Tuesday, August 01, 2017

الحقيبة

الحقيبة

كنا نستعد للانتقال من أيوا إلى مدينة ما، لعلها شيكاغو، وكان علينا أن نشحن أمتعتنا بالبر إلى أن نلحقها جوا. وحدَّد لنا المشرفون على برنامج إقامة الكتاب الذي كنا نشارك فيه هناك خمسين كيلو جراما لكل كاتب. ولما طلبنا أن يوفروا لنا ميزانا جاؤونا بميزان لا بد من تعليقه، ولم يتسنَّ لي أنا على الأقل أن أجد ما أعلقه عليه، فكان لزاما عليّ أن أحمل الميزان بالحقيبة بيد واحدة، وأرفعها إلى مستوى عيني تقريبا، فيمكنني أن أسجّل قراءته. وجاء من طلبة الدراسات العليا بجامعة أيوا من تبرعوا بنقل حقائبنا جميعا إلى حيث تشحن، ثم جاءتنا رسالة عبر البريد الإلكتروني تطمئننا إلى أن الأمتعة جميعا شحنت، وأشارت كاتبة الرسالة إلى أنها ترفع قبعتها لشخص واحد من بين تسعة وعشرين كاتبا كانوا مشاركين في البرنامج في تلك السنة ـ 2014 ـ لأن حقيبته كانت تزن خمسين كيلوجراما بالضبط، لا تزيد ولا تنقص. ذلك الشخص هو أنا.
وتكرّر الموقف ونحن نستعد للطيران الداخلي الأخير في الولايات المتحدة، إلى واشنطن. كان كل واحد فينا قد جمع على مدار عشرة أسابيع من الإقامة في الولايات المتحدة ما لا حصر له من التذكارات، فكلٌّ وهوسه. كلنا كنا نشترك في الكتب والأسطوانات بالقطع، ولكن من المؤكد أن لدى الجميع كلَّ ما يمكن تخيله من أنواع الجنون والميول والأهواء. وهكذا وقفنا في صف طويل أمام الميزان في المطار، لا نعرف أينا سيدفع التكلفة الباهظة لأي كيلوجرام زائد عن المسموح به، وهو مرة أخرى خمسون كيلوجرام. كنا قد اتفقنا جميعا على أن يحمل أصحاب الوزن الخفيف بعض أثقال زملائهم. ووصلت إلى الميزان ورفعت حقيبتي إليه، وسئلت مثلما سئل كل من سبقني "كم؟" فقلت "تسعة وأربعون" وهذه المرة كان الثناء فوريا. فهذه المرة كنا قد حزمنا جميعا أمتعتنا، لسبب أو لآخر، بدون ميزان.
تلك كانت ثمرة خبرة تسع سنوات سابقة من حزم الأمتعة، وترتيب الحقائب، ومراعاة الوزن. تسع سنوات لا أتذكر أنني دفعت فيها مرة واحدة غرامة الوزن الزائد، ولا أتذكر أيضا أنني ضحيت باصطحاب شيء رغبت فعلا في اصطحابه.
لا بد أن هذه اللحظة تكرَّرت مرَّات كثيرة، لكن مرة واحدة هي الأوضح بينها جميعا، والأبقى في ذاكرتي: لحظة كنت أختار الكتب التي لن أستطيع اصطحابها معي في السفر. كنت في كل عام أرجع من حيث أعمل في مسقط بسلطنة عمان لأقضي بضعة أسابيع في إجازة بمصر، فلا أرجع يوما إلى البيت إلا محمَّلا ببعض مما فاتني اقتناؤه من الكتب على مدار الشهور السابقة، وقبل سفري بليلة، أختار الرواية (دائما رواية) التي سأحملها معي لقراءتها في مقهى المطار وفي الطائرة إن أمكن، ثم أبدأ في تقسيم الكتب، ما لا بد أن أحمله معي، وما يمكن أن أتركه في القاهرة. إلا في مرة واحدة انقسمت الكتب فيها إلى ثلاثة أقسام، القسمين السابق ذكرهما، وقسم فيه كتاب "هدايا الوحدة" لمحمد خير. كتاب قليل الصفحات، لكاتب أحب كل ما يكتبه منذ أول ما كتب. كنت أعرف أنني لن أصطحب الكتاب إلى مسقط، وأنني لن أتركه في القاهرة. هكذا أغلقت حقيبتي قبل نصف يوم من السفر، ووضعت في صناديق ما لم أصطحب من كتب، وبقي كتاب محمد خير على منضدة الطعام المكسوة بمفرش قديم لن يحمل غير الغبار على مدار سنة تالية.
قبل السفر بساعات، اغتسلت، وأعددت آخر فنجان قهوة، حريصا بالطبع أن أجعله أثقل من المعتاد، واصطحبته إلى البلكونة. ليس فيها كرسي، فكل أثاث البيت الآن مكفَّن في أقمشة وأكياس. وضعت فنجان القهوة على حافة سور البلكونة، وأشعلت سيجارة، وفتحت كتاب خير فقرأته واقفا. هكذا، لم أصطحب هدايا الوحدة، ولم أتركه، وهكذا أيضا أكون، بمعنى من المعاني، حقيبة.
***
لم أعرف قط ما الذي يحمله المثقفون في حقائبهم الصغيرة المعلقة أبد الدهر إلى أكتافهم، يتنقّلون بها في شوارع وسط البلد. ربما أقلاما وأوراقا وسجائر وولاعة. ربما كتابا للمترو أو الأتوبيس، أو للحظات انتظار بعضهم بعضا في المقاهي أو الحانات. ربما وصاياهم. ولكنها بدت ظاهرة في أولى أيام اقترابي من المثقفين. كان في أتيليه القاهرة، مثلما في مقهى التكعيبة، بجوار كل كرسي حقيبة صغيرة، أو هي على حجر صاحبها، أو على كرسي بجواره بديلا عن صديق لم يأت بعد، ومنعا لنادل المقهى أن يصادر الكرسي الإضافي. كنت في تلك الأيام قد أنهيت دراستي الجامعية ولا أزال أنتظر أن يحدِّد الجيش مدى احتياجه لي من عدمه. نوع من اليمبوس: فلا مجال للحصول على أي وظيفة ما لم ترفق بأوراقك موقفك من التجنيد. هكذا كنت أعمل بالقطعة مع مكاتب ترجمة يديرها دائما شايلوك مختفيا وراء شتى أنواع الأقنعة. وفي الليلة السابقة على ذهابي إلى مركز التجنيد لإجراء الكشف الطبي، جاءني أبي بحقيبتي الثقافية الأولى.
أتذكَّر بوضوح وقفتي في صالة البيت أكوي الثياب التي سأرتديها في الصباح المبكر من يومي التالي، متعكِّر المزاج إلى أقصى حد ممكن، وكيف رددت على محاولة أمي لمواساتي بأول عبارة تجديف معلنة. لعلها قالت شيئا من قبيل أن الله يخبئ لي مفاجأة طيبة. فقلت ما قلت. واسودّ وجه أمي حرفيا لوهلة، وبدا عليه التفهّم للحظة، ثم استقرَّ أخيرا على الشفقة بابنها الذي بلغ خوفه على سنة تضيع من عمره في التجنيد أن انزلق إلى فقدان الثقة في الله. في تلك اللحظة تقريبا دخل أبي. لعله رأى وجه أمي، واسوداد وجهي أنا الآخر، فأخرج لي الحقيبة. قال لكي لا تضيع أوراقي. وابتسمت، برغم الكآبة التي كنت أستشعرها منذ أسابيع، وبرغم توجسي أن مثلي إذا دخل الجيش فإنه لن يقوى على سنة من الامتثال الأعمى للأوامر، وأنه على الأرجح لن يخرج منه، وإن خرج فبما يشبه توصية لعينة من المؤسسة العظمى لكل جهة عمل في البلد أن أغلقوا أبوابكم في وجه حامل هذا المستند.
لا بد أنني صعدت إلى غرفتي بقميصي المكوي في يد، وحقيبتي الجديدة في الأخرى، ولا بد أنني علَّقت القميص وراء الباب، وانفردت بالحقيبة أخليها من الأوراق التي ينفخونها بها، وأرتِّب فيها أشيائي. أي أشياء؟ لست في الغد ذاهبا إلى وسط البلد، بل إلى مركز التجنيد، إلى الهايكستب. ولن ينفعني غدا دفتر وقلم، بل سندوتشات ومناديل وزجاجة ماء، وإن بقي في الحقيبة الصغيرة مكان، فلرواية. لكنني في تلك الفترة كنت أقرأ دوستويفسكي للمرة الأولى، وما كان يمكن أن أضع في تلك الحقيبة الصغيرة أيا من مجلداته. بمرارة حقيقية، ملأت حقيبة المثقف بأغراض الجندي المحتمل، ونظرت إليها قبل أن أنام نظرة من يودع هذا الغرض الملكي على أمل لقاء لن يحدث قبل عام، في أحسن الأحوال.
في اليوم التالي، تبيَّن أن الجيش يبادلني مثل مشاعري. كان علي أن أتعرَّى إلا من سروالي الداخلي، وأمرَّ بإجراءات الكشف الطبي جميعا، ثم أنتظر في العراء إلى أن ينادي علينا من يعلن عن الدفعات التي يحتاج إليها الجيش. وجاءت البشارة. مواليد 1977 معفون من التجنيد باستثناء خريجي كليات لم تكن بينها كلية الآداب.
كأنه ميلاد جديد. تدافع المطلق سراحهم إلى أتوبيسات مضت تنطلق بهم وهم بارزون من كل فتحة فيها كأنها توشك أن تلفظهم، وفتحت أنا بمتعة حقيبتي، وأخرجت علبة السجائر السوبر، أشعلت سيجارة، وقرَّرت أنني سأقطع كيلومترات الطريق الداخلي سائرا على قدميَّ حتى الطريق العام. ولم أكن وحدي على أية حال. كثيرون غيري أرادوا أن يتنزَّهوا على الأرض العسكرية تلك، مفرغين توتر الشهور السابقة في نكات تتبعها ضحكات لا تخصها في الغالب، أو في دخان ينفثونه كأنه دخان سجائرهم لا نفثات أخيرة من حرائقهم الذاوية.
على الطريق العام، ركبت سيارة إلى "الألف مسكن". كنت قد اتفقت مع صديقي الشاعر هاني فضل أني سأزوره في بيته هناك للمرة الأولى، إن حصلت على الإعفاء، فإن لم أطرق بابه، فمعنى هذا أننا قد لا نلتقي إلا بعد شهور. نظر إلى الحقيبة على كتفي وقال "مبروك". تصورت أنه يهنئني بالإعفاء. أوضح "على الشنطة" ضحكت وقلت له إن أبي فاجأني بها أمس. قال بهدوئه الأسطوري "أبوك دا حد كويس".
لا شك أن الحقيبة كانت مؤشرا، لكن كان لا بد أن تنقضي عشر سنوات حتى أوافق هاني.
***
عندي حقائب كثيرة. السوداء والبنية والزرقاء الداكنة والحمراء النبيذية والزيتية. عندي الحقائب المصنوعة من جلد طبيعي (وهذه دائما هدايا من زوجتي)، ومن قماش، ومن خامات يصعب القطع بماهيتها. عندي الحقيبة التي تتسع للابتوب حجمه 15 بوصة، والحقيبة التي تتسع للابتوب صغير قد تتصوره هاتفا للوهلة الأولى، وحقيبة تتسع لبجامة وفوطة ولابتوب أيضا. وحقيبة لا تكاد تتسع لأكثر من الباسبور والسجائر والنظارة الشمسية. عندي حقائب في شقتي في القاهرة، وفي بيت أمي بطحانوب، وفي حقيبة سيارتي أيضا. عندي حقائب منسية فوق الدولاب، وتحت السرير، ووسط الكتب. عندي حقائب رخيصة للغاية وأخرى غالية. عندي حقائب لأنني لا أحب أن أتحرك وحدي. عندي حقائب لأنني بغيرها لا أشعر بالأمان.
والدنيا تغيَّرت. تسع سنوات خارج مصر (انتهت في 2014) غيَّرت الكثير هنا. دعكم من الثورة. أقصد أمورا أبسط بكثير. زي المثقفين الموحد تغير، لم يعد موحدا. بات نادرا الآن (وإن لم يكن منعدما) أن أرى بين أترابي من يحمل حقيبة. الأغلبية يسيرون خفافا، أنيقين، معطَّرين، في أيديهم هوافتهم الذكية تغنيهم عن الكتاب، وفي جيوب ستراتهم مكان كاف لسجائرهم، وربما في بطاقاتهم البنكية ما يغنيهم حتى عن محفظة في جيوبهم الخلفية. صحيح أنك لن تعدم من لا يزال على  العهد. لكنني أتكلم عن أترابي أنا، عن أصدقائي، عن حملة الحقائب السابقين، لماذا صاروا سابقين؟
قبل أسابيع كان الشاعر عماد فؤاد في القاهرة، قادما في إجازة قصيرة من بلجيكا، والتقينا في مقهى، وبينما كنا نتأهَّب للخروج منه، وقفنا نرتدي ستراتنا، ونعلق حقيبتينا. رأيت عماد يضع شريط الحقيبة في ناحية من عنقه، ويتركها تتدلَّى بجانب خصره في الجانب الآخر. تماما كما كان الجميع يفعلون قبل سنين. لم أقل لعماد إن سنوات إقامته خارج مصر هي السبب في أنه إلى الآن لم يزل على العهد. لكنني عرفت ذلك.
تسع سنوات جعلتني الآن وأنا أسير مع أصدقائي بحقيبة معلقة على كتفي لا أبدو كمثقف، بل ككشاف نور، كمحاسب، كفني صيانة كمبيوتر. بل صرت أسمع تعليقات من هذا النوع فتثير دهشتي وتذكرني بقصيدة لشاعرة أمريكية لم يعلق اسمها في ذهني، ولا علق من قصيدتها إلا قولها:
أمي تقول لكل من لا تضع المكياج
ما هذا يا فتاة؟
ما الذي لا تحاولين إخفاءه؟
وأسأل أيضا ذلك الذي لا يحمل حقيبة: ما هذا يا أزعر؟ ما الذي تتصور أنك في غنى عنه؟
***
هي ببساطة كالساق الصناعية. بديل ساق أخرى غائبة. الحقيبة الموضوعة على كرسي في المقهى قد تكون بديل صديق. لكنها، حتى لو لم أكن بانتظار أحد، بديل شيء آخر. بديل حقيبة معطوبة قليلا، حقيبة هي أنا. لم يكن الأمر كذلك طول الوقت. لكنه هكذا أصبح.
في الحقيبة حبوب القولون العصبي، وفيها عدة التدخين (خاصة في الفترات التي أستسلم فيها لغواية لف السجائر). فيها القلم الأحمر والكتاب. فيها شاحن الهاتف، والهاتف الصغير الذي لا يعرف رقمه غير أقل القليلين، وفيها الدفتر الصغير بديل الذاكرة المعطوبة. الذاكرة التي كانت قديما تتسع لكتاب كهدايا الوحدة، صارت الآن لا تتسع لشيء. وماذا في أن أشبه كشاف نور أو مأمور ضرائب؟ المهم أن أجد ما يسعفني حين أنسى في وسط الطريق اسم الشارع الذي أقصده، أو رقم العمارة التي انتقلت إليها دار النشر التي ستقام فيها ندوة لمناقشة كتاب يثقل حقيبتي. صحيح أن الهاتف الذكي قد يغني عن كثير من هذا، لكن لجيمس تيت (وهذا لا أستطيع أن أنساه) قصيدة عن سجين ذي ساق واحدة، ظل سنين يعد خطة للهرب من السجن، وحينما فاجأته إدارة السجن بساق صناعية رفضها. لقد أعد خطة الهرب، وهي لا تحتاج إلا إلى ساق واحدة.
***
عندي قصيدة قديمة، نشرت في كتاب قبل سبع سنوات، ولا بد أن تكون كتبت قبل ذلك بسنتين أو ثلاث على الأقل، فيها اقتراح على صديقي "محمد عبدالنبي" يخص مجموعة قصصية كان يكتبها آنذاك ولعله أقرأني مسودتها مثلما كنا نفعل في غابر الدهر:
"اقترحت على محمد عبدالنبي أن يجعل بطله ينسى شيئا نفيسا في القطار، وفي الصباح [التالي] يجده في موضعه، فيهجس أن الزحام المحيط به غير حقيقي"، ولم يقتنع عبدالنبي "ومع هذا ظللت أفكر في كنه ذلك الشيء النفيس الذي يمكن أن ينساه واحد في القطار" أهو نظارته التي لم يخلعها طول حياته؟ "أم الحقيبة التي بداخلها كل ذكرياته، حتى ما نسيه منها؟" وبدأت أفكر إن كنت أنا نسيت في قطار من قبل شيئا نفيسا، فلم أجد إلا أنني ذات مرة نسيت أن أنزل، "نسيت نفسي، نسيت جسدي، نسيت الحقيبة التي بداخلها ذكرياتي جميعا، حتى ما نسيته منها".
أهذا صحيح؟ أفي هذه الحقيبة اللصيقة بي، الحقيبة التي بغيرها لا يعرفني أحد، وربما لا أعرف أنا نفسي، أفيها فعلا الذكريات التي نسيتها؟
وأليس غريبا، أن تظل الذكريات "المنسية" محتفظة باسمها، اسمها الدال عليها وظيفيا لا اصطلاحيا وحسب؟ لماذا لم يجد أهل اللغتين اللتين أعرفهما داعيا لسك كلمة أخرى للذكريات بعد أن تتوقف عن كونها ذكريات؟ يصبح الجسد بالموت "جثة" و"جثمانا" وبتحلله يصبح "رمة" و"رفاتا". يولد الواحد منا فهو "وليد" فـ"رضيع" فـ"ولد" و"صبي" "وشاب" إن صح هذا الترتيب. ربما تنبئنا اللغة بمجرد أن تجري على لساننا كلمة "الرجل" أنه لا رجوع لـ"الشاب"، وبمجرد أن توجد "الجثة" أن "الجسد" ينعدم.
ربما  أبقت اللغة للذكرى المنسية اسم الذكرى الحاضرة على سبيل التمني. أما الحقيبة/الجسد فاللغة واضحة إزاءها أشد الوضوح، هذه تفرَّغ حتى من اسمها.
***
وعندي حقيبة أحبها في ماضيها وأمقتها في حاضرها. حقيبة شفافة. اسمها الذي بيعت به أول ما بيعت في مصر هو الكلير باج. كان ذلك مكتوبا عليها، clear bag. ملف يتسع لعشرات الأوراق، ويغلق فيحكم إغلاقه. ظهر على الأرجح للمرة الأولى في أوائل التسعينيات، حينما كنت في الثانوي. رأيته أول ما رأيته عند أحد أساتذتي أصدقائي. أو أصدقائي أساتذتي. كان قد كلَّمني عن ملفات لا ينتهي من إعدادها، تبقى دائما عرضة للإضافة والحذف، مصادرها كثيرة، لكن أهمها رحلات له منذ كان طالبا في الكلية، رحلات إلى كل ربوع مصر، إلى الواحات والجبال والسواحل طبعا، لكن أيضا إلى القناطر والقرى والنجوع. إلى تلال رملية ناشزة وسط أراض زراعية. إلى ينابيع مياه عذبة وسط مياه مالحة. إلى الأديرة. إلى معابد مغمورة. إلى مناطق حدودية. كلمني عن حلايب وشلاتين قبل أن يتكلم عنها أحد. وعن جبل علبة. في بيته رأيت حقائبه الشفافة، مليئة بملاحظاته، وقصاصات الجرائد. شخص على علاقة بمصر كانت تجعله يقبض يده ويشرح لي على عظام يده، وأخاديد ما بين أصابعه، تضاريس صحراء مصر الشرقية. ويبسطها فيريني في انبساط راحتها تضاريس صحراء مصر الغربية. شخص استطاع ونحن واقفان في الفسحة، في ربع ساعة، أن يشرح لي مناخ وادي النيل من منابعه إلى مصبه. شخص يتكلم، فترى أمام عينيك خريطة هذا البلد الذي يتفنَّن في خلق مجاذيبه.
أما حقيبتي الشفافة الحالية ففيها تقاريري الطبية. هي ملفي عن نفسي. عن التدهور المحتوم. حقيبتي هذه لا أريد أن أتذكرها.
***
الثالث الثانوي كان ثورة على الحقيبة. فصل تالتة أول أدبي. الفصل المشاغب، الصاخب، كابوس المعلمين إلا أحدهم. الفصل المارق غير القابل للسيطرة، والمدجن تماما بين يدي مدرس الفلسفة.
يوما ما، جاء أحد طلبة تالتة أدبي ـ الممعنين في الشغب ـ مجيء ثائر.
في السنتين الأوليين من الثانوي كان قد ظهر نوع من الحقائب عجيب بعض الشيء. هو في الحقيقة صندوق من الورق المقوى. مستطيل. يتسع لكتب وكراسات. ظهر وعليه شتى أنواع الرسوم. منها الرومنتيكي الكيتشي المثير للغثيان، والذكوري الفج، والجميل، الجميل فعلا، بسيط الخطوط، قليل الألوان، القريب من التجريد. كان حمل هذه الحقيبة حلا لمأزقنا، ورطتنا الوجودية، بعدما طالت قاماتنا، ونبتت شواربنا، وبقيت على ظهورنا حقائب التلاميذ الجلدية. ومثل غيري، لجأت إلى الحقيبة العلبة.
إلى أن جاء يوم ودخل علينا "شريف" الفصل دخول الثوار. فقط بحمله كتبه في حقيبة بلاستيكية. كيس كالذي تشترى فيه الثياب، أو الكتب. لا أدري ما الثوري في ذلك، لكنه بدا يومها كذلك. شريف يحمل كتبه في كيس بلاستيكي، كأنه يحمل غيارات. كأنه يحمل سندوتشات. بدا أن في استعمال كيس كهذا للكتب المدرسية إهانة أردت أنا أيضا توجيهها للعالم. ولم أكن وحدي. في اليوم التالي كان كثيرون يحملون كتبهم في أكياس كتلك. والغريب، أن الأكياس أثارت استهجان المعلمين، لكنهم لم يضعوا أيديهم على مخالفة واضحة، فلم يملكوا أكثر من إبداء استهجانهم.
كان في الأمر أيضا جزء عملي. في بداية كل حصة، تتحرك أيدي ثلاثين شخصا في وقت واحد، في ثلاثين كيسا، لإخراج الكتب. تخيلوا ضجة تلك الأكياس، وتخيلوا إمعاننا في الخشخشة بالأكياس. وعجز أي مدرس عن الاعتراض.
وجاءت حصة الفلسفة. وبدأ عرض الأكياس الصوتي. وانتهى. إلا من كيس واحد ظل يخشخش. ويخشخش. ويخشخش. والمدرس واقف في صبر. وبدأنا نبتسم، ونستشعر أن معركة في الأفق. واقترب المدرس حتى وقف بجوار شريف. وشريف مستمر في الخشخشخة، متصنع أنه لم يلاحظ اقتراب المدرس. ثم بيج بانج.
أهي يد مدرس الفلسفة على قفا شريف، أم جبهة شريف على التختة، أم اندفاعة الكرسي إلى الخلف بمن عليه، أم اندفاع شريف حتى ارتطامه بالسبورة، أم ارتطام كيس كتبه المقذوف في وجهه. كل شيء حدث بسرعة، فإذا هو صوت هائل كثيف حاد، تلاه الإعلان عن نظرية فلسفية شديدة الإيجاز: الراجل فيكو ييجي بكرة بكيس بلاستيك.
تبيَّن أننا، على سخافتنا الشديدة، وتفاهتنا البالغة، نكن بدون أن ندري احتراما عميقا للفلسفة.
***
في إعدادي، فقد أبي أحذية كثيرة، وحقيبة عزيزة.
كانت قدمي تنمو بمعدل جزمة في الشهر. ولحظة أصبح قياس قدمي 42، انفتحت لي جنة أحذية أبي القائمة أسفل الدولاب في غرفة النوم الرئيسية. كنت أنتقي كل يوم حذاء، وفي بحر يوم واحد أو يومين أرجع به مقطوعا عند موضع الإصبع الأكبر. كانت قدمي تنمو بسرعة شديدة، وتجاوزت قياس أبي بسرعة، لكن ليس قبل أن أفقده بعض أحذيته التاريخية.
أما حقيبته فلها شأن آخر.
في حياة أبي رحلتان، إحداهما إلى مكة لا تعنينا، والأخرى في طفولتي المبكرة إلى فرنسا. بعثة تعليمية ترفيهية لمعلمي اللغة الفرنسية. رجع أبي بأغراض من تلك الرحلة ظللت وإخوتي نتلف فيها لسنوات بعد ذلك. إلى أن جاء يوم استنقذ فيه أبي من بين مخالبنا فضلات ما بقي له من ذكريات رحلته، وأغلق على ذلك كله دولابا معدنيا.
لم يمض وقت يذكر حتى تعلمت كيف أفتح الدولاب بالسكين. وفي هدوء شديد، أفتح، أحصل على قلم حبر باركر، وأغلق الدولاب بالسكين، في سرية تامة. لم يكن أبي يستعمل أقلامه تلك. بل إن بعضها كان لم يزل في علبه الأولى. هناك أيضا دفاتر شديدة الأناقة لم يكتب فيها أكثر من صفحات في يمينها أو يسارها. هذه بوضوح دفاتر وأقلام لشاعر. وهو ليس شاعرا. كان في تلك الأسرة شاعر واحد، وبالمصادفة، كان يستطيع أن يفتح الدولاب بالسكين.
طبعا اكتشف أبي بعد فترة أنه يغلق دولابه على خواء، فلم يعد يهتم بإغلاقه. وقبل أن ينهب الدولاب، طلبت بوضوح ما لم يكن من الممكن أن أسرقه بدون أن يلاحظ غيابه: حقيبة جلدية سوداء بديعة. قال: فيها أوراق مهمة. كنت بالطبع قد قرأت تلك الأوراق المهمة بالواحدة من قبل. وعرفت عن تاريخ أسرتنا، وبعض المشكلات الاجتماعية المعاصرة ما لم يكن ينبغي أن أعرفه. أحضرت له على الفور علبة حذاء جديد، ووقفنا معا ننقل الأوراق ورقة بعد ورقة، ليكتشف ضاحكا أنني على اطلاع تام بكل ما فيها. قال في تسليم "هي عموما مش أسرار".
لا أظن أحدا آخر في القليوبية كان يذهب إلى المدرسة الإعدادية بحقيبة فرنسية.
***
أوضح حقيبة في ابتدائي كانت حقيبة توم هانكس.
في الثانوي سيلاحظ أحد زملائنا الشبه المذهل بين ح. أ. وتوم هانكس، في دوره كـ فوريست جامب. بل إنه سيلاحظ تفوق ح. أ. على جامب، لدرجة أن يؤلهه. اختار له اسم إله ذا جرس إغريقي: يويوس. يويوس إله الغباء.
كان لدى يويوس في ابتدائي أجمل الحقائب على الإطلاق. حقيبة ظلت صامدة على ظهره أربع سنوات متتالية. كانت تتميز عن كل حقائب الدنيا، بدون استثناء حقيبتي، بميزة واحدة.
الحقائب في تلك الفترة كانت مستطيلة. وكانت لها أشرطة لتعليقها على الظهر. الشريطان في حقيبتي وكل حقائب الدنيا كانا ينزلان من نقطة واحد في منتصف أعلى الحقيبة، ويسير كل منهما نحو أحد طرفيها السفليين. أما الشريطان في حقيبة يويوس فكانا مستقلين، كل منهما ينزل من نقطة عند أحد أطراف الحقيبة إلى الطرف السفلي تحته مباشرة. والآن ما الفارق؟
الفارق أن جميع حقائب الدنيا كانت تبدو مائلة على ظهورنا، إلى هذه الجهة أو تلك. بينما حقيبة يويوس كانت تبدو منضبطة تماما، معتدلة أتم الاعتدال، وهي معلقة على ظهره: لوحة بديعة على حائط.
لم أذهب مرة لأشتري حقيبة مدرسية إلا وبحثت في شريطيها. ولم أجد مرة حقيبة بهذه الميزة. وسألت يويوس من أين اشتراها؟ فقال لا أعرف.
لم يكن يعرف مصدر أي شيء معه، وكل شيء معه كان مختلفا. الآلة الحاسبة في إعدادي مختلفة، المشط الشبيه بالمطواة (وهذا في حد ذاته مبهر) كان معه منذ ابتدائي في حين لم يصلنا نحن إلا في الثانوي مثلا، وكان يستعمله أسوأ استعمال، إذ يصفِّف به شعره المزيت دائما، وعلى الجنب لمزيد من العار. كراسات الريان وصلته قبلنا جميعا، بورقها الناعم الأبيض الجميل. أقلامه الرصاص. ممحاواته. حتى نوعية طعامه. لماذا؟ لماذا لا يدار العالم بعدل؟
وكان يويوس زميل مقعدي طوال سنوات الابتدائي. وكنت أمرَّ وإياه ببيته قبل أن أصل إلى بيتي. ومرة كانت أمام بيته عربة نصف نقل عليها شعار مصر للطيران. رآها فنظر في ساعة رقمية بلاستيكية رخيصة ستصل إلينا بعد سنتين على الأقل، لكنها وصلت إليه هو ضمن بشائر ومقدمات الغزو الصيني. رأى العربة فقال: بابا جه.
وفهمت من أين كل تلك الأعاجيب. ورضيت بحقيبتي رضا من أدرك عن الكون إحدى حقائقه الأساسية.
***
هناك حقيبة أولى، ولا رجوع إليها.
***

هناك حقيبة أخيرة، ولا مهرب منها.

نشر هذا النص في موقع ضفة ثالثة ـ أواخر يوليو مطلع أغسطس 2017