Monday, April 01, 2019

محمود خير الله



كان شخصا لا يطاق. شديد التشبث بآرائه. وحاد الرأي في كل شيء. عالي الصوت. هكذا بدا لي محمود خير الله في أولى أيام معرفتي به في النصف الثاني من التسعينيات.
وأيضا، وبرغم ذلك، هو الذي كان يفتح حقيبته الضخمة، فإذا بإصدارات هيئة قصور الثقافة ـ التي كان أيامها يعمل مدير تحرير لإحدى سلاسلها ـ ويقول لي اختر ما تشاء، وأختار ما أشاء من كنوز كانت تنشرها الهيئة في فترة نشر ذهبية لا أحسبها يمكن أن تتكرر.
وأيضا، هو الذي تدخل مرة لينصفني في أجر كتاب راجعته من الباطن لإحدى تلك السلاسل، ولم يخبرني إلى اليوم بتدخله، ولعله نسي الأمر كله، ولا أخبرني بتدخله شخص غيره، لكنه "تخمين عليم".
كان لا يطاق، وكان نبيلا، معا، ودائما.
وبقي الحال على هذا.
وانقطعت الصلة سنوات طويلة، كنت أقابله فيها على فترات شديدة التباعد، فأكاد ألمس أن شيئا تغير. لكن لا وقت للتأكد، فما هي إلا أسابيع قليلة أقضيها كل سنة في مصر قبل أن أرجع إلى مسقط حيث كنت أعمل. لكنني في تلك المرات رأيته مبتسما أحيانا، أو منتشيا ربما، ومرة بصحبة شخص غير أولئك الذين كنت أعرف أنهم أصحابه.
وأخيرا استقررت في مصر، وتواترت اللقاءات بيني وبينه. هدأ محمود. هدأ تماما. ثم سكينة دائمة حيث كان غضب دائم. رغبة صادقة في الضحك بدلا من رغبة لعينة في الاستفزاز. لم تتغير قناعاته، وآراؤه، وميوله، في الشعر على الأقل، مثلما يبدو مما يكتبه، ومن حواره الأخير في أخبار الأدب. ولكنه صار أهدأ في عرضه لتلك القناعات إن عني بعرضها أصلا. صار أحرص على الجلسة اللطيفة المليئة بالضحك والمتعة. وأقدر على الاستماع، وهذا بالذات جديد.
لا يزال محمود عالي الصوت. لكن في ضحكه لا في صراخه. وحين أقول عالي الصوت أعني أنه قد يضحك إلى حد أن يحدث هذا: أنا وهو في "كب دور"، ومرة بعد مرة بعد مرة، يأتي النادل ليطالبنا بخفض أصوات ضحكنا، ونحاول، أعني أن محمود يحاول، ثم يرجع سيرته الأولى، ويستحلفه النادل أن يخفض صوت ضحكه قليلا رحمة بالزبائن، وأخيرا، نحاسب، ويسبقني محمود خارجا من الباب، وأتبعه، غير أني أسمع شيئا ورائي، ولا أصدق أذني، فأرجع خطوة إلى الداخل، ونعم، الزبائن فعلا يصفقون لخروجنا. فأضحك، وأقول له ويضحك. لأمتار كثيرة في شارع عبد الخالق ثروت، نمشي ضاحكين، لا يعنينا شيء.