لا أعرف فعلا، وقد أوشك
2011 على الانتهاء، إن كان عمري قد ازداد به عاما أم قل عاما؟ بل لا أعرف إن كنت
أتكلم عن عام أم أعوام لا أملك لها حصرا؟
***
قبل أيام كنت وصديق نتكلم
عن "1984" لجورج أورول. وقيل على لساني إن أورول ـ فيما يبدو لي ـ وقع
في غرام الاستبداد الذي كتب عنه، يبدو أنه انبهر بدقة النظام القمعي وإحكامه إلى
حد أنه لم ينتبه إلى نقطة ضعفه. فالرواية تنتهي ببقاء هذا النظام، قويا حاكما
طاغيا، أما مؤامرة هدمه التي توهم بطل الرواية أنه شريك فيها، فإنها لا تتمخض إلا
عن خدعة يستخدمها النظام ليكشف بها أعداءه.
قلت إن ذلك "قيل على
لساني". لم أقل إنني أنا الذي قلت هذا الرأي. فالشخص، أو التركيبة التي اعتدت
طول عمري أن أعنيها حينما أقول "أنا" لم تكن لتنطق برأي كهذا.
"أنا" الذي
عرفته طوال سنوات وسنوات، كان يؤمن أن الفن لا ينبغي أن يعنى بتقديم حلول، وأن
الفنان لا ينبغي أن يشغل نفسه بما يجدر بالسياسي أن يشغل به نفسه، أو المصلح
الاجتماعي، أو الواعظ، أو قائد الجماعة السرية المناضل. حسب الفن والفنان تعميق
السؤال، بل حسب الفن والفنان نشدان الجمال والمتعة، وكفى بهما وأنعم وأكرم.
فمن هذا الـ
"أنا" الذي تكلم عن ضيق رؤية أورول ومحدوديتها؟ أهو أنا فعلا؟ لا، وإنما
هو وليد جديد، لم يولد إلا في هذا العام العظيم.
يؤمن "أنا"
الجديد أن بوسع الفرد ـ لا الملايين ـ أن يحدث فارقا، أن يغير مسار التاريخ إن
شاء. ذلك أنني لم أر في التحرير "شعبا" بل "أفراد"، بلا زعامة
ولا قيادة. إنما هم أفراد، ربما يشعرون بغضب واحد، ولكن كلا منهم يعبر عن غضبه
بطريقته، الفريدة، والشخصية. وإن نقطة الضعف الكبرى في نظام "1984"
الاستبدادي أنه حاول أن يمحو هذه الفردية، هذه الفرادة التي في كل إنسان، والتي لا
بد أن ينتبه كل إنسان في لحظة ما من حياته إلى أنها أغلى ما لديه، وأنه من دون هذه
الفرادة لا شيء، وأنه قد يضحي بحياته نفسها فقط من أجل الحفاظ على حقه الإنساني في
الاختلاف.
***
في المرحلة الثانوية، كان
يجاورني في الفصل صديقان، أصبح واحد منهما الآن ضابطا في الجيش. لا أعرف إن كانا
يتذكران حوارا دار بيننا ذات يوم قبل أن يلوح في الأفق سيناريو توريث مبارك الحكم
لابنه، بل قبل أن يخطر هذا السيناريو على عقل مصري. قلت لصديقي هذين: لو حدث أن
جاء الحاكم القادم لمصر عسكريا فسأترك مصر ولن أرجع إليها.
ذلك "أنا" في
الثانوي.
***
وذات يوم، وكنت في
الجامعة، أقيمت ندوة على مقربة من قريتي، وكان المحاضر فيها صحفيا صديقا له اهتمام
كبير بالتأريخ للمقاومة الشعبية في مصر على مدار تاريخها. وفي مداخلة عقب انتهائه
من كلامه الحماسي (الحنجوري ـ كما بدا لي في وقتها) قلت: عن أي تغيير نتكلم؟
التغيير الذي أفهمه لا يبدأ إلا من الرأس، من العقل. والتعليم والإعلام والثقافة
في يد النظام، فكيف نتوقع من نظام حاكم أن يشكل في الناس وعيا يطيح بهذا النظام؟
قلت: التغيير الوحيد الممكن في تصوري، هو أن يعمد فرد مثلي حينما يكون له أبناء،
إلى أن ينشئ فيهم هذا الوعي. وهذا حسبي. وهذا مدى قدرتي أنا على التغيير.
هذا "أنا"
الجامعة.
***
وأعمل. وأزداد اقترابا من
الوسط الثقافي.
وبدأت ميولي وانحيازاتي
تظهر لأصدقائي الجدد. وحدث أن حاول أحد هؤلاء الأصدقاء تجنيدي لمنظمة سرية
اشتراكية. قلت له: أنا شاعر، مهمتي التي أعرفها هي أن أترك هذا العالم أكثر جمالا
مما كان عليه، وطريقتي الوحيدة للقيام بهذا هي أن أكتب شعرا.
هذا "أنا" الذي
خرج من الكلية إلى وسط البلد، وسط مدينة القاهرة. هذا هو "أنا" الذي ظل
لسنوات يذهب كل خميس إلى نقابة الصحفيين، وكم من مرة أعاقته مظاهرة على سلم
النقابة فلم ينظر إليها إلا في سخرية أو في أحسن الحالات في إشفاق.
***
فمن هذا الذي يأخذ على
أورول أنه لم ير في روايته نقاط ضعف النظام وربما سبل تغييره؟ وكيف جاء إلى الحياة
بهذه السرعة كأنه كان كامنا وراء قناع أشد هشاشة من نظام مبارك؟
***
"أنا" الذي
عرفته قبل 2011، كان يرى في الثورية نزقا، مراهقة، أمرا يتناقض مع ما ينبغي أن
يكون عليه المثقف من برودة في التلقي، وفي التحليل، وفي العرض. ويرى فيها أنها
تلغي المسافة التي ينبغي أن يحافظ الشاعر على بقائها فاصلة بينه وبين العالم ليراه
بصورة لا تتهيأ للثوريين والعوام سواء بسواء.
فهل نقص عمري بمرور 2011
عاما أو أعواما فارتددت ذلك المراهق الذي كنت أسخر منه؟ أم ازداد عمري بمروره عاما
أو أعواما فعلمت أن الثورية موقف وجودي، لا موقف من مجرد سلطة؟
***
أريد فقط أن أوضح أنني لم
أقض من أيام الثورة المصرية المجيدة أي يوم داخل مصر. لقد كنت في مسقط طوال هذا
العام، اللهم إلا شهرا من الصيف قضيته في مصر سائحا أكثر مني مواطنا. ولكن ذلك لا
يعني بأية حال أنني لا أعتبر نفسي جزءا من الثورة، بل أعتبرها أهم وأجمل وأمجد
وأنبل ما حدث في حياتي. برغم أنها كانت ثورة ضدي أنا من جملة ما كانت ضده. ولو
أنها لم تكن ضدي، فكيف قضت عليَّ، لتخلقني هذا الخلق الجديد؟
نعم أرى نفسي ثائرا من
الثائرين، وإن لم أدخل التحرير إلا زائرا، حاجا، مطأطئا رأسي إجلالا للأحياء من
الثائرين مثلما للشهداء، لمن يوصمون بالبلطجة منهم مثلما للذين يقال إنهم أولاد
الناس. وما أحسبني ممن (يركبون) الثورة حينما أعتبر نفسي ثائرا. الأمر أنني التقطت
العدوى، ولم يكن لي خيار في هذا، صرت بين عشية وضحاها أحب بلدي، وأعتز به، صرت
متفائلا بمستقبله، مصرا على امتلاك حاضره، صرت أرى المجمع العلمي يحترق فأقول: نحن
بنيناه ونحن سنبنيه، نحن لا نزال موجودين وهذا هو المهم. صرت لا أخاف أن أكتب جملة
كهذه دونما تأكيد على فداحة خسارتنا ـ أو حتى خسارتي الشخصية ـ في حريق المجمع؟
صرت لا أخاف لا الإسلاميين ولا العسكر، ولا أقول لهم إلا "من أنتم؟ من أنتم؟
ألم تروا كيف فعل شعبكم بأصحابكم؟ ألا ترون أنهم الآن بين سجين وذليل؟".
***
ترى كم مصريا الآن ينظر
إلى نفسه في المرآة فلا يرى ما كان يراه طول عمره؟ لا بد أنهم كثيرون، ولا بد أن
هؤلاء لن يسمحوا بأن يكون ما بعد 2011 كالذي كان من قبله؟
نشرت في الثقافة الجديدة
فبراير 2012