أصوات من هنا
طفل واحد فقط يكفي ليكون الطفل الجماهيري في عائلة. وفي
حالتي، لم أكن ذلك الطفل. ولم أكن بعيدا عنه فأستمتع بالظل، بل لصيقا به طول
الوقت. يمكنكم أن تتصوروا الحالة بالضبط لو تساءلتم أي الفريقين أسعد: الزمالك
الذي يرى كل بطولة يحرزها الأهلي بطولة لم يحرزها هو، أم أسمنت أسيوط مثلا الذي
يتابع لاعبوه مبارايات الأهلي مستمتعين باللعب والنصر كأنهم متفرجون عاديون لا
لاعبين منافسين. محمد فؤاد مثال مناسب أيضا. أسعد منه كثيرا مطرب مثل علاء عبد
الخالق لا يقارنه أحد بالنجم الجماهيري الأول عمرو دياب. حسني مبارك أسعد من السادات، لأنه أبعد منه عن عبد الناصر.
عزيز أباظة أسعد من حافظ ابراهيم، لأنه أبعد عن شوقي. والخلاصة أن السعادة ـ في حدود
ما يعنيني هنا ـ إما سباحة في بحيرة الضوء، أو جلسة على البرِّ واستمتاع بالفرجة.
والجحيم هو الوسط بين النعيمين.
وغلبني الاستطراد. ودائما يغلبني. كنت أريد فقط أن أقول
إن أختي الكبرى كانت الطفلة المفضلة لدى العائلة الكبيرة، ولا أستثني نفسي من
العائلة الكبيرة، فقد كانت أختي هذه، ولا تزال بعد كل هذه السنين، هي الطفلة
المفضلة لدي أيضا. كانت أكبر مني بثلاث سنوات، وكنت وإياها نجلس على مقعد واحد في
طفولتنا المبكرة الأولى، هي تسند ظهرها إلى ذراع الكرسي، وأن أسند ظهري إلى بطنها،
ناظرين معا إلى الشيء نفسه: تليفزيون أبيض وأسود بجانبه ترانس فضي داكن ثقيل،
وفوقه هوائي على شكل كرة بدينة تخرج منها شعبتان منفرجتان.
تلك كانت جلستنا في صالة بيتنا. أما في بيت جديّ لأمي،
فقد كنت وحدي. هي تحظى بتدليل الجميع، وأنا لا يتركني الجميع لأتفرج معهم على
الجميلة الصغيرة، بل يعمدون بين الحين والآخر إلى منحي فضلة ما لديهم من اهتمام
وعناية حرصا على سلامتي النفسية، فكان ذلك بمثابة خط أسود سميك تحت اهتمامهم برشا.
كان يؤذيني تصورهم أنني قد أشعر تجاه رشا، رشا بالذات، بغير الحب الجارف، لمجرد أن
هؤلاء، هؤلاء بالذات، يفضلونها عليّ، مثلما كنت أنا أفضلها عليهم، فـ fair enough.
وكان بيت جديّ لأمي محطة يومية في حياتنا. كان على أمي
كلَّ صباح أن تمشي بنا من بيتنا في مدخل القرية، إلى البيت الطيني القديم الفسيح
في منتصفها، توْدِعنا لدى جدتي، وتمضي هي إلى عملها. وهكذا كل يوم.
في ذلك البيت الجميل، تعلمت للمرة الأولى أن أكره
الموسيقى.
***
طفل صغير وأخته التي تكبره بثلاث سنين، في بيت طيني عالي
الجدران، ككل البيوت في الحي القديم من القرية، في واجهته سقيفة (كما علمتني
الترجمة) رحبة يسميها أهل البيت "الفرندة"، تظللها تكعيبة عنب، وأمامه
ثلاث نخلات تثمرن بلحا أصفر لا يطيب مذاقه لأحد فيبقى في مكانه ذهبا بين أخضر
السعف الباهت وزرقة السماء الناصعة. هناك في فجر الثمانينيات من القرن الماضي. لن
تمر سنوات كثيرة قبل أن يهدم ذلك الجمال، لتقام في موضعه عمارة من ستة طوابق،
يسكنها الأخوال واحد بعد واحد، ويهجرونها في أواخر التسعينيات واحد بعد واحد، إلى
ضواحي القاهرة الجديدة، خليجية الروح، تاركين شققهم لأغراب يسكنونها، فيباعدون
أكثر بيني وبين بيت من بيوت طفولتي أحببته برغم كل شيء. لكن ذلك كله لن يحدث: أعني
الهدم والبناء، والسكنى والرحيل، قبل أن أتعلم في ذلك البيت كيف أقيم علاقة مع
الغناء، ولو كانت هذه العلاقة علاقة كراهية.
كان من الصعب أن يفهم أحد لماذا ظللت أنفر ـ حتى بعدما
استويت شابا قادرا على تذوق الموسيقى والغناء ـ من أغنية بديعة مثل "حلاوة
شمسنا" للثلاثي المرح. كنت قد عرفت علي اسماعيل موسيقيا عبقريا، وبت قادرا ـ
حتى وأنا أكتب هذه السطور، أن أتذوق حلاوة الحوار الرائع بين الوتريات والناي (أم
هي الكولة؟) في المقدمة الموسيقية للأغنية، وأن أقطع بأن اللحن بالغ العذوبة، وأن
صوت المغنيات الثلاث رخيم ودافئ ومؤنس وأليف كأنه صوت خالاتي ـ البنات أيامها ـ في
ضحكاتهن أو نمائمهن. ولكن أثرا من طفولتي الأولى هو الذي حال طويلا، ولا يزال يحول
بين أن أستمع إلى هذه الأغنية فلا أجد فيها إلا نفسها.
في تلك السنوات البعيدة، كانت المقدمة الموسيقية لأحد
برامج إذاعة البرنامج العام عبارة عن مقطع من تلك الأغنية. شيء ما في البيت عالي
الجدران، وأهله، وحقيقة أنه لم يكن بالنسبة لي إلا البديل الأسوأ عن بيتي، شيء من
ذلك هو الذي جعل الخوف ينتابني طويلا كلما سمعت الأغنية، أو هو مجرد عدم ارتياح لا
أفهمه تمام الفهم.
أما في بيتنا، فالنقيض تماما. كان أقدم ما سمعته،
وأحببته، أغنيات مسرحية "ريا وسكينة" لبليغ حمدي. ظل ذلك الشريط ـ الذي
عرفت لاحقا أنه حقق ناجحا ساحقا ـ يتردد
في بيتنا لأسابيع. كانت أمي مفتونة بأغنياته ولا تملها. وانتقل ذلك إليّ، فحفظت ـ في
الوقت الذي كنت أتدرب فيه على حفظ القرآن ـ مقاطع أو حتى أغنيات كاملة من
المسرحية. وفي الوقت نفسه تقريبا، كانت أغنيات أخرى تطاردني، في بيتنا، وفي شوارع
القرية، وحفظتها أيضا، ولا أزال أطرب لدندنتها بيني وبين نفسي دون أن أتجاسر فأرفع
صوتي: "عرَّاف" لمحمد الحلو، و"حلوين من يومنا والله" لسيد
مكاوي، و"الصهبجية" لسيد درويش بصوت إيمان البحر درويش في أحد أفلامه
المقررة علينا تليفزيونيا في ذلك الوقت، وكم كان إيمان يبدو لنا مثالا للبراءة أيامها
وكم بدا في السنوات الأخيرة تجسيدا للغل وحنق المحرومين.
وفي ذلك الوقت أيضا، كان أول احتكاك بالموسيقى المجردة
من الكلام، مع المقطع الموسيقي الذي كان يتردد عبر القناة الثانية (القناة الكافرة
بتعبيري في ذلك الزمن) بديلا للأذان، والذي عرفت في الثمانينيات أيضا أنه جزء من موسيقى
عمار الشريعي لمسلسل "الأيام".
ولكنني في ذلك الزمن البعيد، لم أحب أحدا مثلما أحببت
"عمر فتحي" وأغنياته الضاجة بالفرح.
***
في عام 1985، يموت لي خالٌ شاب ـ أشدُّ ما يكون الشباب ـ
ميتة دراماتيكية للغاية، ميتة سبعينية ولكنها في الثمانينيات، شاب لم يزل شعره
الأملس غزيرا كشعر عمر خورشيد قبل عقد، ولم تزل في ثيابه بهجة ألوان العقد الراحل،
شاب يستعير موتوسيكل أحد أصدقائه ويقرر أن يذهب به ليزور أخته الكبيرة في طنطا، وفي
الطريق يموت في حادث. ويحكي أبي الذي ذهب لاستعادة جثمانه الحكاية: يقول إنه ومن
كان معه، أجلسا خالي بينهما في السيارة كأنه نائم، لكي لا تعطل كمائن الشرطة
جنازته الصغيرة قبل جنازته الكبيرة. أم تخدعني ذاكرتي؟ في ذاكرتي أن أبي حكى عن
موقع الحادث: ساحة خاوية وسط مئات من شجر الكافور، فأتصور غابة كالتي يجري فيها
الولد على دراجته في فيلم "الشيطان الصغير"، المغامرة التي ألهبت أحلام
يقظتي في سنوات عمري الأولى. لم أسأل أبي قط عن حقيقة مشهد غابة الكافور ذلك
المستولي على خيالي، ولم يعد أبي موجودا، فلم يعد من طريق إلى الحقيقة.
فاجعة موت ذلك الشاب في الثالثة والعشرين من عمره غيَّرت
مصير إحدى أخواته، أمي بالذات. فجأة، اختفت من على جدران بيتنا المطلية بالجير
الأبيض (فالزيت فيما بعد، فورق الحائط، فالبلاستيك "الصحي") صورة زفافها
وأبي، وصورة جدي لأبي، ورسمة الفلاحتين اللعوبين حاملتي الزلع، ولوحات القطط
الكثيرة التي رأيت أمي بدأب تشتغل بعضها بالإبرة والخيوط الملونة في الكانافاه، لأصادف
كل هذه الصور بعد شهور وأنا أعبث في كراكيبنا في شقة أخرى من البيت، وأجدها هرمت
واصفرّت، كأنها كانت من قبل تستمد نصوعها من عيوننا نحن الناظرين إليها. وبدلا من
إذاعة الشرق الأوسط اللعوب، وإذاعة البرنامج العام العامرة بالدراما، استقر مؤشر المذياع
بصورة دائمة على إذاعة القرآن الكريم. فكنت لم أزل في الثامنة من عمري حين تعلمت
أن أمقت صوت الشحات أنور في ترتيله وأشمئز منه في تجويده، وأن أحتقر صوت الشيخ
الدكتور أحمد نعينع (الذي اختير لي مثلا أعلى: طبيب، وقارئ قرآن، واضع رجليه في
مجد الدنيا ونعيم الآخرة، أو هذا ما كان يبدو لشيخي في الكُتّاب)، وأن أخشع لترتيل
المنشاوي ولا يعني لدي غير الصباح، وغير البداية الجديدة، وأن أبتسم كلما سمعت صوت
عبد الباسط عبد الصمد ذا الجمال السهل القريب، وأجد أن فيه من زقزقة العصافير
طفوليتها، وأن أتساءل كلما سمعت مصطفى اسماعيل لماذا لا تكثر إذاعة القرآن الكريم
من بث تلاوته فأجد من يقول لي لأنه كان القارئ المفضل للسادات والسادات مات.
فجوة كبيرة في تاريخي كمستمع. من 85 وحتى ربما 92. كانت
أمي وخالاتي قد قررن بمجرد أن مات أخوهن الشاب أن يقسِّمن عمره عليهن بالتساوي،
فتصلي كل واحدة منهن نيابة عنه بعض سنوات عمره. رأيت شعر أمي يختفي تحت بونيهات لم
تعجبني قط، ثم في طرح صغيرة ملونة طالما نفرت من روائح قماشها الصناعي، إلى أن ظهر
ما يعرف بالخمار في أواخر الثمانينيات وبداية التسعينيات، فتبنَّته أمي وفرض على
جميلة العائلة، أختي، التي نقلوها أيضا من مدرستي إلى معهد أزهري بمجرد أن أنهت
الدراسة الابتدائية، ثم عدلت كلتاهما بعد سنوات قليلة عن الخمار عائدتين إلى
الطرحة الملونة مرة أخرى، فاستمرت معهما إلى الآن. كان المعهد الأزهري قائما في
المدينة القريبة، فكانت رشا تذهب إليه كلَّ يوم، مراهقة صغيرة، ترتدي زي راهبة
عجوز، أزرق في الإعدادي، رماديًّا في الثانوي. ويوما ما رجعت من المدينة الصغيرة
ومعها شريط لمحمد فؤاد.
قبل ذلك كانت أغنيات فؤاد ("في السكة"
و"الشمس تجمعنا" بالذات) تملأ شوارع القرية مثلما تملؤها أغنيات عمرو
دياب (ميال بالذات). لكن رشا اشترت شريطا، ربما إعجابا بصورة المطرب الشاب على
غلافه، وظلت تسمعنا إياه كل صباح ونحن نستعد للخروج إلى المدرسة بديلا حتى عن إذاعة
القرآن الكريم. وكرهته مبكرا. حتى أغنية "عارف" التي أحبتها رشا، والتي
عرفت لاحقا أنها من ألحان "ياسر عبد الرحمن"، كرهتها وسخرت منها (كان
فؤاد يصرخ "عارف" وقبل أن يقول "إني واحد تاني" أقول أنا
ببرود عيل رخم: "إني واحد تافه" فتجلجل ضحكة أمي وسط ضحكاتنا جميعا،
وتغضب رشا ربما على فتى أحلامها في ذلك الوقت. وربما كان ذلك سر كراهيتي لفؤاد:
هاجس بأنه حلم أختي). كنت أحفظ ـ بضغط ربما من الأعراس التي تمضي في شوارع القرية
فنرافقها إلى أن تعبر شارعنا إلى شارع غيره ـ بعض أغنيات فؤاد، ويسهل عليّ
ترديدها. ولكنني لم أحبه. مثلما لم أحب "لولاكي" لعلي حميدة التي كانت
حدث طفولتي الغنائي الأهم.
في عام 1992، كنت في الخامسة عشرة، شاعرا صغيرا، كتكوتا
فصيحا يتبنّاه شعراء القرية ويتخذونه على صغره صديقا لهم. هكذا كان على أبي أن يقبل
على مضض بصداقة بيني وبين الشاعر المكوجي، والشاعر الحلواني، والشاعر المحولجي
والشاعر مدرس الابتدائي. ومع هؤلاء الشعراء المجهضين بدأت علاقتي بالموسيقى تتجدد.
حاول الشاعر المكوجي أن يضمني إلى مجموعة محبي محرم فؤاد التي كان يحاول تأسيسها
في ذلك الوقت، ولكنني نفرت تماما (وكتبت عن نفوري هذا من محرم فؤاد في روايتي
الأولى). فأعارني على سبيل الاختبار شريط "من أجل عينيك". كانت أول
أغنية أسمعها لأم كلثوم عامدا متعمدا. والآن، أكثر من عشرين عاما مضت، وبوسعي أن
أحدِّد الأيام التي مضت عليّ خلالها دون أن أسمع أم كلثوم.
في ثانوي، أمكنني أن أستقل بترانزستور، أحمر، سوني، كان
رفيق جدتي منذ فقدت بصرها من فرط بكائها على ابنها الشاب. وشأن أبناء جيل أسبق،
شأن أخوال وأعمام، وربما جدود، كانت ليلتي تبدأ في الخامسة مساء، مع إذاعة أم
كلثوم. بأم كلثوم تبدأ الإذاعة وبأم كلثوم تنتهي. وبين أم كلثوم وأم كلثوم هناك كل
تاريخ الغناء المصري.
وفي ثانوي، صادرت مسجِّل ناشيونال القديم الذي ولدت
لأجده شريكا للتليفزيون الأبيض والأسود في منضدة. ومثلما كان يحلو لي في طفولتي
الأولى أن أحرك المؤشر بمنتهى البطء إلى أن أصل إلى تلك الإذاعة العجيبة، حيث رجل
وامرأة يتبادلان النطق بأسماء غربية طوال اليوم (جورج ـ إليزابث ـ أنطوني ـ جورج ـ
توماس ـ توماس ....) وأسال ما هذا فيقال لي إن هذه إذاعة تابعة لجهاز مخابرات، وتبث
رسائل مشفرة، بت في ثانوي أدير المؤشر مساءَ كلِّ يومٍ ببطء شديد، إلى أن ألتقط
وسط وشيش كثير إذاعة موسيقية أجنبية، وأصبر إلى أن يصفو الصوت، ويختفي أغلب
الوشيش، ثم أضع شريطا فارغا وأسجل. لعلها كانت موسيقى يونانية شعبية، وبقيت تلك
الأشرطة معي سنين طويلة وقد سميتها جميعا باسم واحد: "أصوات من هناك"
معطيا كل شريط منها رقما.
لم يحدث أن كانت الموسيقى مصاحبة للكتابة أو العمل، ولن
أسمح لها قط بهذه المرتبة الأدنى. هناك جزء من اليوم، ينبغي أن يتوقف فيه كوكب
الأرض عن العمل ككرة تدور، ويستريح في مقعده، ويستمع إلى أم كلثوم وهي تطرح السؤال
البديهي مع الأستاذ القصبجي: ما دام تحب بتنكر ليه. أو محمد فوزي في
"عوام". أو عبد الحليم حافظ في أهواك (بتسجيل الحفلة لا الفيلم، بعد أن
تعلم كيف ينبغي له أن يغنيها) أو رجاء عبده في "البوسطجية اشتكوا".
في الموسيقى كان أصدقائي دائما هم النوع الخطأ من
الأصدقاء. ليس دائما بالتأكيد. هناك قلة قليلة من النوع الصائب. لكن الكثرة من
أصدقائي يستمعون إلى موسيقى زمانهم. لي صديق يحب عمرو دياب مثلا، وهو صديق رفيع
الذائقة في غير الموسيقى. وأصدقاء يحبون ما أسميه (لعدم وجود تسمية أكثر إهانة)
بأغاني المثقفين: الأغاني التي يكتبها شعراء يحسبون أنهم لا يريدون أن يكونوا مرسي
جميل عزيز في حين أن هذا المقام الرفيع يعلو على مواهبهم كثيرا، ويلحنها من يحسبون
أنهم لا يريدون أن يكونوا محمود الشريف في حين أن مواهبهم لا ترقى بهم إلى أعلى من
حسن أبو السعود، ويغنيها من هم في حقيقتهم مجرد مستمعين من الدرجة الثالثة، فما هم
حتى بسمِّيعة. دائما كان أصدقائي يتفقون مع ذائقتي في الشعر والرواية والسينما، ثم
يختلفون ـ أو يتخلفون ـ في الموسيقى والغناء. لم تزعجني مثلما أزعجت الكثيرين من
أصحابي سذاجة أحمد رامي مثلا. لسبب بسيط: أنا لم أعتبر الكلام يوما أحد شروط
الأغنية. هو لا يعدو عندي مبرر الصوت البشري للحضور وسط أصوات الآلات. الأغنية كما
أفهمها صوت، ضوضاء بشرية وآلية، استطاع ملحن أن يخلق منها نظاما فريدا غير مسبوق
ولن يتكرر. هكذا لا أندهش مطلقا حينما أطرب لعبد الوهاب في أغنية الفن وهو يغني لـ
"الفاروق مولاه" أو حينما أقع في غرام أغنيات بلغات لا أعرفها على
الإطلاق. ولعل هذا سر تفرد الموسيقى بين جميع الفنون: أنها على هامش اهتماماتها،
وبلا جهد يذكر، تنتقم لنا من اللغة التي تعذبنا ما لم نحتم في مواجهتها بالموسيقى.
***
ربما يبدو من قبيل التجديف أنني أصف بعض أغنيات أم كلثوم
بالشبابية، ولكنني مع التقدم في العمر، والاستماع، لم أعد أقوى إلا نادرا على
الاستماع لأغلب ألحان عبد الوهاب وبليغ والموجي (باستثناء أغنيات فيلم رابعة
العدوية) لأم كلثوم. تلك الأغنيات هي التي رافقتني كل يوم من أيام الثانوي.
"ألف ليلة وليلة" بالذات كانت أكثر أغنية سمعتها في تلك الفترة، فقد
كانت الأغنية الكلثومية الوحيدة التي يمكن لأصدقائي أن يقبلوا بها عندما نلتقي
للمذاكرة. كانوا يفضلون أصالة وهاني شاكر في ذلك الوقت، ولعل منهم من كان يسمع
عمرو دياب أيضا. وبمرور السنين، كنت أزداد استمتاعا بالأقدم والأقدم من أم كلثوم،
أم كلثوم القصبجي والسنباطي، أم كلثوم الشيخ زكريا طبعا.
ومع ذلك، مع هذا الميل إلى القديم والطربي في أم كلثوم، فقد
خطر لي مرة أنه لو كانت الجنة أغنية، لو كانت الجنة حالة صوتية، فسأطلب أن يكون
خلودي في "الرضا والنور". الموجي. المبالغ المفتعل. ففي أغنيته هذه لأم
كلثوم أشبع مشاعري الإيمانية الطاغية، وفيها أجد جنتي.
مثلما أجد دنياي، كلما ضاقت الدنيا حولي، في "أمانة
عليك يا ليل طوّل" لكارم محمود، يغنيها منفردا بعوده. بلا آلة أخرى تصاحبه.
وأسمعها المرة بعد المرة بعد المرة إلى أن أنسى ما الذي ألجأني وأحوجني إليها في
بداية المطاف.
عبد الوهاب أيضا. اقتحم علينا الثمانينيات بـ "من
غير ليه". لم يكن ثمة مفر من تلك الأغنية في وقت ما. بصوت طاهر مصطفى الذي
اختفى تماما، أو بصوت هاني شاكر. ولكن صوت عبد الوهاب نفسه، في شيخوخته، عندما
أنصتت له مصر كلها في لقاء خاص أجراه معه مفيد فوزي، بقي هو الصوت الأحب في هذه
الأغنية.
وأرغمنا عبد الوهاب مرة أخرى ونحن صبية صغار على أغنياته
حينما منح بعضها لسمية قيصر. هكذا بدأت رحلتي مع عبد الوهاب بدايتها مع أم كلثوم،
بأغنيات من قبيل "قالولي هان الود عليه" و"علشان الشوك اللي في
الورد" و"عاشق الروح" ولكنني بمرور السنوات مضيت لا أجد عبد
الوهابي أنا في غير قديمه الموغل في القدم. ولا أدري إلى الآن تجسدا صوتيا للنور
إلا الذي أجده في "أهون عليك".
قدري أن الرسائل الأقدر على إسعادي هي المبعوثة من
الماضي البعيد، ممن رحلوا عن أرضنا ولم يعلموا أن رسائلهم وصلت، وأنني أرد عليها
كل يوم بألف الله لم يعد يجهر بها صوتي. قدري أنني ولدت سنة 77، لكن أذني ولدت قبل
ذلك بعقود طوال. صحيح أنني قضيت مراهقتي كلها (وقد طالت كثيرا) أحب
"أنغام"، ولكنه مجرد الحب.
ولعلي أقول هنا عن الحب شيئا كم كتمته. الواحد منا يستعمل
مفردة الحب حينما يريد أن يصف علاقته بامرأة، بأمه أو بأبيه، بإخوته وأصدقائه،
بوطنه أو بالإنسانية. ولكنه لا يفكر في الحب تقريبا حينما يفكر في وصف علاقته
بنفسه. عن قيمة نفسه لديه. هذه علاقة لا يصفها الحب. هذه هي الوجود نفسه.
وإذن، وبهذا المعنى للحب، أحببت أنغام، واشتريت شرائطها،
وأهديت منها لكل حبيبة أردت أن أستدرجها، أو أستدرج أذنها، إلى بيتي. ولكن
"يا ما أرق النسيم" مثلا لليلى مراد، بقيت في مكانة أخرى عندي، مكانة لا
يصفها الحب. هي وأغنيات أسبق مني إلى الوجود. أغنيات ما يربطني بها ليس اسمه الحب.
أغنيات هي أقرب إلى شرط الوجود، أغنيات لولا وجودها في اللابتوب، وفي الموبايل،
وفي العالم، لمررت كل يوم بلحظة يعز عليَّ فيها ما فيه نجدتي وخلاصي.