بدوت لنفسي مرة وكأنني شخص يحفر في الكيبورد فلا
يخرج منه بما يرويه. كانت اللعبة على "ما يرويه"، تلك التورية التي لا
يبين إن كان المقصود بها التخلص من الظمأ أم القص. يستطيع كاتب عاطفي أن يبني على
هذه التورية مقالا مطولا، أو فقرة واحدة ـ لو كان عنده ضمير ـ عن الكتابة الراوية
للظمأ، الكتابة الضرورية للكاتب مثلما الماء ضروري لحياة الإنسان. صديق قال لي مرة
إنه يكتب لكي يتوازن. ولم أصدقه. ليس فقط لأنه شاعر يكتب بالعامية في حين بدت
العبارة أفصح مما ينبغي له. ولكن لأنني لا أصدقه. وهذا يدمر العلاقة المعجمية بين
الصداقة والصدق والتصديق ويجعل من الممكن جدا أن نحذف عبارة "الصديق
الصدوق" أينما نصادفها ونضع بدلا منها بنج بونج أو هونج كونج أو أبراكادابرا.
هو صديقي طبعا. وصديقي جدا. ولكن العلاقة قائمة على أن لا أصدقه، وأن لا يهتم
بذلك. سبب آخر جعلني لا أصدقه: أن الجملة بدت صادقة في حالتي. ربما منذ ابريل
الماضي لم أكتب أي شيء. فقط بدايات قصائد، وفقرات من روايات، وترجمات ترجمات
ترجمات. يقترح الكمبيوتر أن أحذف اثنتين من كلمة ترجمات. يظن أن هناك خطأ ما. يظن
أن هذه الـ ترجمات أكثر من اللازم. ومع أن عنده حق، إلا أنني لا أستطيع أن أحذفها.
لأنها حدثت فعلا، ولأنها كان ينبغي أن تحدث. كان ينبغي أن أترجم عن حرب إسرائيل مع
حزب الله، وإعلان أحمدي نجاد فتحه النووي، وتجربة كيم إل يونج النووية، وفوز باموك
بنوبل، وخلافة أنان في الأمم المتحدة، وأن أترجم عن الدادية أو الدادائية أو
الداديزم، وعلاقة العرب بالهولوكوست، وعن شاكيرا، ونيكول كيدمان وأوبرا وينفري
وأخيرا شارون ستون لأنها ـ بحسب ما بلغ رئيس قسم الترجمة في الجريدة ـ سوف تشارك
في حفل تسليم جوائز نوبل. كان لا بد من كل هذه الترجمات. كان بهاء طاهر ذات يوم
مذيعا في البرنامج الثاني الذي أصبح وأنا في ثانوي البرنامج الثقافي، وكان قد
استضاف إدوار الخراط وسأله إن كان يكتب شيئا جديدا، فقال الخراط إنه دائما في حالة
كتابة، ليس شرطا أن يحرك القلم على الورقة، ولكن ينداح في الشوارع اندياحا، ويصفي
التجارب تصفية، لتختمر بداخله اختمارا، فما كان من بهاء إلا أن قاطعه مقاطعة،
قائلا أقصد هل أنت عاكف الآن على كتابة بالمعنى المعروف للكتابة فقال إدوار لا.
كان في الستينيات، ولم يكن قد أصدر في ظني إلا حيطان عالية. أنا أيضا لم أصدر شيئا
بعد. هناك ديوان صدر في طبعة محرجة، ورواية صدرت في طبعة محرجة، وديوانان قيد
النشر، يتناقص اقتناعي بهما يوما بعد يوم، وبضعة كتب مترجمة لا أحترم منها إلا
الأخير، ولفترة مؤقتة أيضا. وتوقفت. ليس أول توقف في حياتي. ولكنه الأبشع. لأنه
الحالي. ربما لذلك فكرت في هذا البلوج. بتأثير من البلوك، أو النضوب، أو التوقف عن
الإبداع، الانسداد الذي يحدث للكتاب بين الحين والآخر. آملا أن تكون العلاقة
المعجمية بين البلوج والبلوك أقوى من مثيلتها بين الصداقة والصدق أو بينج بونج.
باختصار كنت في إعدادي، وكان لي صديق يسكن جنب الجامع، وأمام الجامع كانت الترعة،
وبجوارها مضخة مياه لا مثيل لها في القرية، تأتي النساء لتأخذ منها ماء للشاي،
فكنت أذهب وصديقي لنجلس على سلم الجامع، وكلما لمحنا من بعيد امرأة قادمة، نقوم
إلى المضخة ونتلكأ بجوارها إلى أن تصل المرأة لتملأ، وننتظرها نحن إلى أن تنتهي،
أو نضخ بدلا منها، لنرى نهديها. منذ بضعة أشهر كنت في القرية ولاحظت رجلا يبيع
الماء. سقا في قرية لم تعرف في تاريخها هذه المهنة. سقا برغم أن مياه الحكومة
العكرة واصلة إلى البيوت منذ وعيت على الدنيا. وليته يأتي بالماء من مضخة الجامع،
بل من قرية مجاورة !!!! ما علينا لكي تعمل تلك المضخة التي ربما لم يعد لها وجود
أمام مسجد الرحمة، كان لا بد من إلقاء بعض الماء في فوهتها أولا، لتحريك المسائل
فهل يكون هذا البلوج هكذا؟ دعواتكم!