Tuesday, November 22, 2016

أهلا بكم في صحراء الواقع

أهلا بكم في صحراء الواقع



عندي معيار شخصي للغاية لتقييم الأدب، لعله أثرٌ في نفسي من أيام قراءة "ملف المستقبل" قبل سنين بعيدة. ففي بعض قصص السلسلة التي كان يكتبها د. نبيل فاروق، نشبت حرب شرسة بين أجهزة مخابرات العالم على حقيبة صغيرة جمعت فيها المخابرات المصرية منسوخات مرقمنة من أهم الأعمال الفنية على مدار  تاريخ الإنسانية. كان العالم قد انتهى مثلما انتهى أكثر من مرة على يد نبيل فاروق، فصارت تلك الحقيبة هي الدليل الوحيد على الحضارة الغابرة، والدليل الهادي الى الحضارة المنتظرة، والكنز الوحيد الباقي جديرا بأن يتصارع عليه العالم.
معياري: في سفينة ترحل الى كوكب آخر قبيل زوال كوكب الأرض، هل تصطحب هذا الكتاب معك؟ سؤال أوجهه إلى نفسي. هل أوثر هذا الكتاب على مثل وزنه من بذور النباتات مثلا، أو الصور العائلية حتى؟ وقلّما أجيب بنعم. كتب قليلة للغاية هي التي ينطبق عليها هذا المعيار شديد القسوة شديد الشخصية في آن واحد. ربما لا أعود الى قراءة هذه الكتب القليلة، لكنني أعرف أنني سأحب أن يقرأها ابني وابنتي، راجيا أن تقول لهما مثل ما قالته لي، موقنا أنها ستقول أكثر مما قالته لي، وما قد لا يكون أمامي سبيل لأعرفه.
رفٌّ إذن في مكتبتي، هو متاعي إلى كوكب آخر، أو بالأحرى إلى دنيا غير دنياي على هذا الكوكب، يعيشها بشر آخرون بينهم من أحرص على قلوبهم وعقولهم، وأرجو لها أن تكون أرحب وأعمق من قلبي ومن عقلي. رفٌّ أضع عليه الكتب التي ملأت هوامشها بالتعليقات، وخطَّطت أو ظلَّلت كثيرا من عباراتها، محدّثا نفسي بأن ذلك قد يكون إرثي الوحيد.
من هذه الكتب "فساد الأمكنة".
***
سنوات مضت منذ قرأت رواية الكاتب صبري موسى هذه للمرة الأولى، ولم أزل أعيش بصحبة بطلها نيكولا، في منفاه الطوعي بصحراء مصر الشرقية، أرافقه مثلما أرافق الملازم "جيوفاني دروجو" وهو يقضي السنين تلو السنين منصتا كلَّ ليلة إلى تقاطر الماء على صخر جدران القلعة الحدودية التافهة منتظرا التتار فلا يظهرون في رواية "دينو بوتزاتي" البديعة "صحراء التتار" ـ وذلك كتاب آخر أرشحه للكوكب التالي.
ربما يكون فن الرواية كله قد بدأ بشخص رمت به الطبيعة إلى جزيرة فاكتشف فيها حقيقة أساسية من حقائق الوجود الإنساني غابت عنه في عاصمة العالم آنذاك، مدينة لندن. حقيقة أن كلا منا يولد فردا، ويعيش فردا، ويموت فردا، وأن المجتمع بكل صوره الممكنة ليس إلا محاولة للإلهاء عن هذه الحقيقة المفزعة، أو لمقاومة ضغط هذه الوحدة وهذه الوحشة وهذه اللعنة، وأنها محاولة لا يكتب لها من النجاح إلا بقدر ما يكتب لكل فرد منا من العمى أو القدرة على التعامي.
غير أن نيكولا عند صبري موسى، ودروجو عند دينو بوتزاتي، لا يذهبان إلى عزلتيهما بدفع من الطبيعة القاهرة، فما من عاصفة ملموسة تقذف بأيٍّ منهما إلى مصيره، بل هي ذاته نفسها، أو هي جرثومة فيها قد تدعى الأمل في حالة دروجو، أو الندم في حالة نيكولا.
وفي جزيرة تلقى إليها رغم أنفك قد يكون منطقيا أن تنتظر سفينة تظهر في الأفق، أو قد ينفعك رفيق يخرج لك من الغابة، أما حينما تكون العاصفة بداخلك، والجزيرة أنت، فلا يبدو أن لك مفرا. يقول نيكولا لنفسه "ما فائدة الرحيل يا نيكولا ما دمت تحمل داخلك معك أينما حللت؟" ومثل ذلك قاله قسطنطين كفافيس أيضا في قصيدة "المدينة" حيث يقول ـ وأستدعي من الذاكرة ـ "إذا كانت حياتك قد خربت هنا، في هذا الركن الصغير من العالم، فهي خراب أينما حللت".
لعلنا نخلص من هذا إلى أن حفنة من الكتب العظيمة نحملها معنا قد لا تحول دون خراب كوكب جديد، وإلا فلماذا لم تحل دون خراب كوكبنا هذا؟ لعلنا نخلص إلى أننا حينما ننجو بأنفسنا من هذه الكوكب، ونلوذ بكوكب جديد، نحمل بأنفسنا ما فيه خراب الكوكب الجديد: نحمل إليه أنفسنا. لعل الأمر كذلك حقا، ولكن ماذا بأيدينا غير أن نثق في بعض منا، في بعض العقول البصيرة والقلوب الشفافة، في بضعة كتب قد تمنحنا فرصة أخرى، إن نحن منحناها فرصة أخرى؟ ماذا بأيدينا غير هذه القشة نتشبث بها؟
***
في أسوأ قراءة ممكنة ـ في تقديري ـ لـ"فساد الأمكنة"، قد يرى القارئ الرواية أهجية للملكية، أعني نظام الحكم الملكي في مصر ما قبل ثورة 23 يوليو 1952. قد يودّ قارئ أن يضيّق الأفق إلى بلد معيَّن في زمن معيَّن يحكمه شخص معيَّن، ثم ينتهي من قراءة الرواية ليحدّث نفسه بأن كل ذلك زال بزوال ذلك الحاكم الذي حلّ بالصحراء فقضى فيها طرفا من ليلة وطرفا من نهار، فترك على صفحتها البيضاء بقعة دم سوداء ملوثة إلى الأبد. نعم، قد يحلو لقارئ أن يتعامى إلى حد أن يبحث لتراجيديا كبرى من تراجيديات الأدب عن سبب تافه كنظام حكم، بل شديد التفاهة كشخص، مجرد شخص، أفسدته السلطة المطلقة فأفسد غير عابئ ناسا وأمكنة.
ولكن الرواية توشك في كل فقرة منها أن تلمح لقارئها بما صرحت به الآلة أو "العميل سميث" في سلسلة أفلام ماتريكس. قالت الآلة من وراء  قناعها الإنساني لـ نيو إن "البشر مرض، البشر سرطان هذا الكوكب". ترصد الآلة نشاط الإنسان الطبيعي وسعيه ـ سعي الحيوانات إلى المراعي ـ بحثا عن الموارد في قطعة من الأرض حتى إذا أنهكها وأتى على ما فيها من خيرات، تركها جرداء ميتة إلى غيرها، وسأل نيو: أتعرف أي كائن يسلك مثل هذا السلوك؟ وأجاب: الجراثيم. وقال إن البشر هم جرثومة هذا الكوكب. لم يقل إن البشر هم فساد الأمكنة.
في حين كان الملائكة أكثر وضووحا ومباشرة إذ قالوا لله شخصيا "أتجعل فيها من يفسد فيها؟".
لعل عنوان الترجمة الإنجليزية لهذه الرواية ـ وهو "بذور الفساد" Seeds of Corruption ـ أقرب إلى الدقة من عنوانها العربي، وإن يكن نصيبه من الجمال أقل بما لا يقارن. لعل العنوان الأدق بالعربية هو "إفساد الأمكنة".
                                                                           ***
بعد سنين طويلة من قراءة "فساد الأمكنة" للمرة الأولى، قرأت كتابا آخر، وجوهرة أخرى من جواهر صبري موسى، صدر ضمن أعماله الكاملة (عن الهيئة العامة للكتاب) في مجلد أدب الرحلات. كتاب قصير عنوانه "في الصحراء".
في زمن كانت مؤسسة الأهرام (في ظل رئاسة محمد حسنين هيكل) لا تجد من ترسله لتغطية احتفالات إنجلترا على مدار عام كامل بذكرى شكسبير إلا قامة بحجم لويس عوض، فيقضي الرجل شهورا هناك، يرسل خلالها متابعاته الصحفية إلى الجريدة، ثم يترك للمكتبة العربية كتابا بديعا اسمه "البحث عن شكسبير"، وفي زمن كانت مؤسسة صحفية أخرى ترسل فيه كاتبا مثل عبدالله الطوخي ورساما ـ نسيت اسمه للأسف ـ ليسجلا بالقلم والريشة وصفا جديدا ساحرا لنهر النيل يصدر لاحقا في كتاب ليته يجد من يتحمس لإعادة طبعه هو "رباعية النهر". في ذلك الزمن، البعيد (ربما سنة 1963) أرسلت مجلة صباح الخير كاتبا شابا هو صبري موسى ورساما إلى صحراء مصر الشرقية، هذا ليرسم، وذلك ليكتب، مقدمة خدمة صحفية جديرة بعد ذلك بأن تصبح كتابا يكتنزه قارئ ضمن أعز ما لديه من كتب.
"في الصحراء" هو "فساد الأمكنة" وأكثر. أو هو "فساد الأمكنة" إلا قليلا. فيه نيكولا، لكنه هارب إلى مناجم مصر من الثورة البلشفية، وفيه الرجال الذين تأكلهم ثعابين البئر، لكنهم لم ينزلوا البئر تنفيذا لأمر الشيخ الشريك في المنجم، بل لأن محافظ البحر الأحمر طلب من أهل الصحراء أن يجدوا ماءهم بأنفسهم لأن الدولة مشغولة عن خدمة الشعب بالتفنن في قهره والاستمتاع المريض بسلطتها عليه. فيها الوصف الواقعي لعناء عمال المناجم مثلما في "فساد الأمكنة". وفيها من التأملات ما نقل حرفيا من الصحافة إلى الرواية. فهذا الكتاب الصغير (المؤلف من نحو 130 صفحة) هو نخاع هذه الرواية الفذة. لكن فيه ما هو أكثر. أو لعله أقل.
فيه أنه واقع.
منذ اللحظة الأولى يبدو موسى واضحا إزاء غاية رحلته، مدركا لها تمام الإدراك: "أن أعذبكم .. أن أغسلكم بالشمس .. أن أضع كلا منكم أمام نفسه .. ليتفرج عليها .. ويكتشفها".
ثمة هيام بالصحراء والطبيعة البكر والبساطة الشديدة والصراحة المطلقة، ونفور ورفض للمدينة والحضارة يمكن لمن يشاء منكم أن يصرف كل ذلك عن نفسه معتبرا إياه ضربا من رومنتيكية لم يعد لها مكان في زماننا أو وعينا.
***
"نحن الذين نعيش في المدن أغلب حياتنا تصبح عيوننا قاصرة وضعيفة، لأننا ما نكاد نطلقها حتى تصطدم بأشيائنا .. بمصنوعاتنا .. تصطدم بتمديننا [...] ولا تجد فرجة صغيرة تحلق منها إلى آفاق أمنا الطبيعة، فنتأمل القمر والأرض والسماء .. وقد أحسست بعيني تفلتان مني في هذا الخلاء الفسيح".
تلك كانت لحظة لقاء الكاتب الأولى بالصحراء، وواضح تماما أنه نظر حوله فرأى ما ليس حوله، رأى المدينة، رأى الموضع الذي جاء منه ("وما فائدة الرحيل يا نيكولا؟") ولكن الوقت سيتاح له لاحقا ليتخلص من ذهنه، ويتيح لعينيه بغير قيود هذا الذهن وإملاءاته أن تريا ما حولها فعلا فيتعلم منه ما يسعه أن يتعلمه.
لا أريد لهذه السطور أن تكون انتصارا للواقع على الأدب، أو للدقة، لا أريدها أن تكون انتصارا له على الخيال. لأنني لا أرى حربا بين الاثنين، ولا أرى هذه القسمة حاسمة كما تبدو. فلست أعرف كيف يمكن اعتبار أي منتج إنساني ـ والخيال منتج إنساني في نهاية المطاف ـ مغايرا للواقع. الخيال حفيد الواقع، بما هو ابن للإنسان. الخيال يوسِّع الواقع، ويعلمه، ويكشف عوراته. ولكنه في نهاية المطاف خيال. و"فساد الأمكنة" في نهاية المطاف رواية، هي شهادة كاتبها وتأملاته، فلنا أن نقبلها منه أو نرفضها، لنا أن نتخذها تسلية أو عبرة أو نفعل فيها ما نشاء. في حين أن الصحافة ترصد واقعا لن يكون استخفافنا به أو حتى انصرافنا عنه ذوقا أو ميلا، بل هو جحود وقسوة وعوار في إنسانيتنا نفسها.
***
في لحظة اللقاء الأول بين الكاتب والصحراء، "ذهبت ألاعب صديقي الجديد وأكتشفه.. صديقي السراب [...] أقسم أنني رأيت أشجارا.. أشجارا كثيفة وارفة، تبدو وكأنها تموج وتتحرك". في هذه اللحظة يلمس رفيقه الخبير بالصحراء كتفه ويسأله "أتتفرج على السراب؟". هكذا، لا يكاد الكاتب يقضي لحظات في الصحراء حتى يشف، وينكشف أمام صاحبه انكشاف الصحراء أمام كليهما. هكذا يصبح حتى خيال الإنسان ووهمه شركة بينه وبين أخيه الإنسان.
ليس غريبا إذن أن يعرف السائق الخبير بالصحراء أن عليه أن يتتبع آثار السيارة السابقة، أو للدقة آثار السائق الذي سبقه إلى السير على الطريق، فإن راوغته الآثار للحظة أوقف السيارة، ونزل بنفسه مفزوعا يحملق في الأرض بحثا عن أخفت ما بقي من ندهة أخيه الإنسان القائلة له من وراء الزمن "اتبعني". في الصحراء، نتعلم أن نولي إنسانا هذا القدر الهائل من الثقة، فنأتمنه على حياتنا نفسها، على نجاتنا من الموت جوعا وعطشا، وليس ذلك فقط بدون أن نعرفه، بل وبدون أن يكون حاضرا. فقد نكون نحن فساد الأرض كما يقول موسى في الرواية وكما سبق أن قالت الملائكة في لحظة خلق آدم، قد تكون الحضارة علمتنا أن لا يأمن بعضنا إلى بعض، ولكننا في الصحراء نسترد هذه الثقة في البشر، نتذكر أن ذلك الإنسان الغائب عنا  حريص حرصنا على الحياة، وأن هذا السبب وحده كاف لأن نقتفي أثره. هذا ما تخفيه الحضارة عنا في المدن وفي القرى وفي الزحام.
واقعية "في الصحراء"، أو صحفيته، هي ما تجعله قراءة ثقيلة على النفس تماما، فنحن هنا غيرنا في "فساد الأمكنة"، فلسنا متفرجين نقيس براعة الكاتب ونقيّم حبكاته ورسمه شخصياته، بل شهود، نرى أمام أعيننا آباء لنا لا بد أن الموت غيّبهم، ولكننا نراهم في شبابهم وهم يهدرون أيامهم يستجدون بالمعاول من صخور الجبل قروشا قليلة، نراهم يختلون إلى أنفسهم قارئين رسائل الأهل والزوجات، نراهم يلتقطون علب وجبات المهندسين إذ تسقط من أعلى الجبل لتكون لهم آنية، ونراهم فور أن يكتمل ما يكفي شراء قطعة أرض يفرون من الجبل إلى الوادي غير آسفين عليه وعلى معادنه وعلى مهنة التعدين كلها (وهي "مهنة بلا محبين"). يرينا "في الصحراء" أن وهم حقل الغاز ومنجم الذهب ونبع الدولارات التي لا وجود لها إلا في صفحات جرائدنا الأولى هو وهم قديم ومكرور وسخيف صدقه آباؤنا وفرحوا به وانتظروا منه الخير مثلما يصدقه بيننا من يصدقه ويفرح به وينتظره. ويرينا الكتاب السيول التي ضربتنا أخيرا وهي تتكون منذ أربعين عاما وأكثر دون أن يعنى أحد بترويضها، فيموت في الستينيات ثلاثة رجال في جوف بئر يستجدونه قليلا من الماء، ويموت في 2016 كل من ماتوا ضحايا سيول الماء، ترينا أننا متنا ولا نزال نموت، بينما يحكمنا من لا يبالون بموتنا بل من يضيقون بحياتنا.
***
لا أريد أن أنتصر للصحافة على الأدب أو الأدب على الصحافة. فما من معركة أصلا. فلا تكاد تتوافر الموهبة حتى يصل كل إلى مناطق في وعينا تستعصي على سواه.
"في الصحراء" يمنحنا كل ما تمنحنا إياه "فساد الأمكنة" من مساحات شاسعة لتأمل وجودنا، ويزيد عليها أنه يدفعنا أن ننظر إلى ماضينا في غضب، وحاضرنا في غضب، ومستقبلنا إذا سمح الوقت. يمنحنا ميزة ـ أو عيب ـ أن نتذكر أننا مصريون وأننا نعيش في بلد ذلك ماضيه وهذا حاضره.
وتمنحنا "فساد الأمكنة" ما لا يمكن أن يمنحه الواقع: أن نرى أنفسنا في الجبل مثلما نراها في الإنسان، أن نحاسب أنفسنا على جريمة قد لا نرى دماءها على أيدينا، لكننا إن أمعنا النظر، نرى دماءها سارية في عروقنا.


نشر المقال اليوم في جريدة القاهرة، والعنوان مستعار من كتاب لسلافوي جيجيك