من كان معي في المدرسة
الإعدادية فلا بد أنه لا يزال يكرهني إلى الآن، ويكره الشعر، والشعراء، وأيضا
القمر. كنت في صباح كل يوم أقف في طابور المدرسة لأقرأ
على زملائي قصيدة، ودائما بعبارة محددة، قصيدة اليوم بعنوان، أو قصيدتي اليوم
بعنوان إن كانت القصيدة من تأليفي. ربما في الصف الثاني الإعدادي كنت أقرأ ديوانا
لشاعر اسمه شيء ما عبد الرحمن صان الدين، كان شاعرا عموديا، وكانت له قصيدة مطولة
عن القمر ظللت أقرأ منها كل يوم مقطعا، حتى سئم جيل كامل من سيرة القمر. وذات
صباح، وكنت قد انتقلت إلى شاعر آخر لا أدرى إن كان صان الدين أم انتهكه، فوجئت بمدرس
لم أحبه ولم يحبني حتى انتهيت من الثانوي اسمه "صبحي بركات"، مدرس عربي،
قال لي اقرأ اليوم قصيدة طويلة لأن ماعندناش حاجة في برنامج الإذاعة النهارده، لم
تكن معي أي قصائد طويلة، ذهبت إلى البيت القريب من المدرسة وعدت بقصيدة القمر،
ويومها قرأتها كاملة، وانفعلت في قراءتها، وربما تبين البعض ما يشبه البكاء في
صوتي عند نهاية القصيدة، وما أن انتهيت حتى صفق شخص ما، تبين أنه مدير الإدارة
التعليمية، وتبعته بقية المدرسة، وبعد الإذاعة قال لي صبحي إنني كنت
"متجلي" بسبب وجود مدير الإدارة. كانت القصيدة تنتهي هكذا:
يا أيها القمر
المتوج فوق عرش الليل يونقه محياك الأغر/إني على عهد الوفاء وإن تغيرت المشاعر حول
كنهك والفكر/هم ينظرون إليك نظرة تاجر وأنا بعين الشعر أنظر يا قمر.
كل هذا مبرر لأقدم
لكم هنا قصيدة ترجمها إلى الإنجليزية دبليو إس ميروِن لا أدري عن أي لغة، وإن كنت
أميل إلى أنها مأخوذة من أدب سكان أمريكا الأصليين وأساطيرهم، فلهؤلاء القوم
مجموعة أساطير بديعة تفسر نشأة الكون:
خلق القمر
نحر الرجل نفسه فاصلا رأسه فمض
البقية يحضرونه. وحين وصلوا إليه وضعوا الرأس في جوال.
بعدئذ سقط الرأس
على الأرض. فأعادوا الرأس من جديد إلى الجوال.
بعدئذ سقط الرأس
على الأرض من جديد. وضعوا الجوال الأول في جوال ثان كان أكثر سمكا.
ولكن الرأس سقط كما
سقط من قبل. ربما السبب في ذلك أنهم كانوا يأخذون الرأس ليعرضوها
على الآخرين. لم يعيدوا الرأس من جديد إلى الجوال.
تركوه في عرض
الطريق. ومضوا بعيدا.
عبروا النهر.
ولكن الرأس تبعهم.
تسلقوا شجرة عامرة
بالثمار ليروا إن كان سيمضي في طريقه. لكن الرأس توقف أسفل الشجرة وطلب
منهم ثمرة. فهز الرجال الشجرة.
ثم طلب منهم المزيد.
فهز الرجال الشجرة حتى
تساقطت الثمار في النهر قال الرأس إنه لا يستطيع أن يحضر الثمار من هناك.
فألقى الرجال
الثمرة بعيدا ليجعلوا الرأس يبتعد ليحضرها فيمكنهم الذهاب.
وبينما الرأس كان
يحضر الثمرة نزل الرجال عن الشجرة وواصلوا السير.
عاد الرجل ونظر إلى
الشجرة ولم ير أحدا فمضى يتدحرج على الطريق.
توقف الرجال لكي
ينتظروا لكي يروا إن كان الرأس سيتبعهم. رأوا الرأس قادما يتدحرج.
فجروا.
بلغوا كوخهم
وأبلغوا الآخرين أن الرأس يتدحرج خلفهم وأن يغلقوا الباب.
أغلقت أبواب
الأكواخ جميعا جيدا. فحين وصل هنالك، أمرهم الرأس أن يفتحوا الأبواب.
فلم يفتح أصحاب
الأكواخ لأنهم كانوا خائفين. فبدأ الرأس يفكر إلى أي شيء
يتحول. لو تحول إلى أرض فسوف يسيرون عليه.
لو تحول إلى بيت
فسوف يعيشون فيه. لو تحول إلى عِجل فسوف يقتلونه ويأكلونه.
لو تحول إلى بقرة
فسوف يحلبونه. لو تحول إلى فولة فسوف يطبخونه.
لو تحول إلى شمس فحين
يشعر الرجال بالبرد سوف تدفئهم. لو تحول إلى مطر فسوف ينمو به
العشب وتأكله الحيوانات. ففكر وقال "سأتحول إلى قمر"
وصاح "افتحوا
الأبواب، أريد أن آخذ أغراضي" فلم يفتحوها.
بكى الرأس. وصاح
"أعطوني على الأقل بكرتي الخيط" فألقوا إليه بكرتيه من فتحة.
فأخذهما وألقى بهما
إلى السماء. طلب منهم أيضا أن يلقوا إليه بعود صغير لكي يلف
الخيط حوله فيمكنه التسلق. ثم قال "بوسعي أن أتسلق،
أنا ذاهب إلى السماء". وبدأ يتسلق.
فتح الرجال من
فورهم الأبواب. والرأس مضى يتسلق.
صاح الرجال
"أذاهب أنت إلى السماء أيها الرأس؟"
فلم يجب.
وما أن حاذى الشمس حتى
تحول إلى القمر. وما أن أقبل الليل حتى كان القمر أبيض، وكان
جميلا. واندهش الرجال إذ رأوا الرأس وقد تحول إلى قمر.
والآن، كيف تمكنت بالأمس من
كتابة حلقة عن هذه القصيدة في برنامج للإذاعة العمانية "أصوات من هناك"؟
في البداية تكلمت عن دبليو إس ميرون، وقدمت النص لافتا النظر إلى احتمال أن يكون
من أساطير الهنود الحمر، ثم قدمت الترجمة، ثم كتبت ما يلي:
قد تكون هذه أسطورة
من أساطير سكان أمريكا الأصليين أو لا تكون، قد تكون أسطورة من أساطير أي شعب،
ولكن المؤكد أنها محاولة خلاقة لتفسير الكون في لحظة لم يكن الإنسان قد ابتكر فيها
ما يعنيه على رصد القمر كما تُرصد الجراثيم اليوم فيعرف أنه بعض من صخور قاع
المحيط الهادي التي انفصلت عنه في إحدى ألعاب الجيولوجيا التي تمت قبل مجيء
الإنسان، حين كان بوسع الطبيعة أن تلهو. قد تكون أسطورة أي شعب أو عرق
أو سلالة، ولكنها في نهاية الأمر كانت تؤدي وظيفة لا يزال الإنسان بحاجة إليها،
كانت تطمئن هؤلاء البشر الذين لديهم على الأرض ما يكفيهم من المخاوف إلى أن هذا
الجرم الناظر إليهم من أعلى ليس أكثر من زميل لهم، لكنه صعد إلى أعلى على إثر خلاف
ما، تماما كما يفسر العلم صعود القمر بلحظة مجون جيولوجية قديمة. محاولة أخرى
لطمأنة الإنسان إلى أن القمر هو الأرض ولكن في مكان آخر.
لكن أجمل ما في هذه
الأسطورة في ظني هو أنها تنفي عن القمر رومانتيكيته التي سيلحقها به الشعراء على
مدى أجيال لاحقة. القمر هنا شيء بلا قيمة مطلقا، لا هو مانح للدفئ، ولا صالح للأكل
أو السكنى، معلق بلا معنى، لا أحد يلتفت إلى إنارته لليل خاصة وأنه لا يلزم نفسه
بهذه الوظيفة بحيث يمكن الاعتماد عليه، ثم هو أساسا طار من فرط الحقد، على عكس ما
سيحدث بعد آلاف السنين لإحدى بطلات ماركيز.