تأمل الماسة*
من الإجابات المعتمدة على مسألة نزوح الشعراء إلى النثر
أننا لا نعيش زمن الشعر، بل زمن الرواية،
أو الصورة، أو المقالة، وأن النثر أقدر على معالجة تعقيدات العالم، وأن الشاعر لن
يؤجر غالبا عن شعره فلا بد من كتابة أخرى يؤجر عليه. ولعل أيا من هذا صحيح.
عن نفسي أميل إلى أن اللحظة التي تعيشها مصر منذ ثورة 25 يناير العظيمة، جعلت من الصعب على أحد تجاهل الهم السياسي والوطني والاجتماعي،
وبما أن الشعر لا يصلح تعليقا على الأحداث، فكان على كل شاعر أن يجد متنفسا آخر بداية
من استيتس على فيسبوك وإلى ما لا نهاية.
مسألتان مهمتان أود أن ألفت النظر إليهما. الأولى أن في
نثر الشعراء جمالا لا يصادفه القارئ عند غيرهم إلا نادرا، وانظروا إلى مقالات
قصيرة قرأناها أخيرا لفسوافا شمبورسكا، وكتاب كـ "اللهب المزدوج"
لأوكتافيو باث، ومقالات لتشارلز سيميك، والأمثلة تستعصي على الإحصاء. وهو ما يعني
أيضا أن ظاهرة تحول الشعراء إلى الكتابة النثرية، إن كانت ظاهرة وإن كان تحولا،
شائعة في ثقافات أخرى وأزمنة أخرى.
ومسألة ثانية، هي أن الزمن زمن الشعر طول الوقت. ربما
تتوقف لغة في ظروف معينة ولفترة معينة عن الإضافة إلى كنز الشعر الإنساني، لكن
لغات أخرى تعوِّض هذا الغياب، والمخزون الشعري الإنساني كبير وكاف ومحفز. فمن
مزايا الشعر العظيم أنه لا يفقد معاصرته مطلقا. فتبقى أبيات من امرئ القيس أو باشو
أو لي باي أو والت ويتمن، والقائمة طويلة، قادرةً على مخاطبة الإنسان في كل زمان
ومكان. ويبقى الشعراء من أقدر البشر على النفاذ إلى جواهر الأشياء، لأن هذه طبيعة
الأداة التي يعملون بها، فهذا قدرهم. ومرة قلت إن الشعر دعوة إلى تأمل ماسة، بينما
النثر دعوة إلى مشاهدة فيلم تسجيلي عن استخراجها. ربما أكون مبالغا، ولكن هذه أيضا
طريقة الشعراء في تعرية الحقيقة أمام العيون.
كتبت إسهاما في تحقيق لجريدة الأخبار نشر اليوم