعني به التّهذيب والتربّية وتذكير النّاس بجوهر
إنسانيتهم.
ربّما لا يطفر الدّمع من عينيّ وأنا
أقرأ الشِّعر. وإن طفر فليس بمثل ما يحدث لي في السّينما وفي المسرح وفي الأوبرا. ولكنّي
سبق وقلت إنّ البكاء أشكاله كثيرة. تحشرُج الصّوت بكاء (ومن قصائدي ما لا أقوى على
قراءته في ندوة لأنّني حينما جرّبت ذلك لم أجد صوتي)، قشعريرة الجلد بكاء، غشاوة العينين
بكاء، ارتعاشة الوجنة بكاء، سريان البرودة في الظّهر بكاء. وذلك كلّه يفعله بي الشِّعر.
تفعله قصائد وأبيات أحفظها، ومن عجب أنّها تتباين أشدّ التّباين.
***
ما الذي يبكيني في قصيدة "أغنية
إلى فيينا" لصلاح عبد الصبور؟ تراه دأب الشّاعر في رسم تفاصيل ما بين الحبيبين:
كلّ لمسة وكلّ شهقة وكلّ خفقة قلب، رسمه تعبّد العاشق بعينيه وبشفتيه وبلسانه؟ أيبكيني
علمي وأنا أتتبّع دقائق هذه الليلة أنّها حتماً إلى نهاية؟ أم يبكيني سؤال الحبيبة
للحبيب وهما في الشّارع يطويهما تيار الباحثين عن الخبز والمؤونة: "من أنت"؟
ألم يكن كلّ ذلك الحب كافياً لتعرّفه؟
ألا أمل إذن في الحبّ، حتى الحبّ؟ أذلك ما يبكيني، أم أنّها رأت وجهه المخصّص للشّارع
فأنكرته، ولم تعرف أيّ الوجهين هو الكاذب، الذي بذلت له نفسها قبل دقائق، أم الذي تراه
في الشّارع؟ أم ترى يُبكيني علمي أنّ كلا الوجهين صادق، وكلاهما لا دوام له، فصادق
وزائل وجه العاشق النّاسك الصّوفي عديم البدن، وصادق وزائل وجه الغافل السّائر جنب
حبيبته كأنّها امرأة من جملة النّساء؟ وأنّه لا أمل في الارتقاء إلى درجة الإخلاص التي
تجعل وجه الخفاء هو وجه العلن، وإلا لصافحتنا الملائكة في الطّرقات يا حنظلة؟ وليت
المقام متّسع فأحكي لكم حكاية حنظلة.
***
لما دخلنا
في مواكب البشر
المسرعين
الخطو نحو الخبز والمئونة
المسرعين
الخطو نحو الموت
...
وحين شارفنا
ذرى الميدان غمغمتْ بدون صوت
كأنّها تسألني
.. من أنت؟
***
تبكيني "الظل والصّليب"
ـ لصلاح عبد الصبور أيضاً. يبكيني يقين بأنّي يوماً سوف أفتح يدي فلا أجدها قبضت على
شيء:
أنا رجعت
من بحار الفكر دون فكر
قابلني الفكر،
ولكني رجعت دون فكر
أنا رجعت
من بحار الموت دون موت
حين أتاني
الموت، لم يجد لديّ ما يُميته،
وعدت دون
موت
أنا الذي
أحيا بلا أبعاد
أنا الذي
أحيا بلا آماد
أنا الذي
أحيا بلا ظلٍّ .. ولا صليب
***
يبكيني أمل دنقل حين يقولها ببساطة
لكلّ من ينظر إلى أعلى رأسه أو إلى أسفل قدميه:
رسائلي للشّمس
تعود دون
أن تُمسّ
رسائلي للأرض
تردُّ دون
أن تُفضّ
وفي "كلمات سبارتاكوس الأخيرة":
يا قاتلي
إنّي صفحت عنك
في اللحظة
التي استرحتَ بعدها منّي
استرحتُ منك
يبكيني إذ يصفح، ويبكيني إذ يريني
إلى أيِّ ذرى قد يصل نبل الإنسان، الإنسان الذي لم أصر إيّاه برغم كلّ محاولات الشِّعر
معي على مدار سنين:
أوصيك إن
تشأ شنق الجميع
أن ترحم الشّجر
لا تقطع الجذوع
كي تنصبها مشانق
لا تقطع الجذوع
فربما يأتي
الرّبيع
***
يبكيني ابن نوح ـ في قصيدة أمل أيضاً
ـ حينما يقال له:
انجُ من بلد
لم تعد فيه روح
فيكون رده:
قلت طوبى
لمن طعموا خبزه في الزّمان الحسن
وأداروا له
ظهره يوم المحن.
ولنا المجد
نحن الذين وقفنا
وقد طمس الله
أسماءنا
نتحدى الدّمار
يبكيني أنّنا كلّنا أبناء نوح، في
وطن يغرق، لا نقدر أن نمدّ له يداً تنجيه، ولا أن ننجو بأنفسنا، نشاهد في غرقنا غرقه،
ونعرف أنّ غرقه غرقنا، ولا عزاء لنا إلا الذي كان لابن نوح:
كان قلبي
الذي نسجته الجروح
كان قلبي
الذي لعنته الشروح
يرقد الآن
فوق بقايا المدينة
وردة من عطن
هادئاً
بعد أن قال
لا للسّفينة
وأحب الوطن.
***
وتبكيني الأم فسوافا شمبورسكا:
"ما اسمك يا امرأة؟" "لا أعرف"
"كم عمرك؟ من أين أنت؟" "لا أعرف"
"لماذا حفرت هذا المخبأ" "لا أعرف"
"منذ متى وأنت مختفية هنا؟" "لا أعرف"
"لماذا عضضتِ إصبعي؟" "لا أعرف"
"ألا تعرفين أنّنا لن نمسسك بأذى؟" "لا أعرف"
"في أيّ جانب أنت؟" "لا أعرف"
"هذه حرب، وعليك أن تختاري" "لا أعرف"
"هل لا تزال قريتك موجودة؟" "لا أعرف"
"هل هؤلاء أبناؤك؟" "نعم"
كم هي حاسمة هذه النّعم. كأنّها شهقة.
كأنّها صحوة. كأنّها صليل خنجر يُشهر. كأنّها أظافر وأنياب في وجه خطر. كأنّها الأمومة
كلّها في ثلاثة حروف وجيزة. كيف لا تبكيني هذه النّعم؟ كيف لا يبكيني الشِّعر حين يحوّل
إحدى أكثر الكلمات استعمالاً وابتذالاً واستهلاكاً إلى جوهرة، ماسّة لا تقْدم ولا تبلى.
***
وتبكيني الشّاعرة الأمريكيّة الأفريقيّة
مارجريت دانر:
هذه دودة
أفريقيّة،
إلا أنّ الدّودة
أينما تكون من الأرض
هي دودة ليس
أكثر.
لن تسير بخطى
واسعةٍ
ولن تجري
ولن تقف أمام
فراشاتٍ
تجاوزت طورها
الدّودي.
لا بدّ أن
تظلّ واطئةً، لا ترتفع لها رأس.
أنا خضت هذه
التّجربة البشعة
وأعرف.
لا يمكن لدودة
إلا أن تزحف...
تزحف وتنتظر.
***
كثيرة كثيرة كثيرة القصائد، والشذرات،
والهايكوات، والآيات التي إذا ذكرت وجل لذكرها القلب، وتواضع، وخشع، وعرف أنه صغير
لا قوّة له إلا في نبله وإنسانيته.
يبكيني الشِّعر حين لا يلهيه طلب الجمال
والإبهار، عن سبر حقيقة الإنسان والوجود. يبكيني الشِّعر الذي لا يريد من القارئ إعجابه
وانفغار فمه، بل يقصد روحه وعقله. يبكيني الشِّعر حينما يقسو، بدون أن يسيل دماً. حينما
يرقِّيك بالألم، وينضجك بالرّؤية. حينما يعضّك عضّة الجمال فلا تعرف أهي آهة وجع تفلت
منك أم آهة طرب. يبكيني الشّعر حينما يكون تربيتة على الكتف، فيها التّنبيه بقدر ما
فيها من الحنان.
يبكيني وإن لم يُجرِ دموعاً حيث تجري
الدّموع لتغسل العين وتبلّل الوجه. يبكيني، ويجري الدّموع لكن حيث ينبغي أن تجري، في
الخفاء، في أحراش النّفس المظلمة، فتزول بجريانها أوساخ نعرفها ولا نراها، وتلين أنفس
هي - لولا الشّعر - كالحجارة، أو أشدّ قسوة.
قصيدتا شمبورسكا ومارجريت دانر من ترجمتي.
قصيدتا شمبورسكا ومارجريت دانر من ترجمتي.
نشرت هذه المادة في صحيفة العربي، في يناير 2020، تحت عنوان "كيف لا يبكيني الشعر" ضمن زاوية "والشعر إذا أبكى" التي يشرف عليها الشاعر المصري عماد فؤاد
* تحديث
أعيد نشر المقالة في العدد العشرين من صحيفة الحداثة اليومية السودانية في 21 يناير 2020
* تحديث
أعيد نشر المقالة في العدد العشرين من صحيفة الحداثة اليومية السودانية في 21 يناير 2020