Monday, April 15, 2013

مع السلامة يا عم لاو تسو



مع السلامة يا عم لاو تسو



تبتعد المرآةُ في بطءٍ ولكن في ثباتٍ ـ كما يقول الإنجليزُ ـ فيتسع مجالها، وتحيط صورتي بسحابٍ وترابٍ وذبابٍ أيضًا ـ ولكن بضغطٍ من اللغةِ ـ ها هي يدي تتحرك لتهشه
انظروا .. اللغةُ حرَّكتْ يدًا ما كانت لتتحرك. اللغة تفعل. اللغة هشت ذبابًا غير موجود. اللغة مجنونة.
وتبتعد المرآةُ إلى أن تأتي لحظةٌ لا يمكنني أن أتبين فيها صورتي، لأن جبلاً دخل فجأةً في مجال المرآة، أو لأن طائرًا أقام عشه بين غصني شجرةٍ في مقدمة المرآة فَسَدَّ فرجةً كنت منها أرى،
وتبتعدُ، ولا أعود هناك.
أتعرفون .. المرآةُ مرآةٌ ولو لم نرَ فيها صورنا
وهذا مؤلمٌ ... مع أننا ينبغي ـ لمصلحتنا أقصد ـ ألا نتألم من شيءٍ يحدث ما دام يحدث،
وهذا رجلٌ من برج الجوزاء، ورجلٌ من برج الجوزاء  ـ كما يقولون ـ رجلان: واحدٌ منهما على الخشبة والآخر وسط الجمهور.
ولكنني تروق لي استعارتي: واحدٌ منهما في المرآة.
ربما لأن ما على الخشبة تظهر أو تُستشعر فيه الصنعةُ والقصديةُ أكثرَ مما في المرآة. وما يلي ليس ـ بالضرورة ـ ما أراه فى المرآة. هو ما أراه. أو بالأحرى ما أكتبه لأراه.
أوشكت الأميرةُ أن ترحل، عصرتْ ذيلَ فستانها فكانت بين قدميها بِركةٌ ضحلةٌ خاض فيها الأتوبيس مسرعًا، فكان رذاذٌ أو طيورٌ زرقاءُ هبَّت حولها، وكنت في الأتوبيس حولي، محارٌ كثيرٌ مفتوحٌ ومحارٌ كثيرٌ مغلقٌ، نائماً.
ثمةَ نارٌ تحت بوتقةٍ أراهما، وبخارٌ يتصاعد في مختبرٍ أراهما.
من قال لي إنني لن أحس بلحمٍ تحت أصابعي إذ تتحسسُ:
هذه المرآةَ التي لا تروقني، بالثمر الذي أنزعه من أذرعها، بالورق الذي تملكه ويملك الشعراءُ عبره الربيعَ والخريف.
إنني وحيدٌ لأنني نائم.
وبالتتابع تنكسر المصابيحُ التي خُلقتْ بغير هذا التتابع.
إنني أتسكع والظلامُ يسبقني من مدينةٍ لمدينةٍ
مرتْ على جسمي يدٌ
ـ أنا هنا بالصدفة.
قلت، وأنا.
ـ النافذة أيضا لها ضلفتان، ما رأيكِ لو نسير كلُّ واحدٍ في اتجاهٍ ونتخيل شكلَ الأفق المتاح ـ حينئذ ـ بيننا أمام عينين لا تنظران إليه
تلقي الأميرةُ فستانَها، يطفو على البركة فيلتهمها، أو تطير به الطيورُ الزرقُ، في أيٍّ من الحالتين ينخطف قلبُ الأميرةِ، تبقى عاريةً .
إنهم لا يزالون يغلقون الشبابيك، مع أن الليلَ كفيلٌ بإغلاقها، أو النومَ أو الشرودَ
أو أن نرجع كلُّ واحدٍ من الاتجاه الذي سار فيه إلى النقطة التي بدأ منها، ولكن من يذكر النقطة التى بدأ منها.
والشبابيكُ تبقى مشرعة
وأنا؟
داخل الأفق
داخل الأفق دائما
و
لست في حاجة أبدًا إلى أن أدفن الأمسَ أو أخلق الغدَّ
لست في حاجة إلى النار تخبرني عن طعوم العناصر
ومع أنني قلت:
"... ذلك الجزءَ من جسمها، ذلك الذي يشفُّ عن شرايينها، ذلك الذى ألمسه وبينما ألمسه أتمنى أن ألمسه"
إلا أنني لست في حاجة إلى أن أحقق أمنياتي،
ربما أمنيات جديدة
ربما أمنيات أخرى
وألا أجيد السباحة
وألا أقابل في القاع جثَّةَ آدم على شكل سفينةٍ مستقرةٍ جنب طوربيدٍ، ولا جوهرةٍ من صخور عبدالله البحري، ولا زجاجاتٍ مختومةٍ على رسائل وخرائط وعفاريت
ربما عالمٍ يبهتني ملمسه
ربما عالمٍ لا تناسبه مفرداتي
وأن أكون دائمًا مستعدًا، مثلما الريشةُ دائماً مستعدةٌ
ومثلها أهزم العاصفة
وأن أقبل
في حدَّة الموسى.
صدري على صدرك.
في حدة الموسى.
أصابعنا تتخلل العشب.
في حدة الموسى.
أقدامنا على الرمل والتراب، في الماء تحت البطاطين، ولسنا ضحايا، ولا دم يشمل الكائنات أين التفتنا
ربما شَبَكٌ
ربما أسياخٌ من حديدٍ نافذةٌ من الحيطان فجأةً ومن الأرض بلا هدفٍ غير أن نتفادى
نتفادى فنحسب أننا نرقصُ .. اسمعي
ها هو وجهكِ كأني أمزِّق صفحةً أو أهدم بيتي بأن أنسى علاماته كلها والطريقَ إليه.
ها هو وجهكِ، اغفري لي، لم أعد قادرًا أن أعامل ظلي على أنه صاحبي في طريقي
إنني كيسُ دمّي وآلةُ عقلي، إنني مخزنُ ما مضى من حياتي وما سيجيء، وإنني صورةٌ أحملها للآخرين
وإن صاحبي في طريقي غامضٌ، ولم أعد حتى أحاول أن أعرفه
معذرةً
لن أحملك بين ذراعيَّ وأصعد السلمَ وأفتح البابَ بضربةٍ من قدمي لأكتشف بعد كل هذا أن اللهاثَ موصولٌ باللهاث وأنه لم يكن ثمة مبرر للجهد
أو أتبينَ أنني كنت أحملكِ لنفسي وليس لي
واسمعي
أنتِ أيضًا
وكلُّ واحدٍ وواحدةٍ أيضًا
ما لم أكن أواسي نفسي:
يقرع البابَ بالعصا ورجليه ـ بعد سنين؟ نادماً؟ ـ ولا صوت إلا الذي للرياح، ومطرٌ شديدٌ، ويلهث، وصريرُ كافورةٍ، وشفتاه لامعتان باللعاب، وبحرٌ يغمر الشطوطَ ونهرٌ، وقميصُه المبلولُ يكشف عن عضلاتٍ ترتخي وتسري فيها الزرقةُ، ويقرع ـ لا يزال ـ البابَ الخشبىَّ المطعّم بالحديد.
وفي الناحية الأخرى خرافٌ بيضاءُ وعشبٌ أخضرُ وسماءٌ زرقاءُ وبيوتٌ خشبيةٌ حمراءُ فوق تلالٍ، وفي الناحيةِ الأخرى عجوزٌ تستلُّ من صندوقها المكسوِّ بالأصداف رسالةً تقرؤها ثم تلقي بها إلى المدفأة وفي الناحية الأخرى يدٌ تعيد الكتاب إلى الرفِّ [كتاب عاطفى لجيته] وشفتان تمرُّ عليهما أناملُ وعينا تمساحٍ محنطٍ وزهرةٌ من قماشٍ في إناءٍ أبيض رفيعٍ ورسالةٌ أخيرةٌ تطير [slow motion] باتجاه النار وفي الناحية الأخرى عجوزٌ تفتح الصنابيرَ تترك الماءَ يغمر الشقةَ توقدُ المصابيحَ تضعُ اسطوانةً في الفونوغراف
ولا ينبغي أن نتألم من شيءٍ يحدث، نرصد فقط كأن الأمر يعنينا أو نرصد لأن الأمر يعنينا، كلُّ واحدٍ من مكانه وكل واحدٍ باتساع مداه وننسى، بين حينٍ وآخر ننسى، نحن مفرمة التاريخ، نحن أكَلَةُ الخيال، ونحن هذه أي أنا وأنا وأنا، أكثر من ستة مليارات أنا بحسب إحصائيات الأمم المتحدةِ
وفي كتابٍ آخر قلت:
وفي كتابٍ آخر قلت:
من يقول
"أنا"
لا يقول سوى اسمي.
وقلت:
المرايا
ـ إذن ـ
هي كل شيء.
وقلت:
مرآةٌ تنكسرْ
فرَصٌ ـ لا تنتهي ـ
تنتهي.
وقلت:
أمام مرآتي
أنا
في انتظار جودو
والآن
أصحو على صوت كلبةٍ تموت وهي تلد، بينما يقترب هو منها، في ثوبه الفضفاض وجلاله السادر، يسبل عينيها ويعدّ الجِرَاءَ، يرفع الهواءُ ثوبَه ويطيح بالجلال.
الجِرَاءُ ميتةٌ والكلبةُ معلَنةُ الموتِ، أصحو على صوت هَرَمٍ يتفكك من تلقاء أي شيء.
أجد على جدار غرفتي صورةَ مركبٍ بلا مجاذيف وبصيادٍ هَرِمٍ وبشبكة وبسمكٍ تعفَّن وبنظرة استرحامٍ لا تعرف إلى من تتوجه.
أيها الصياد لا تنم.
ولا تملك عليَّ قلبي أيها الإحساس بالأخوة، بالتوأمة، بالمصير الواحد، مَن ذلك حتى أراه أخي، ليس سوى فأرٍ لا يرى سوى داخل مركبه، ولو قضم المركبَ لما عاد في مكانٍ
كفى
أنت وحدك
بل كفى
أنت (١)
أصحو على صوت خشبٍ ينقضمُ
وعلى صوت خشبٍ ينقضم أنام
ثمةَ من يحاول دومًا
ليس على طريقة سيزيف، بل على طريقة إيزيس، وتلك هي المشكلة، فإيزيس لم تحركها ـ غالبًا ـ سوى شهوة الانتقام.
ثمة دائمًا صوتُ أظافر تخمش الجدران، أسمعها، معاولُ تحفر الأنفاق، جنوحٌ إلى أن يصير الكوكبُ كلُّه مركبةً في وكالة ناسا، أو قذيفةَ منجنيق
بالنسبة لي تنجح المحاولة
ولست مسؤولاً عن شيءٍ، إنني أدخل بين حينٍ وآخر في واحدٍ من التكوينات المتاحة دومًا (شارع مثلا، صالة في شقة) ولا يعنيني ـ ربما يرضيني ـ أنني دائما ضربةُ فرشاةٍ لم يعمل حسابها الرسامُ أن تحلَّ بلوحته، أنا تشويهٌ بسيطٌ، خللٌ في البرنامج، عطبٌ فاتنٌ  ـ لي ـ ولا يعنيني في شيء أن لقدميَّ صوتًا ولقلبي ولتنفسي لا يتسق بالضرورة مع الإيقاع السائد، وهذا ما أعنيه حين أقول إنني لست مسؤولاً، وإن المحاولة ـ بالنسبة لي ـ دائما ناجحةٌ وبلا تبرير ينتظرها في النهاية
أقصد أن المحاولة إما أنها مبررةٌ من البدايةِ
حكمة:
الطائر الطائر
لا عش له.
لم يتعلم الطيران عن أبويه
ولا ينتمي
والطائر الطائر
لا يشعر بالحنين
وأعمى. جامح الخيال.
وليس سوى نبض قلبه.
وليس سوى خفقان جناحيه.
والطائر الطائر ـ إن كان ثمة ـ لا تنتظروا أن يعود. والطائر ـ بالضرورة ـ في غنى عن الطيران، أو هو لا يطير. والطائر طائر بالقوة لا بالفعل.
الإله أم الوحيد ... أيهما ابتكر المرآة؟
لستُ واحدًا منهما على أي حالٍ ولكنني أَرَقُ واحدٍ منهما
وذات يومٍ ـ ربما اليوم أو أمس، أشرب في حانة فيها راديو خشبيٌ وكراسٍ بامبو وأنا ونافورةٌ هامسةٌ على شكل يونانيةٍ عاريةٍ تعصر العنب في كأس باكخوسَ وببغاءٌ في قفصٍ هنا وببغاء محنطٌ هناك.
يقترب في ثوبه الفضفاض وجلاله السادر، يضع الفتات للببغاء ويمضي، يتركه يرفرف في قفصه فوق ممالك لا تستحق النزول إليها، ويضع طبقَ المقبِّلات أمامي ويمضي في ثوبه الفضفاض وجلاله السادر، وقد ترك ببغاءً محنطًا هنا، وببغاءً محنطًا هناك، وقفصًا لا ينضب
وأنا؟
المركبُ التي حملتني إلى هنا؟
وهنا؟
وأنا؟
كلُّ شيءٍ يصحُّ سؤالاً لا أسأله
وذات يومٍ كتبتُ رسالةً إلى القرد:
يا قرد انتبه. هذه قفزتك الأولى التي لا تريد منها شيئا، لا جوزة هندٍ ولا متعة اللعب
انتبه
كل قفزةٍ بعد هذه سيليها سؤال، حتى وإن كنت تقصد جوزة هند، أو متعة اللعب.
ـ الغروب يلاحقني
 هذه أول جملة أكتبها على لسان الأميرة. ولن أنتظر إلى أن تُتبعها ولن أُتبعها.
الأميرةُ فى حقيبتها، في طائرتها الورقية، الأميرةُ معها،
والأميرةُ هكذا تبدو لي، غنيةً
كأنها قصيدةٌ مكتوبةٌ
وتبدو غنيةً
كأنها قصيدةٌ مكتوبةٌ بلغة أخرى
تبقى نائمةً، ويبقى وجهُها نائمًا، في تابوتٍ من اللحم والدمِّ، مع أنها ربما تحلم أن إعصارًا في وكالة ناسا، وأن مركبةً تهبط غافلةً عنه، وفيها آدم وحده، من دون حواء
وأحتاج أن ترتدي تاجها وخريطةَ الأرض، وتصعد سلماً، وفيما تصعد، تنثر فوقي قصاصاتٍ من الأطلس، ثم يمضي بها الرُّخ
أراها للحظةٍ واحدةٍ عاريةً
في آخر صفحةٍ عن الأميرةِ
تدخل من حيث أخرج، نلتقي للحظةٍ، بل يلتقي كتفانا.
تدخل من حيث أخرج، معها شمعةٌ مشتعلةٌ ستظل تذوب بينما تتقدم
وأنا أخرج، ومعي شمعٌ كثيرٌ مضاء.
استعارة؟ نعم. استعارة.
تدخل الأميرةُ الحياةَ وأخرج. أصحِّح الخطأ الذى اقترفته الأسطورةُ
أنا مقلوب بروميثيوس.
أنا بروميثيوس أمشي على يديَّ، وقدماي نحو السماء
والأميرة بروميثيوس: نبلُه وعذابُه
لكنها هكذا هنا، فقط هنا، في هذه الصفحة. فليس من الأدب ـ طبعا ـ أن يعصر بروميثيوس ذيل فستانه وما إلى ذلك.
يتدلى المصباح في غرفتي مطفأً عن عمدٍ، وأنا أقرأ ديوان صديق لي، في النور القادم من غرفته التي في مدينة أخرى
في جوٍّ كهذا مؤلَّفٍ عن عمدٍ يتردد صوتها أنثويًّا نمطيًّا
أنا طريدةٌ سهلةٌ وأنت مطاردٌ كسولٌ
لماذا في غرفةٍ معتمةٍ؟ لماذا عن عمدٍ؟ لماذ أغنيةٌ من بداية القرن العشرين بكل هذا التطريب؟ لماذا لا أكون حطابًا تمر جنبَه الطرائدُ والصيادُ، وأنا طريدتي سنديانةٌ لا تفرُّ، ولا تقاومُ ولا تقوى، طبلةٌ منتصبةٌ وأنا بلطةٌ رهيفةُ النصلِ
وهكذا رقصةٌ عاتيةٌ
من يصبه الإنهاك أولاً يمت.
تذكروا وأنتم تتناولون في الصباح الجبنَ والشايَ بالحليب، أن من يتزود منكم بالأكل أكثر يصمد أكثر
وأعيدوا النظر لو سمحتم:
أنيابٌ وضروسٌ وقواطعُ وعضلاتٌ وهذه للركل وهذه للًّكم وهاتان للخنق
إنكم مجهزون للقتال
ومن أجل هذا، العجوزُ على حماره العجوز يقول: المعرفةُ تضيِّق العالم، صدقني أنت عبدٌ لما تعرف، سواءً امتثلت له أم اعترضت عليه، صدقني، صحيحٌ أنه يكشف لك دائما عما لا تعرف، صحيحٌ أنه يقودك إلى ما لا تعرف، ولكنني لم أكن أقصد غير هذا، الانسياق، صدقني، إنما شأن المعرفة والإنسان، كشأني أنا والحمار.
ومن أجل هذا البحيرة.
البحيرة نافورة معطلة. البحيرة رذاذ راكد.
ومن أجل هذا القردُ يعتلي ظهر سلحفاةٍ تمشي، وأنا، والأميرةُ أيضًا ذاهبةٌ إلى البحيرة
ومن  أجل هذا خيمةٌ ـ حيثما أوجَد ـ لا يراها أحد، من الكحول، كأنها لحمي ودمي كأنها خامةُ الأشياءِ كلها
ولكن حتى الموسيقى يمكن تدوينها
ومن أجل هذا
ـ عليك أن تبذل اهتمامك مرتين مرةً بما تزرع، وليكن قمحًا، ومرةً  بأين تزرع، لأن وردةً تزرعها في خيالك لن تموت، وأنت تموت. لذلك ازرعوا الورد كله فى السيليلويد
ومن أجل هذا العجوزُ على حماره العجوزِ، قُرْبَ البحيرة يحمل في خُرجِه: الأميرةَ نائمةً، وأنا متسليًا بقراءة كفها، والعشرةَ آلاف الذين يرد ذكرهم في كتاب لاوتسو "الطريق إلى الفضيلة"، والقردَ الذي هو صنيعة خيالي أصلا وسلحفاته، والببغاءين، وغيرَ ذلك مما لا يجعل من العجوز نوحًا آخر
وإذا كان لي أن أستغل استعارة المرآة التي أشرت إليها في البداية والتي تتيح لى أن أنقسم اثنين فقد لا يستهجن الكثيرون أن أقابل هذا العجوز وأسير إلى جانبه، في نفس الوقت الذي أكون فيه مع الآخرين بداخل خرجه
ـ إلى أين يا عم لاوتسو؟
ـ بعيداً عن المعرفة
ـ مع السلامة يا عم لاوتسو
ـ مع السلامة يا ابني
تحلم الأميرة أنها على سفينةٍ، تودِّع شعبَها كلَّه: الأطفالَ والنساءَ والزهورَ وحَمَامَ القرى ملخَّصين جميعًا في رسالةٍ نسيتها على الكمودينو:
أنا ذاهبةٌ لأتيه، أنا ذاهبةٌ لأنسى، إنني الآن أريد أن أبكي ولكني ذاهبة لأنني لا أريد أن أبكي، الأرضُ هناك ملساء، لابد أن تكون ملساء، والغيوم موجودة ولكن ليس فوق رأسي وكذلك السماء، أو لن يهمني أي شيء وسأجلس مثل قطة شبعانة أو قطة ميتة
وسوف تبقى البحيرةُ ملاءةً مفرودةً فوق عشبٍ وأبقى على شطها كأنني محرومٌ من رفقة عائلةٍ يومَ جمعةٍ في القناطر( وتُرْمُسُ الشاي وطاولةٌ مفتوحةٌ بين زوجيْ أختين وكرةٌ ستضيع فى آخر اليوم ومضربا راكت وأنا أتحايل: ألبس عمامةً وجلبابًا وأقترب "مركب يا باشا" أو "حاجة ساقعة يا كابتن" لأشاهد عن قرب
كنت أوشكت أن أنتهي، بأن:
ينزل القرد منحدَرًا باتجاه البحيرة، تغرس قدماه فى الطين، وسط النجيل، وها هو ظله يفاجئه إذ يلامس الماء. يفاجئه؟ نعم، وإلا ففيم وقوفه فجأة والسلحفاةُ بين يديه صدفةٌ لا لحم يبرز منها، وفيم جلوسه كأنه بنايةٌ تنهدم، وفيم انخراطه فى النشيج والبكاء، وفيم حرصه على ألا تنفلت السلحفاة بينما يغسل في البحيرة قدميه واحدةً بعد واحدةٍ وهو لا يزال يبكي رؤيتَه وجهَه للمرة الأولى، أم غسلَه قدميه للمرة الأولى.
ولكن ـ من يصدق هذا ـ لا أرغب أن أنتهي. ولا تحسبوا هذه الرغبة إصرارًا على الحياة ـ وأنا مصرٌّ على الحياة. لكنني اليوم قضيته مع صديقين ظلا يتكلمان بلا توقف، وأنا طوال الطريق أسبقهما أو أتأخرعنهما، فقط لكي لا أشارك في الكلام والآن أرغب فيه وأتبين  أنه لذيذٌ لأنه الفعل الوحيد ـ تقريبًا ـ الذي ليس فعلا بجد.
قال أحدهما للآخر: افهم يا ابني أنا على حق.
كان المتحدثُ قد مات ثم عاد مرة أخرى إلى الحياة. وبحكمة رجلٍ ألمَّ بالحياة والموت يتكلم، وينقل هذه الحكمة:
ـ اسمع كلامي فقط ولن تندم.
ويطلب منه أشياء كان سيفعلها من نفسه. فالمستمع هو الآخر ليس ساذجًا وليس معنى أنه لم يمت بعدُ أنه غير صالحٍ للحياة. إطلاقا. على العكس. إنه يقول هو أيضا. وأنا بين حين وآخر أجد نفسي معهما وأيضا مثلهما أعرف كل شيء بدايةً من الطريق إلى البيت وحتى الطريق إلى القبر. وأحيانا أقاطع نفسي.
قالت: أعرف أن هناك عمودًا من الأسمنت قريبًا جدًا، وزجاجاتٍ فارغةً ودجاجًا على سطح البيت المجاور، ونخلةً تتخامه وبيوتًا حتى آخر المدى، أعرف تقريبا كل ما وراء النافذة، ومع هذا أفتح النافذة كل صباح، نوع من الأمل. الأميرة تأكل. نوع من الأمل. تفتح الراديو. تنظر في المرآة. تستيقظ. ترد التحية. تصغي إلى النكتة.
وحين تغني الأميرة لا ترفع صوتها، ولكن بصوت خفيضٍ خفيضٍ، حتى أنها أحيانا تكتفي بالكتابة.
أحيانا أعرف أن السكون هو أقصى سرعة ممكنة وأن الدوران ـ كما أعرفه ـ لا يكون حول شيء. أحيانا يكون لي رأي في الفيزياء. وأحيانا أعرف أنني أصبت حين جلست هنا، على سور مرتفع، ما أمامه مطابقٌ ـ تقريبا ـ لما خلفه لا يقل عنه ولا يزيد. أحيانا أعرف أنني أستطيع النزول وأستطيع العودة وأستطيع البقاء، وأريد دائما الاختيار الذي لم يُعرض عليَّ. هكذا يكون هناك دائمًا اختيارٌ آخر وإن لم نسمِّه بعد. نوع من الأمل.
الأميرةُ مشغولةٌ جدًا. نوعٌ من الأمل. منهمكةٌ. تحبُّ. تعمل. تعاني أزمات وجود. تفكر في الميتافيزيقا والجنس. تتابع الإصدارات المهمة. تدرس لغات جديدة. تترجم عن لغة تعرفها لناس لا يعرفونها (لا أقصد اللغة). الموسيقى. الرواية. المغامرات العابرة: ركوب أتوبيس لم تر رقمه مثلا. تُخرج فساتينَ قديمةً تقلِّب جيوبَها.
أقول للأميرة:
ـ قردٌ على ظهر سلحفاة، يفكر، ينظر نحو السماء كأنه فوق مركب، تمشي به باتجاه شجرة جوز، حين تصل إليها يكون موسم الإثمار انتهى (أنتظر أن تضحك الأميرة) والجوزُ كله على الأرض، تقف السلحفاة فينتبه القرد يكسر جوزة يشربها ويكسر جوزة للسلحفاة. ألم يغسل القرد رجليه يا أميرة واحدةً واحدة.
والأميرة تسمع. تفتش في حقيبتها وتسألني
ـ معك عملة؟
وتقف أمام كابينة في الطريق وتدخل العملات واحدة بعد واحدة وأنا بعيدٌ أتحايل كي أستمع. الأميرة تصغي. (هل لا بد أن أتبع كل فعل من أفعال الأميرة بـ نوع من الأمل) تصغي. تغمض عينيها. تسدُّ أذنها بإصبعها. تكف عن التنفس. الأميرة الآن أذنٌ ملتصقةٌ بسماعةٍ، متشبثةٌ بها. الأميرة وجهُها لا يعكس أي تعبير.
وأنا بينما أراقبها، بينما منهمكٌ في ذلك، بينما أتمنى أن أسمع مثلها، أحاول أن أرتب كلمات، أن أجد مفرداتٍ عجيبةً وأخرى عاديةً، هذه تساند تلك، لأن الطريق لا يزال طويلا، ولا بد أن يطول أكثر.
ـ اسمعي.
كنا في وسط المدينة. وقفَتْ أمام فاترينةٍ داخلها تلفزيون داخله صورتنا قالت: نحن هنا.
والتفتتْ : ها؟ أسمع ماذا؟
كانت الكاميرا التي لا بد في مكان قريبٍ لم تزل تظهرنا على شاشة المحل.
ـ ليس ثمة من حولنا بحيرةٌ يا أميرة. لا شيء من حولنا. تعالي أقبلك. امنحيني شفتيك نرحل عن هذه المدينة.
ضحكتْ. وأعرف سوف توافق. وفور أن نبدأ قبلتنا سيبدأ رذاذٌ خفيفٌ لن نحسَّ به لكنه سيجعل الناس يفرحون بنا ويتكلمون عنا طوال طريقهم. ونحن؟ ننتهي هكذا؟
لا. بل أواصل. من هنا. من هذا المكان الاعتباطي. وهنا..
يمكن أن تُولَدَ بجعةٌ لم تكن ـ بالضرورة ـ أميرةً مسختها ساحرةٌ تكرهها. بل هنا، وفي هذه اللحظة تولد بجعة، بيضاء، تكمن وسط الشارعِ مفزوعةً وساكنةً، فيما تمرق العرباتُ فى الاتجاهين مسرعةً كأنها رصاصاتٌ لونيةٌ (سأتابع الصورة) تخطئ جميعًا هدفَها (سأواصل التتبعَ) الذي هو غامضٌ وغير موجودٍ أصلاً، أو هو فتاةٌ لا تعرف أي لغةٍ وتمرر إصبعها على غبار منضدةٍ من رخام.
وهنا، وعندئذٍ، أسمع ما يدور في ذهن الأميرة، أثناء هذه القبلة.
كان يمكن أن أكون راقصةَ باليه. أوجد فقط حين توجد الموسيقى، وأغيب بغيابها. لا أحمل مفاتيح في يدي ولا أضع شيئًا على الأرض. في عالمٍ واضحٌ ومعلَنٌ أنه مؤقتٌ وأنه زائلٌ وأن المقصود منه الإمتاع. لا بيت أملكه ولا تملكني فكرةٌ، بل أنا نفسي فكرةٌ في طورها الأخير، أو أنا ـ ما دمتَ تحبُّ هذه الانحرافات التعبيريةَ ـ حلمٌ تحقق والأميرةُ تسمعُ ما يدور في ذهني أثناء هذه القبلة الخيالية
لا شيء. لا شيء بوضوح. لا شيء بدقة. لا شيء بصورة نهائية. لا شيء.
يبدو أني خرجت. وأن الخيمة التي (لماذا أتذكرها الآن، وأنا ذاهبٌ) من الكحول والتي توجد دائما حيث أوجد تنقشع، تتبدد، ومع أنني أعرف أن لا جدوى من الرتق إلا أنني أغمض عيني. أستعيد لحظة كانت الخيمة تحيط بي (هل حدث ذلك قط؟) كأنها جلدي. أغمض عيني. نوع من الأمل. إننى أنتهي. لا أقصد أني أموت. أقصد أني أنتهي. لولا أشعة ملونة. لولا ذبذبات. لولا أحلام تنتظر أن أنام. لولا بياضٌ متاح دائما وسافر التحدي. 


نشر هذا النص في هذا العدد من مجلة نزوى