عري لؤلؤة .. أو عري جثة
لو كان روبرت فروست قال
إن من الشعر ما يضيع في الترجمة لصدق، لكنه قال إن "الشعر هو ما يضيع في
الترجمة" فوجب الاختلاف معه. لا شك
أن شعرا يضيع في الترجمة. فما لأمٍّ مصرية مثلا أن تهدهد طفلها بتهويدة
مترجمة، وما لمتظاهر في ميدان التحرير أن يجد شعاره في شعر مترجم. مثل هذه
الاستعمالات الصغيرة (والمهمة) تحتاج إلى شعر غير الذي تصقله الترجمة وتصفيه، وتصل
به بعد رحلته وهو لا يزال شعرا، وشعرا عظيما.
كلنا قرأنا الهايكو،
وعرفناه، وفي رؤوسنا منه ما غيَّر العالم أمام أعيننا، وغيَّر وعينا أمام العالم. مع
أنني أراهن أن أحدا منا لم يقرأه قط في سبعة عشر مقطعا صوتيا موزعة على ثلاثة
سطور. كلنا نعرف كفافيس، وريتسوس، وشكسبير، ورامبو، برغم أننا لم نقرأ إلا نعيم عطية
ورفعت سلام ومحمد عناني ورمسيس يونان. فكيف حدث ذلك؟ كيف تهيَّأ لشعرهم أن يصل بعد
رحلته من لغة إلى لغة، وأحيانا من لغة إلى لغة إلى لغة، وهو لم يزل شعرا؟
إجابتي أنا هي أنه كُتِب
منذ البداية بهذه النية. كُتِب موجَّها للإنسان، لا في أي مكان وأي لغة وحسب، بل
وفي أي زمن. أوقن، شخصيا، أن قصيدة لشمبورسكا كان يمكن أن تقرأ باليونانية في
طروادة المحاصرة فتؤثر في قارئها مثلما تؤثر أبيات هوميروس بالعربية في أنا الآن.
هناك شعر يكتب منذ البداية وفيه رسالة تحوِّلُ كل قارئ لها في أي لغة إلى "من
يهمه الأمر".
هناك شعر جماله يتجاوز
لغته. هناك شعر لا يلتصق بثقافته المحيطة المباشرة الالتصاق الذي يمنع انتقاله
منها إلا مثقلا بالهوامش شأن البحوث والمقالات. هناك بالأحرى شاعر يعرف موقعه
الحقيقي من العالم، يعرف أن وطنه أوسع من بلده، وأن جمهوره أوسع ممن لا يطربون إلا
لألاعيبه اللغوية.
هناك شاعر يعرف وهو يكتب قصيدته أن هذه القصيدة قد تتعرض
لامتحان الترجمة الذي تصادفك القصيدة بعده عارية، فإما عري لؤلؤة، أو عري جثة.
ولا أحسب أحدا تعلم هذا
الدرس مثلما تعلمه شعراء قصيدة النثر المعاصرون. وأثق، شخصيا، أن قصائد لشعراء مثل
عماد أبو صالح أو فتحي عبد السميع أقدر على الوصول إلى خارج اللغة العربية من كثير
للغاية من الشعر العربي السابق على قصيدة النثر. قصيدة النثر المعاصرة، في نماذجها
الناضجة الوعية، قصيدة تخاطب الإنسان العاري من قشرة اللون والجنس والجنسية والدين
والزمن. وهكذا هو الشعر الذي كان يعنيه جوتة حين تكلم عن زهرة اقتلعها من الحديقة،
ثم وضعها في ماء بيته الخاص، وثمة أينعت من جديد.