Sunday, February 24, 2008

ماري هاسكل بنت الـ A ...

بسبب زواجي قبل حولين شبه كاملين، غيرت 179 درجة جميع مفاهيمي بخصوص المرأة، وقضية المرأة، ولم يبق من مواقفي القديمة إلا واحد: هو الرفض التام لتعدد الزوجات، وإن تغيرت أسبابي بهذا الخصوص. إلى أن تعرفت منذ أيام على ماري هاسكل: ناظرة مدرسة بوسطن الثانوية للبنات، امرأة عصرية بجد، تحب الحمام البارد، وتصف نفسها بأنها تقدمية، وترفض تضييع وقت بناتها ـ تلميذاتها ـ في دراسة اليونانية واللاتينية، مؤثرة لهن دراسة التشريح والأحداث الجارية. ومن مزايا هاسكل، أنها امرأة اقتصادية أيضا، فالطباخة التي تعمل عندها في المدرسة تعمل بعد الظهر عند بعض الأثرياء، وماري تجعلها تسرق لها طعام الأثرياء لتستمتع به، وتوفر فلوسها. وماري لا توفر فلوسها لسبب تافه، ولكنها تنفق هذه الفلوس على آخرين: ماري تدفع مصاريف المدرسة الداخلية لصبي يوناني ينتمي إلى أسرة من المهاجرين الفقراء، وتدفع مصاريف الدراسة في هارفرد لشاب آخر هو أيضا يوناني مهاجر. وماري واحدة ست هبلة. ولذلك أحبها "حبا جما" كما يقول القرآن الكريم في سياق غير "مغاير" كما يقول المثقفون.
***
ماري ماري يا بنت الإيه ... إنتي هبلة واللا إيه هذا الشعر الجميل كان أول ما كتبه جبران خليل جبران ولكنه لم ينشره. واهتم بدلا من ذلك بنشر شعره النثري السخيف كما في كتاب النبي. جبران غريمي في حب ماري هاسكل. لذلك فقد حرفت شعره الأول الجميل هذا إلى شعر أجمل منه: ماري ماري يا بنت الـ A ... إنتي طعمة كده ليه فهكذا تفهمني ماري لأنها أمريكية لا يمكنها أن تقرأ بالعربية. ومع ذلك، ومع أنني أراعي الفارق الحضاري بيني وبينها، إلا أنها كتبت في مذكراتها تعليقا منحازا لجبران؛ كان جبران قد قرأ عليها فقرات من كتاب له، فكتبت تقول إن "الغيب تحلق حول روحي وتكاثف، وتوافدت الأضواء والأصوات آتية من فضاءات بعيدة وأزمنة سحيقة، منبعثة من المركز إلى الأطراف، حتى امتلأت وفاضت عني قوة الحياة". انظروا إلى نبل تعليق هاسكل على تجربة الاستماع إلى "تلاوة" جبران، مع أن الكتاب الذي قرأ لها منه كان باللغة العربية، وهي لم تكن تفهم حرفا من تلك اللغة كما يتضح من مذكراتها. ربما لأن جبران مسيحي وأنا مسلم؟؟؟؟
***
ماري أكبر من جبران بتسع سنوات، ومني أنا بـ 153 سنة. وحين تعرفت على جبران بدأت تصرف عليه فلوسها، ولا أعرف هل أثر ذلك سلبا على الجالية اليونانية في أمريكا أم لا، ولكنني على أية حال لم أجد مصدرا يشير إلى رد فعل سلبي من أبناء الجالية. المهم أن ماري هاسكل لم تكتف بالصرف على جبران في حدود المعقول، بل لقد أرسلته إلى باريس ليدرس الفن، وحينما رجع، قال لها إنه يريد أن يذهب إلى نيويورك، فأجرت له شقة هناك، وبقيت هي في بوسطن. وظلت هي التي تدفع الإيجار. صرفت عليه في بضع سنوات حوالي سبعة آلاف دولار، أي حسبة حوالي 150 ألف دولار بفلوس اليوم ـ وذلك وفقا لحسابات واحدة أمريكية سأقول لكم اسمها فيما بعد. في البداية كان جبران يكتب بالعربية، ثم قرر أن يكتب بالإنجليزية، بعد أن قضى سنتين في نيويورك، فأرسل إلى ماري، فذهبت إليه، وهي التي تجاهلت دعواتي للمجيء إلى مسقط، حتى جعلت رقبتي قد السمسمة أمام ناظر المدرسة المصرية هنا والذي كان قد وافق مشكورا على أن يخصص لها جدول. عموما، في نيويورك، بدأت ماري تراجع لاسم النبي حارسه كتاب "النبي"، وعندما بدأ الشغل الجاد في الكتاب، كان جبران يفكر وهي "تجد العبارات". ولن أزيد. هناك تفاصيل تتعلق بسمعة ناس ـ جبران يعني ـ لكنها جميعا واردة في كتاب لرجل اسمه روبن ووترفيلد صدر منذ عشر سنوات، وهناك تفاصيل كافية في مقال لكاتبة اسمها جوان أكوسيلا نشر قريبا في ذي نيويوركر، وقريبا سأنشر ترجمته في مكان ما، قبل أن أنشره في مدونة قراءات العظيمة. ولكن المهم الآن، أن ماري حين انتقلت إلى نيويورك لم تعش مع جبران في الشقة التي تدفع إيجارها، وهذا رحمها من حكايات جبران التي كانت تسمعها وتدونها في يومياتها دون أن تحكم عليها.
***
لقد قال لها اللبناني الأفاق بين ما قاله إنه توصل بالحدس إلى النظرية النسبية قبل أينشتين، ولكنه لم يدونها، وأن الهواء امتصه آلاف المرات كقطرة من الندى فـ "صعد إلى الغيوم، وسقط مع المطر ... وكنت صخرة أيضا، ولكنني الآن أقرب إلى شخص من هواء". وحكى لها أن المسيح كان يزوره في الحلم ويحكي له الحكايات التي نسي كتبة الإناجيل أن يدونوها. لقد كان اللبناني السكير يرفض مواقعة ماري ويقول لها إن صداقتنا "جماع دائم". وكان ـ لا أعرف كيف أقولها دون أن أجرح مشاعر ماري ـ كان، كان يعرف عليها نساء أخريات، بس. وماري، ماري هاسكل، بلهاء أمريكا الجميلة، كانت تريده أن يعلن على الملأ أنه يحبها "فذلك أعظم شرف يمكن أن أحظى به" ـ الكلبة ـ في حين أنه لم يكن يعرفها بأصحابه، أصلا. ومع ذلك، حينما بدأت تراجع مخطوطاته، كفت عن مطالبته بالزواج، أو إعلانها حبيبة له، أو حتى بحق لها في فراشه، واكتفت بأن تكون كاتبة كتبته، أو محررتها، وبدون معارضة من جبران، تزوجت من قريب ثري لها سنة 1926. والآن لا بد أن هذا القريب مات، وجبران نفسه مات سنة 33، خلا الجو إذن، وأنا أفكر في ماري أكثر من أي شيء آخر، وأفكر في أن ما بيني وبين تغيير مواقفي تماما ليس سوى درجة واحدة، وأفكر في ابني، وماذا سيقول عني حينما يكبر، ويجد أنني خطفت المرأة التي كان سيتمناها لنفسه كأي رجل انتهازي جميل.