Thursday, September 04, 2025

دروس محمد عبدالنبي في القصة والحياة

 

دروس محمد عبدالنبي في القصة والحياة






يبدو كثير من كتاب القصة الآن فقراء حكائيا، فهم يتسولون ما يبرِّر نصوصهم، ويحاولون بألعاب شكلانية أو زخارف لغوية إلهاء قارئهم عن حقيقة ـ بل خيبة ـ أن القصص التي يقدمونها ليست "قصصا" حقا. ولكن قارئ أحدث مجموعة قصصية للمصري محمد عبد النبي، وهي "سهرة درامية" (دار المحروسة - 2024)، يجد كتابا عظيم الامتلاء بالحكايات، عظيم السخاء بها، بل إن سخاءه يجاوز الحكايات إلى حد منح القارئ سر الصنعة القصصية نفسه، فكأن "سهرة درامية" ورشة من ورش تعليم الكتابة القصصية التي تخصص فيها عبدالنبي في السنين الأخيرة.

يوشك قارئ هذا الكتاب أن ينتهي منه إلى أن القصة أمرها هين، فكل ما على المرء هو أن يشرع في الكتابة عن أي شيء، وسيخرج عاجلا أم آجلا بقصة ما، قد يتعين عليه لاحقا أن يحذف مها زوائد، من قبيل المقدمات أو الاستطرادات، ليخلُص إلى القصة، أو أن يكثر من هذه الزيادات لأنها هي القصة. لكن المهم هو أن فعل الكتابة نفسه على الأرجح سوف يسوقه سوقا إلى كتابة عمل قصصي ما. فبطريقة ما، قادتني قصص هذه المجموعة إلى يقين قديم بأن كل كتابة إنما هي بطريقة ما قصة.

بل ويتبين أيضا من قصص "سهرة درامية" أن المرء قد لا يكون بحاجة إلى لغة بليغة مما يعهد في الأدب، فمن الممكن استعمال نطاق عريض من المستويات اللغوية يتسع للعامية الصريحة في الحوار وحتى في السرد، أو للتراكيب العامية المنقولة إلى الفصحى، أو الفصحى المغرقة في التراثية، وهذا وإن نأى عن البلاغة يبقى منطويا على جمال. فلا يجد عبدالنبي ضيرا من القول بأن أمرا ما "تمام جدا معه" أو بأن فلانا "فتح كلاما" مع علان، أو بأسا في استعمال مفردة يندر أن نصادفها في غير شعر الثمانينيات من قبيل الـ"شفيف" أو تركيب ينتمي إلى مرحلة ما قبل الستينيات عند محفوظ من قبيل "لشدَّ ما أحزنه" كذا.

غير أنه يجدر بقارئ الكتاب أن ينتبه إلى أن السهولة البادية في هذه القصص خادعة. فعبدالنبي لا يطلق قلمه على الورق، ليرى ماذا يكون من أمره، وإن بدا أن هذا عين ما يفعله. فكثير من هذه القصص، بل كلها تقريبا، اقتضى على الأرجح إما تفكيرا طويلا للغاية سابقا على الكتابة، أو إعادة كتابة للقصص مرات قبل الاستقرار على نسخها النهائية.

وما يرجح هذا هو أن عبد النبي كثيرا ما يبدأ قصته بنقطة بعيدة عن جوهر القصة التي يريدها، وهذا بناء يصعب أن يسلم نفسه في الكتابة الأولى حتى لكاتب راسخ. في قصة "سهرة درامية مثلا"، يظل الكاتب طويلا منهمكا في وصف حياة البطلة ريم في شيخوختها، وفي صباها البعيد، راصدا علاقتها بالقصر الذي احترق ذات ليلة وبدأت باحتراقه القصة. ويمضي الكاتب مع البطلة في حياتها طولا وعرضا. أما السهرة الدرامية التي قضتها ريم مع فريق التصوير الإخباري الذي جاء لتغطية حريق القصر، أو السهرة الدرامية التي قضتها مع صديق قديم هو والد أحد أعضاء الفريق الإخباري، فلا تحتل من القصة إلا مكانا محدودا، برغم أن قارئا قد يتصورها غاية أساسية للقصة بما أن العنوان نفسه يشير إليها.

يلجأ عبد النبي إلى البداية البعيدة أيضا في قصة "قطعة أويما"، فهو لا يمضي بنا رأسًا إلى قصة المراهق الذي أحب معلمته في المدرسة، بينما أحبت المعلمة النجار الذي يعمل التلميذ صبيا متدربا لديه. لكنه بدلا من ذلك سيضعنا في شقة ذلك التلميذ وقد صار شيخا، ويرينا روتينه، وما يشغله في حاضره، بل ما يلح عليه في هذا الحاضر، سيرينا علاقته بابنيه وبنته المغتربة، وخادمته. سيوهمنا بأن القصة هنا، في هذا الواقع المسلسلاتي، ثم يضعنا فجأة في قلب القصة القديمة.

هذه البداية البعيدة توسع رقعة العالم في كل قصة، وترغم القارئ، أو أنا على الأقل، على الانتهاء إلى أن ما نفترض أنه "جوهر" كل قصة، أو مركزها، إنما يفقد كثيرا من ظاهر أهميته بمحض مرور الزمن، وأن كل شيء تقريبا مما يلح علينا في الحاضر ونرى أنه محور حياتنا، يتكشف بمرور سنين عن واقعة بسيطة، مهما بلغت أهميتها وقت حدوثها، فقصة الغرام المحرم اجتماعيا بين مسيحية هي المعلمة ومسلم هو النجار،  تتحول ـ وإن انتهت بموت مأساوي ونفي مأساواي ـ إلى محض ذكرى لدى شيخ يفاضل بين الخادمات وينشغل بوجبة السمك الأسبوعية، كأن يديه ليستا ملطختين بدم قديم. وهكذا، ينزاح المركز المفترض انزياحا واضحا إلى أطراف القصة التي يبقى محورها الراوي الحي الأبقى من الميت.

***

و"القصة" نفسها بطلة في كثير من قصص هذا الكتاب. ففي قصة "مفاتيح بلا فائدة" مثلا، يمثل النص كله من أوله إلى آخره محاولة ماكرة من راوٍ لتسريب فكرة معينة إلى شاب يوشك على السفر بحثا عن مغامرة أو منفعة، ويحاول الراوي الشيخ بطريقة ملتوية أن يغريه بالبقاء، فلا يجد سبيلا إلى ذلك غير مخادعته بحكاية مثيرة، وواضحة التلفيق أيضا. لا ينبئنا عبد النبي بطبيعة العلاقة بين الشيخ والشاب، مكتفيا بفضح رغبة الشيخ في استبقاء الشاب بجواره، واستعانته على ذلك بالحكاية. كأننا أمام شهرزاد في صورة أخرى، لا تشتري بالحكي حياتها لنهار إضافي، وإنما تشتري رفقة في الحياة. كأننا أمام الشيطان في حكاية السندباد، لكنه بدلا من أن يلف أفعواني ساقيه على سندباد، يلف حوله حبال حكاية. ينثر الشيخ عناصر كثيرة مثيرة، منها رحلة على الإبل في الصحراء هربا من البوليس السياسي، وقصر في الصحراء، وملحق بالقصر فيه أربعون غرفة كلها مباح للراوي عدا غرفة، ويتفنن الشيخ في تعداد مقتنيات هذه الغرف، فيأتي بعضها بديهيا شأن طوابع البريد، وبعضها سحريا: فهو غيوم محبوسة في زجاجات، أو موسيقى مجمدة في إطارات!

وكما لا يجد الشيخ في (مفاتيح بلا فائدة) وسيلة غير القصة لتحقيق مآربه، لا يجد حمدي في قصة "المعطف" غير القص أيضا لاحتمال حياته. في مواجهة واقع عصيب، بسبب وباء كوفيد، فضلا عن الفقر والقهر والفساد، وفي مواجهة الخذلان من الأخ ـ وهو بمنزلة أب صغير لحمدي ـ وفي غياب أي صديق للشاب الذي يمتهن مهنا بسيطة للغاية، يتخذ حمدي من معطف مستعمل صديقا ورفيقا، يتخيل مالكه السابق شابا أوروبيا يقيم في كوخ داخل غابة، وله صديقة لا تحتمل وجودها في حياته ولا تحتمل إخراجه من حياتها. وباختلاق هذا الصديق المتجسد في معطف، يحتمل حمدي حياته هنا في القاهرة برغم كل ما فيها من  مشاق.

وشأن حمدي، ثمة شيخ كبير في السن، هو سراج أو سمير، يتعين عليه في شيخوخته، لكي يشبع فضلة احتياجاته الجنسية، أن يستحضر بالخيال قريبات قديمات. ومثلما يلجأ حمدي وسراج إلى الخيال أو القصة لاحتمال الحياة، ثمة صحفي في قصة "إقامة طيبة"، وهي أجمل قصص الكتاب في تقديري، يهرب من قصة بطل رياضي اختفى إثر حادث إليم، فلا يهرب من القصة إلا إليها، إذ يجد نفسه فى سرير البطل الرياضي القديم الذي يحاول جمع خيوط حياته، ويجد نفسه في قريته، قرية الصيادين على البحيرة، يعيش مع أبويه. هذا الصحفي المصاب بعرج خفيف، ذو الشبه الكبير بوالد الرياضي المختفي، الذي يألف قرية الصيادين منذ أن يضع قدمه فيها، يألف أيضا حياته فيها حتى ليهجر حياته السابقة بالكامل. وإذا بصحفي  عاجز عن إكمال قصة صحفية ينتهي وهو نفسه بطل القصة، أو تجسيد له. هذا فضلا عن إشارات كثيرة تدفعنا دفعا إلى تخيل ملابسات بوليودية لاحتمال أن يكون الصحفي نفسه هو البطل الرياضي ولكنه فقد ذاكرته مثلا أو استعادها أو اضطر إلى هجران هويته ثم إلى التمسح فيها.

والقصة أيضا هي التي تساعد عبدالله في قصة (عبد الله الآخر) على مواصلة الحياة. فبعد أن يتعرض للاعتقال بسبب منشورات في مواقع التواصل الاجتماعي، يتعامل عبد الله مع هذا الاعتقال أو يسوغه لنفسه بأن يتخيل رجال الشرطة عناصر تابعة لوكالة ناسا تصطاد بعض ذوي القدرات الخاصة وتخضعهم لاختبارات قاسية لتجنيد الناجحين منهم في مهمة ما. وهذه التقنية تنجح إلى حد أن يشفق عبد الله على عناصر الشرطة المضطربن إلى القسوة عليه لاختباره!

***

لعل دعوة هذا الكتاب، للقارئ، وأثمن ما يعطيه له هو ضرورة أو على الأقل إمكانية أن يستعين على صعوبة واقعه بالخيال وبالقصة وبارتجال الحكايات. ويوشك عبد النبي أن يقدم لنا دليلا بالخطوات اللازمة لإتمام هذه المهمة، فهو بالفعل لا يمنحنا سمكة ولكنه، ربما بأثر من انخراطه لسنين في تدريس الكتابة الإبداعية، يعلمنا الصيد.

قصة (عبد الله الآخر) درس جيد للصيد، يمكن أن يشرع القارئ في تطبيقه على حياته. ففي مطعم، يدخل عبد الله الحمام ليجد فيه مسدسا نسيه أحد الرواد، فينبِّه صاحبَ المسدس إلى مسدسه، وذلك في إحدى نسختي القصة، لكنه في نسخة أخرى تتضافر معها، يسرق المسدس، تماما كما أنك في نسخة أخرى من قصتك، أو كون مواز بلغة روايات الإثارة، لا تقرأ هذا المقال، وإنما تقرأ "سهرة درامية"، وبدلا من قراءتي هذه التي تتصور الكتاب ورشة لتعليم كتابة القصة، تكون لديك قراءة أخرى ترى في قصص هذا الكتاب ما لم يخطر لي، أو ربما تقودك جملة في الكتاب نفسه إلى الشروع في قصتك.

فمن طرق صيد القصص التي يقترحها عبد النبي أن تفتح كتابا، حتى إذا صادفتك جملة من قبيل "ودوَّت صرخة بين الطالبات في منتصف الليل..." إذا بك تفعل ما فعلته ريم، فتضع الكتاب جانبا، وتتخذ من هذه الجملة بابا إلى الواقع من حولك، أو إلى خيال بديل له. ولعلك تجد في كتاب (سهرة درامية) نفسه الجملة التي تترك بعدها الكتاب لتبدأ قصتك، ولتكن مثلا جملة في الصفحة الرابعة والثمانين: "بدأ يسير بهمة وشجاعة، كأنه على موعد مهم مع الدنيا". فهذه الجملة شأن جملة الصراخ في منتصف الليل، تصلح بداية لأي شيء تقريبا.

***

كل أبطال (سهرة درامية) يعيشون في نسخ ذهنية من العالم، إلا عزيز وبطة، فهما يعيشان في الواقع، المليء بسندوتشات الكبدة وأصابع المحشو وقطع اللحم الملبسة. لكنه مليء أيضا بأمراض نفسية، وأمراض سمنة، وضغوط متشددين دينيا، ومصاعب ناجمة عن تغيرات اقتصادية تهوي بالناس من الستر إلى الفاقة.

وبرغم أن (عزيز وبطة) قصة حب، فقد لا تذكِّرنا بقصص حب خالدة من قبيل روميو وجولييت، ولكن بقصة أقل خلودا من قبيل قصة حب عمارة وعدولة في مسلسل (أرابيسك) لأسامة أنور عكاشة. يفرض "الواقع" أن تكون بطلة قصة الحب في كتاب عبدالنبي حولاء، وأن يكون البطل أصلع، وأن يكون الاثنان بدينين، أكولين، معرضين لآلام لا تطاق. كأن الكتاب ينبئنا في نهايته أن الحياة في الواقع، بلا قصة مصاحبة، مخاطرةٌ يحسن اجتنابها.

وثمة مخاطرة أخرى في "القصص" يحذرنا منها الكتاب. في رواية "ساعي البريد يدق الباب مرتين" للأمريكي جيمس كين مشهد لا ينسى، أو لا يجب أن ينساه من يشرع في الكتابة أو في نسج قصة تصاحبه في حياته. تحكي الرواية الشهيرة قصة جريمة قتل ارتكبتها زوجة وعشيقها في حق الزوج. وبدأت التحقيقات مع الزوجة والعشيق، وبعد ضغوط كبيرة عليهما، يدخل محقق إلى العشيق في غرفته بالمستشفى، ويستجوبه فيعترف على نفسه وعلى الزوجة ويوقع على اعترافه. بعد ذلك يتبين أن المحامي هو الذي حصل على هذا الاعتراف، لأنه توقع من العشيق أن يفقد في تلك اللحظة قدرته على تمالك نفسه، وينهار فيعترف بالجريمة التي تواطأ عليها مع عشيقته، فقرر أن ينجيه بهذه الحيلة، أن يسجل اعترافه لكن ليس للمحقق، أن يخلصه من تلك الرغبة القاهرة في البوح، دون أن يدفع ثمنها (حتى وإن ابتزه لاحقا بذلك الاعتراف الموقَّع).

بالمثل، بعض من توضع في أيديهم الأقلام ينتهون إلى كتابة اعترافات تفصيلية عن جرائم قديمة، من هؤلاء الشيخ سراج أو سمير. الذي ارتكب في مراهقته جريمة قتل كاملة الأركان، إذ وشى بحبيبين فتسبب في مصرع الحبيبة وتشرد الحبيب، وعاش بعد ذلك ليعمل ويتزوج وينجب ويترمل ويبحث عن خادمة تشبع احتياجاته الجنسية دونما تأنيب لضمير. هذا الرجل لا يعترف، بل لا يبدو أنه يعرف، أنه ارتكب جريمة، لكنه وضع بين أيدينا اعترافا تفصيليا بجريمته.

وأيضا بعض من توضع في أيديهم الأقلام ينتهون إلى خيانة قضاياهم، ومن هؤلاء الشيخ في قصة المفاتيح إذ يقدم ـ عامدا أو غير عامد ـ أسوأ هجاء للانحياز لقضية أو مبدأ. فبسبب يقينه أن الغرفة الأربعين لا تحوي حلا للمسألة المصرية فإنه لا يعنى بفتحها، وبسبب تفانيه في النضال من أجل المسألة المصرية يفقد فضوله تجاه كل شيء آخر، يضع بنفسه لنفسه حجابا كالذي يوضع على جانبي أعين الخيول والبغال لكي لا تحيد عن طريقها المرسوم. ولا أحسبني قرأت من قبل هجاء أقسى من هذه القصة للنضال والتفاني في قضية.

ويمكن أن أقول إن محمد عبد النبي يقع بدوره في غلطة مماثلة، في تقديري، فلكي يحملنا على التعاطف مع بطلي الخيانة الزوجية في قصة (عزيز وبطة)، فإنه يجعل شخصيات القصة إما شياطين وإما عزيز وبطة. فلا يكتفي بأن يسمي زوج بطة باسم "موحِّد" الكفيل بأن يفقدنا أي تعاطف معه، لكنه يجعله متدينا متشددا غليظ القلب، كما يجعل زوجة عزيز امرأة شديدة البرود، غير قادرة على استطابة ملذات الحياة سواء في الجنس أو في الطعام. وهذا التصوير الكاريكاتوري يضيع على القصة فرصة أن تمنح شخصياتها الثانوية العمق الذي تستحقه بكونها بشرا. عدا ذلك، لا أظنني آخذ على (سهرة درامية) أي شيء، حسبها أنها لا تكتفي بمنح قارئها قصصا ممتعة، وإنما تضيف إلى ذلك منحه مفتاحا عظيم الفائدة إلى عالم لا نهاية لقصصه.


نشر المقال في جريدة عمان بتاريخ 4 سبتمبر 2025

Friday, June 13, 2025

محمد السيد إسماعيل

 

محمد السيد إسماعيل






كانت عيناي تتنقلان بين الموبايل واللابتوب، ففي الأول لقاء عمل بدأ على تطبيق زوم قبل أيام ولن ينتهي قبل أيام، وفي الثاني ملفات كلما ظننت أنا وزميلان من المغرب والسعودية أننا انتهينا منها إذا بها تتوالد وتتكاثر بلا شفقة. وفي ثنايا ذلك، جاءت رسالة من أخي الأصغر، قصيرة، وحادة: البقاء لله، أستاذ محمد حمْيَر توفي اليوم، والدفنة بعد صلاة المغرب. شد حيلك!

ثلاثة أرباع عمري انفرطت أمام عيني، حائلة بيني وبين الشاشتين، ثم حائلة بيني وبين ما حولي. مضت تطاردني مشاهد نفضت عن نفسها الغبار وارتدَّت ناصعة كأنما لم تجر قبل عقود. تظهر لي في سجودي وشرودي ونومي، لا يبدو أنها يمكن أن تنتهي، ولا يبدو أنني أريد أن تنتهي.

رأيتني طفلا، في شارع ضيق من القرية، كثير المنحنيات، صاعد إلى ذروة ثم منحدر بعدها، أسير مع أبي إلى بيت الأستاذ محمد حمير، أو محمد السيد إسماعيل كما تعرفونه في أغلفة كتبه وتوقيعه على مقالاته.

رأيتني تلميذا في ثانوي يصر أن يجري حوارا مع أستاذه هذا في الإذاعة المدرسية، فيرفض الأستاذ في البداية، ثم يوافق أخيرا، ليسأله التلميذ عن قصيدة النثر التي لا يعرفها أو يبالي بها في المدرسة كلها غيرهما.

رأيتني شاعرا صدر ديوانه الأول فقير الطباعة، والبضاعة أيضا، وجاء أستاذه يناقشه في ندوة أقيمت ببيت الثقافة القريب.

رأيتني مترجما في أول عهده بالوظيفة يستأذن ساعتين قبل موعد الانصراف ليحضر مناقشة أستاذه لرسالة الدكتوراه في دار العلوم.

رأيتني طفلا ومراهقا وشابا وكهلا، ورأيته حاضرا في كل تلك الأطوار.

رأيتني في الرابعة عشرة من عمري، أحمل ورقة توصية من أستاذي للشاعر المنجي سرحان كي ألقي قصيدة في مخيم الإبداع بمعرض الكتاب. فخورا أمام مئات الجالسين على جمر في انتظار أن تنتهي فقرة الشعراء وتبدأ فقرة الرقص الشعبي.

رأيتني وعمري ستة عشر عاما أسير في القاهرة، وحيدا للمرة الأولى، بهدي من وصفة الأستاذ الدقيقة السهلة منذ مغادرة محطة مترو السادات "عند مخرج طلعت حرب" وحتى الوصول إلى الأتيليه في شارع "اسمه كريم الدولة".

رأيته معلما يشرح لي البلاغة في الفصل، وصديقا يقرأ لي مسودة قصيدة في الفسحة.

رأيت أبي وأباه وأصدقاء عرفتهم من خلاله وبحماية منه.

رأيتنا نتجاور بالصدفة، في قاعة الندوات الرئيسية بمعرض الكتاب، نستمع لجمال الغيطاني محاورا ممدوح البلتاجي! أفسر له وجودي بأنني مفتون بالغيطاني حتى لو حاور وزير الداخلية لا وزير السياحة أو الإعلام، ويفسر لي وجوده بأنه يعمل على رواية للغيطاني في رسالة الدكتوراه وبينهما موعد بعد الندوة.

رأيتنا نتجاور أيضا، لكن على حصيرة في مقر الحزب الناصري في القرية، والأستاذ يحاضر عن التفكير في الإسلام، أو شيء من ذلك القبيل، ويطول كلامه كثيرا، وأستأذن في الانصراف فور انتهائه، خشية أن يثير تأخري ـ وأنا طالب الثانوية العامة ـ مشاجرة أخرى مع أبي. ويعترض المتحدث الآخر في الندوة، زوج خالتي المفكر الإسلامي الرصين د. السيد عمر، قائلا إنني لا بد أن أسمع الرأي الآخر، وأن هذا أهم من الثانوية العامة. ورأيت الرجلين يتفقان في النهاية على تأجيل الجزء الثاني من المناظرة ليوم آخر أستطيع حضوره، في حنان وحرص على ولد صغير.

رأيته يزورني في غرفتي ببيتنا القديم، فأسمعه قصيدة طويلة، يسألني بعدها: "من فيفيان هذه؟" فأقول "فتاة أحبها" فيقول "وإياك أن تتركها".

رأيتني وقد تزوجتها.

رأيتني في طحانوب، قريتنا، أزوره كل أسبوع، ورأيتني وقد اغتربت في مسقط فبات أغلب العام ينقضي دون لقاء، ثم وقد أقمت في القاهرة وجرفتني الدنيا، ثم الآخرة.

رأيتني قبل شهر واحد، منهكا في نهاية يوم عمل طويل، أحضر ندوة أقيمت في حزب التجمع لمناقشة ديوانه الأخير. ويضبط أحد الحاضرين خطأ لغويا في قصيدة له. وأعثر في جوجول على مخرج ـ وإن لم أقتنع به ـ من الخطأ. ورأيتنا بعد الندوة نرتب للقاء قريب لم يقدَّر له التمام.

***

تنتهي أيام العمل الشاقة عبر تطبيق زوم. بعد قراءة تسعين مقالا، ومقابلة تسعين شخصا لمناقشتهم في ما كتبوه. فعلا؟ هل هذا الرقم حقيقي؟ هو إذن الرقم القياسي في حياتي للحديث مع غرباء. متى أصلا سمحت بمثل هذا الاحتكاك اليومي بالناس، أو بنصفه، أو حتى بعشره؟ لا يكاد كل ذلك ينتهي، حتى  أتناول رواية أوقفني العمل عن إتمامها، وكتبا قليلة أخرى أريد أن أنفرد بها، وكل ما لدي من تبغ وبن، وأترك القاهرة ورائي، وابنةً لم تنه بعد امتحانات آخر السنة، وابنا يستعد خلال أيام لخوض امتحانات الثانوية العامة، وزوجة سوف يجن جنونها ولا شك في غياب أي دعم، وأولي شطر طحانوب. غايتي الواضحة هي العزاء، مع أنني أعرف أنه لا عزاء.

فور دخولي شقتي الخاوية، أمضي رأسا إلى الغرفة الملأى بالصناديق الورقية، في أحدها ولا شك عشرات أشرطة الكاسيت. لن يكون البحث صعبا. ليس عليَّ سوى استبعاد أشرطة صوت الفن الخضراء، ثم أي أشرطة أصلية أخرى، للتركيز على الأشرطة الخاصة التي سجلتها بنفسي، ومن هذه عليَّ أن أبحث عن شريطين لندوة أقيمت في بيت ثقافة شبين القناطر لمناقشة ديواني الأول فور صدوره. أي نقلة زمنية من تطبيق زوم إلى شريط كاسيت.

ناقشني في تلك الليلة الشاعران أمجد ريان، ومحمد السيد إسماعيل. ولست بحاجة إلى أن أسمع تسجيل الندوة، لكن حاجتي ماسة إلى أن يكون الشريطان موجودين.

لا يزال حاضرا في ذاكرتي، دونما استماع إلى الشريطين، ما يعنيني من الندوة. لا أزال أتذكر بوضوح غلطتي ليلتها. كنت جالسا على طرف المنصة، وإلى يساري محمد ثم أمجد. كان ديواني الأول، فكان طبيعيا أن يكيل الصديقان الكريمان المديح بلا حساب. لكن غير الطبيعي هو أنني لم أكن أعرف بعد طريقة أخفي بها حرجي مما يقولانه. فما كان مني إلا أن أخذت أنظر إلى صديق لي، مبديا دهشة مما أسمع أو استنكارا، أو أي تعبير آخر أوحى للحاضرين بأن ما يسمعونه لا يستحق وقتهم، فمضوا في أحاديث جانبية أثارت ضيق الناقدين. لعلهما الوحيدان في الندوة اللذان لم يفهما سبب انصراف الحاضرين عن حديثهما. سأتعلم بعد ذلك أن الطريقة المثلى لاجتناب حرج كهذا هي منعه من المنبع، فلا أوافق إلا لمامًا على تنظيم مناقشة لأي من كتبي.

ولا يزال هذا أيضا حاضرا في ذاكرتي. في الديوان قصيدة عن فتاة ترفض كوب لبن. فيها:

يقول الطبيب

وربما الأم من قبل

إن الحليب...

ولا بدَّ...

من أجل أن...

-       "لا أريد".

وسط لغط الحضور، قال محمد السيد إسماعيل إن هذه القصيدة تبتر ما تقوله الأم، وما يقوله الطبيب، تبتر النصيحة وإن تكن سديدة، والتنبيه وإن يكن في محله، ثم تأتي إلى رفض الفتاة وعنادها فتثبته كاملا، بنصه، بل وتضعه بين أقواس، مسبوقا بشرطة، ومتبوعا بنقطة، كأنما لا مجال لحديث بعده، أو كأنما هو الحديث الوحيد الجدير بالتدوين.

هل خرجت من تلك الندوة بأثمن من هذه الملاحظة؟ أعني منحه لي سببا إضافيا لأن أحب إحدى قصائدي.

وهل أنا بحاجة حقا إلى شريطي الكاسيت؟

وفيم إذن كل هذا التراب الذي أغرق فيه نفسي كأنني أحفر قبرا أو بالأحرى، أنبش في قبر؟

***

لا يزال ماثلا في ذاكرتي ذلك اليوم في ثمانينيات القرن الماضي، حينما اضطربت شوارع القرية، بمطاردات وملاحقات، وربما بأصوات رصاص. كنت أصغر من أن أشهد بعيني، لكني سمعت شذرات من أحاديث عن إحراق صناديق انتخابية، وخروج مندوبة معينة من مندوبي الحزب الوطني مذعورة من اللجنة، واعتقالات بعض الشباب.

ربما لم أر بعيني شيئا من هذا، لكنني رأيت ما سبقه على مدى أسابيع من حرب لافتات استعرت في الشوارع بين خالد محيي الدين الذي كان يخوض الانتخابات في دائرتنا، لا في كفر شكر دائرته المعتادة، وبين مرشح الحزب الوطني الذي سأقرأ بعد سنين أن عائلته تنفرد بتمثيل دائرتنا في كل برلمان مصري منذ القرن التاسع عشر.

في غضون سنوات قليلة سأعرف شخصيا أحد الشباب الذين ترددت أنباء اعتقالهم. لن ترقى علاقتنا إلى صداقة، فقد حال دون ذلك فارق في السن، وفي السمعة، والأخير أهم في نظر أبي. كان ذلك الشاب محاميا، أو خريج حقوق على الأقل، ويساريا، أو عضوا في حزب التجمع على الأقل، وكان يبدو في مشيه الكسول بالقرية نافدَ الصبر بالناس، متعاليا عليهم، فكان من الإنصاف في المقابل أن رماه أهل القرية بالجنون أو بالإلحاد أو بكليهما.

بعد سنين قليلة، وأنا في الجامعة، سيزورني ذلك الشاب في البيت، ولا يكاد يجلس في غرفة الضيوف، حتى تستقر بيني وبينه صينية الشاي، وملف يفتحه طالبا مني أن أساعده في ملئه. كان الملف باللغة الإنجليزية، ومن هنا الاحتياج إلى مساعدتي. بدأت أقرأ وأترجم. لم يبق في ذاكرتي من ملف الهجرة ذلك إلا قائمة الوظائف الأعلى حظا في القبول. اختار من بينها وظيفة بحار.

لم أسأله لماذا اختار مهنة البحار، ولا سألته لماذا اختار من بين كل بلاد العالم أبعدها في المكان والزمان: أستراليا. ليس لأنني كنت أعلم الإجابات سلفا، ولكن لأن الإجابات كانت تظهر على وجهه تباعا، وبجلاء تام. أقول في دهشة "أستراليا!"، فأرى على وجهه "نعم" كبيرة، شاسعة، بعيدة، ليس في أفقها الرحب غير كنغر واقف على قائمتيه الخلفيتين شارد العينين. وأقول في عجب "من محام إلى بحار"، فيغمض عينيه كمن يتقي ريح المحيط العاصف وينتشي بها في الآن نفسه.

لم يكن لديه كثير لملء خانات الملف، ولا قليل. وفي نهاية الجلسة التي طالت قليلا، قلت له "أنت تعرف طبعا أنها محاولة منذورة للفشل" فضحك للمرة الأولى ضحكة صاخبة وقال "طبعا". ولم يتبعها بقوله "شأن كل شيء في حياتي".

سيموت "رائف" بعد سنوات قليلة، غير تارك زوجة أو ولدا، أو حتى سيرة يمكن أن توصف في القرية بالطيبة والعطرة. وربما لم يبق الآن أحد ممن يمكن أن يتذكروه بخير أو بشر. فقد مر أكثر من عشرين سنة على وفاته، حاصدة في طريقها كارهيه ومحبيه. لكن ها أنا أتذكره إذ يموت صديقه وصديقي، محمد السيد إسماعيل.

في بيت محمد فقط، من كل البيوت التي كنت أعرفها، كان يمكن أن أقابل رائفا غير المنبوذ، رائفا الهادئ، مأمون الجانب، الذي لا يفاجئك بغضبات جنونية، الظريف الذي يعرف كيف يلقي نكتة، الرصين عندما يتحدث، القادر أن يستشهد عند اللزوم أو الرغبة في الاستعراض بمهدي عامل، والذي قد يدندن لنفسه في لحظات الصمت بأغنية لمحمد فؤاد إما أنها "مواعداني وطال الانتظار" أو أنه لم يبق لي أمل في أن أتذكرها.

ليس رائف وحده. ففي بيت محمد السيد إسماعيل اقتربت من منبوذين آخرين، أو مختلفين وحسب، فانغرس في وعيي مبكرا أنني يجب ألا أقيم وزنا لإجماع. ليس بغير تمحيص. وربما في مثل أهمية ذلك أنني تعلمت أنه يمكن أن يصاحب المرء الصعاليك وشذاذ الآفاق وغير القادرين على قبول ما حولهم أو احترامه، ويبقى على اتزانه، معلما وقورا في الفصل، متحدثا جادا في الندوة، سياسيا ملتزما في الحزب، وشاعرا متخفيا طوال الوقت.

***

لا أستطيع أن أحدد السنة بدقة، ولن أبحث في جوجول عن تاريخ حصول محمد السيد إسماعيل على جائزة النقد الأدبي من مجمع اللغة العربية. لن أرفو بجوجول خرقا ما كان يجدر أن أسمح به أصلا في ذاكرتي. كنت قد زرته بعد أسابيع من فوزه بتلك الجائزة، وما كدنا نجلس حتى هنأته، بطريقتي: كيف لجائزة يمنحها مجمع اللغة العربية نفسه ألا تلقى حقها الواجب من الحفاوة والتغطية الإعلامية؟ وكلمته عن الأكاديمية الفرنسية التي كلما انضم إليها عضو صار ذلك نبأ يذاع، وواقعة يدونها التاريخ. فافتعل الدهشة، وأظهر احتراما لكلامي، وقال دون أن يعني حرفا من قوله: والله عندك حق. وفهمت أنا برغم القسم أن الأمر في نظره هيِّن.

ثم إنه قال، سأحكي لك قصتي مع هذه الجائزة. قال إنه لم يسمع عنها من قبل، لكنه قرأ خبرا في الأهرام، جاء فيه أن آخر موعد للتقدم للجائزة في غضون أسبوع، وأن الثيمة المحددة للتسابق هي الكتابة عن شوقي. قال: جئت بالشوقيات، وجلست. أشار إلى طبلية صغيرة كان يكتب عليها حتى ذلك الحين، قبل أن ينتقل من القلم والورق إلى الكمبيوتر، وليته ما فعل، فقد بقيت ملفاته على مدار السنين أشبه بغلال من الكلمات منثورة نثرا على الصفحة البيضاء، يلزمني حتى أقرأها، أن أقضي في تنسيقها وضبطها وقتا غير قليل.

قال، جلست أقرأ الشوقيات بالترتيب، وكلما قرأت قصيدة دونت عنها ملاحظات، وهكذا حتى انتهى المجلدان، في كم يوم بقى؟ في يومين اثنين. ثم جلست في يومين آخرين أو نحو ذلك فكتبت الكتاب، وأخذته كما هو فشاركت به، وفزت.

طبعا، لم أسأله: لماذا لم تبدأ بالنسيب؟

كان قد قابلني بالمصادفة وأنا راجع من المدرسة الإعدادية، فسألني باسما ومشفقا عما يثقل حقيبتي المدرسية المكتظة. أخرجت له بفخر صبياني ديوان حافظ. كنت قد استعرته من مكتبة المدرسة في الأسبوع الأول من الدراسة، وظللت لشهور أتنقل به حيثما ذهبت، مفتونا بما أقرأ. وكعادته، أثنى عليَّ، ثم سألني إن كنت قرأت الشوقيات، فقلت لا. قال إن رأيتَ أن تقرأها فـ"ابدأ بالنسيب"، وقال إن النسيب هو الغزل.

في ذلك اليوم، كان قد مر نحو ثلاثة أعوام على لقائنا الأول، إذ قال لي أبي في عصر يوم صيفي، هات قصائدك وتعال. كان قد أخبرني من قبل أنه سيأخذني ليعرفني بشاعر من البلد اسمه محمد حمير، درعمي، معه ماجستير في الشعر، ومعلم لغة عربية، ويسكن على مقربة من (الجامع الكبير). قال أبي، سأتركك بعد أن نشرب الشاي وأذهب إلى عمك محمود عبد الصمد، يقصد صديقه الوحيد الذي كان بيته أيضا على مقربة من الجامع الكبير. فلعل ذلك كان أول إرث لي من أبي: أن يكون أقرب أصدقائي أنا الآخر مقيما قرب الجامع الكبير.

هيأني أبي مسبقا، خشية أن تغلبني طفولتي فأبدي حينما أراه دهشة تؤذيه. ولكنني، خلافا لأي صورة كونتها قبل رؤيته، رأيت مودته الفائضة وكرم استقباله لنا، فكانا أوضح كثيرا من قصر قامته الذي أنبأني به أبي. أخذت أُسمعه من كراستي أجود ما فيها، وهو يستزيدني، حتى قرأت كل ما معي، وهو يثني، ولا يعلق إلا بتصحيح خطأ هنا، أو ضبط هنة وزنية هناك، أو اقتراح كلمات أنسب للقوافي. ثم سألني عما أقرأ من الشعر فقلت فاروق جويدة. ابتسم بلا سخرية، وقال: ممتاز. ولما امتعض صديق له كان قد انضم إلينا، أشار إليه فأسكته. ثم التفت إليّ وقال: دعك من رأي الأستاذ أمين، يعني أمين الكرداسي، صديقه الذي انضم إلينا وأستاذ اللغة العربية في مدرستي الإعدادية. وتابع: واحفظْ من شعر فاروق جويدة ما استطعت.

لن ينقضي وقت طويل حتى أفهم سر امتعاض الأستاذ أمين، وسر مطالبتي بأن أحفظ ما أستطيع من شعر جويدة. سأرى التأثير في قصائد لي بات وزنها أكثر انضباطا. وسأرى أنني سرعان ما أتجاوز فاروق جويدة من تلقاء نفسي إلى غيره. وسأفهم بعد سنين لماذا لم يقترح عليّ الأستاذ كتابا قط، ولماذا لم يعرني مطلقا إلا ما أطلبه منه بنفسي. صحيح أنه كان معلما، وأني سأجلس بين يديه تلميذا في المدرسة الثانوية، لكنه سيحرص دائما على ألا أقفز قفزات قبل أوانها. تركني أكره الشعر الحر إلى أن التقيت بأمل دنقل، وقصيدةَ النثر إلى أن أوقعني في شركها الماغوط، بل لقد تركني سنين أوثر يوسف إدريس على نجيب محفوظ إلى أن أنار الله بصيرتي وعرفت لكل منهما قدره.

***

أعجب الآن كيف لم يبدِ ضيقا قط من مروري عليه كل أسبوع أو أسبوعين على الأكثر، بقصائد جديدة كتبتها منذ آخر لقاء فملأت من أجندتي البنية شهرا أو أكثر.

دونما موعد مسبق، فما من هواتف أرضية آنذاك إلا في بيوت قليلة، كنت أمر بالبيت فأنادي، ويأتي صوته من غرفة على الشارع في الطابق الأرضي (ادخل يا أحمد). كثيرا ما كنت أجده وحده، وكثيرا ما كنت أجد لديه رائف، أو أحمد بيومي، أو غيرهما من أصدقائه. وكثيرا أيضا ما كنت أذهب إليه مصطحبا بعض أصدقائي ممن لهم علاقة بالكتابة أو القراءة! ولم يحل شيء أو أحد قط دون أن يفرغ نفسه لي فأقرأ عليه، وأسمع منه.

كنت على أعتاب الثانوية العامة، وأخبرته أنني خلافا لما يراد لي في الأسرة والعائلة والمدرسة أعتزم الالتحاق بالقسم الأدبي، فسألني عما أعتزم دراسته في الجامعة. قلت "الفلسفة"، وكنت قد وقعت في غرام محفوظ، ولم يعد يملأ عيني أقل من الفلسفة. قال لي "ممتاز"، فلا بد طبعا من دراسة الفلسفة. ثم سألني إن كنت فكرت في ضرورة أن أقرأ بلغة أخرى بجانب العربية، وفي أن ذلك قد يعينني على قراءة الفلسفة، والشعر أيضا، بلغتين.

ذلك أقصى ما فعله من توجيه. لا أستطيع حتى أن أصف ما قاله في ذلك اليوم بالاقتراح. فقط أثار الفكرة، وتركها لي، أو تركني لها.

***

على مدار السنين، سيزورني مثلما أزوره. سيستعير مني روايات يحتاج إليها لأطروحته، وسأستعير منه كتبا لشعراء عرب، وأعدادا قديمة من مجلة فصول، سيكتب عن كتب لي مرات، وسأعينه في ترجمة فقرات من كتب يريد الرجوع إليها في بحث ـ لعله بحث الدكتوراه ـ وسيطلب مني أن أترجم موجز البحث إلى الإنجليزية. سنصبح كأننا صديقان، أو زميلان، يقرأ أحدنا مسودات الآخر، ونتبادل الرأي مثلما نتبادل الزيارات.

سيقيم، بعد سنوات قليلة قضاها مغتربا في ليبيا، بيتا مستقلا عن بيت أبيه الذي عرفته فيه، وسيقيم أبي بيتا غير بيتنا القديم، وسيكون البيتان الجديدان قريبين، فنصبح جارين أيضا، لا يفصل بين بيتينا غير بيوت قليلة. فنقترب بكل وجه ممكن.

كبرت في بيته، منتقلا من شرب الليمونادة بينما هو وأبي يشربان الشاي، إلى شرب الشاي فقط بينما يشرب هو الشاي ويدخن، إلى مشاركته شرب القهوة وتدخين السجائر، إلى أن يأتي الوقت فيقلع هو عن التدخين، وأدخن أنا وحدي.

وعلى مدار كل تلك السنين، لن أكبر على شيء واحد: فلن يحدث ولو مرة واحدة أن أناديه باسمه مجردا، فهو دائما الأستاذ، والدكتور، وإن خاطبت أنداده بأسمائهم المجردة، وإن تحولت علاقتنا إلى صداقة وطيدة.

لم أتخلص قط من إحساس التلميذ هذا تجاه الأستاذ محمد، لأنني ببساطة لم أحتج إلى التخلص منه. ولأنه لم يطلبه قط، خلافا لآخرين، صغار، يتسولونه تسولا، أو يدّعونه كذبا. كان يعرف، مثلما أعرف، أنه أستاذي.

قبل سنوات قليلة، كنت أستعد لإصدار ديوان، وأطلعت أصدقاء أثق في ذائقتهم على مسودته، وجاءتني ردود يفترض أن تطمئنني، ولم أطمئن. وبالمصادفة دعاني محمد السيد إسماعيل لأمسية شعرية في مكان ما كان يشرف على ندواته ولا أذكر منه إلا أن في اسمه شيء اشتراكي، وأنه غرفة شديدة البساطة في طابق أرضي من بناية بحي شعبي، وأن الأمسية لم تكن أكثر من مائدة تحلق حولها حضور لم يتجاوز عدد أصابع اليدين، وأني قرأت من مسودة كتابي أكبر قدر ممكن، ثم انفردت بمحمد في طريقنا إلى المترو، فسألته عن رأيه. ورجعت إلى البيت فبعثت إلى ناشرتي مسودة الديوان.

***

طريقته التي كتب بها عن شوقي هي طريقته عموما في الحياة. بمثل تلك البساطة كان يفعل كل شيء. وبمثل تلك الثقة في قدراته.

في مناقشة رسالته لنيل الدكتوراه، وكنت أنذاك قد أصبحت مترجما في هيئة الاستعلامات، اعترض أحد مناقشيه على بنية بحثه نفسها. كان قد بحث عددا غفيرا من الروايات لرسالته التي تناولت في ما أتذكر "الرواية السياسية في مصر في الفترة من 1973 إلى 1993". وكتب بضع صفحات عن الرواية تلو الرواية تلو الرواية، فرأى المناقش هذا شديد الإملال. والأمر ببساطة أن هذه طريقة محمد السيد إسماعيل. كان بوسعه أن يستعرض الروايات بعشرات الطرق الأخرى، ويصنفها تصنيفات مختلفة، لكنه في النهاية كان ليخلص إلى النتائج التي خلص إليها بتلك البساطة، فما الداعي إلى التعقيد؟

وفي مناقشة الرسالة تلك، حدث ما لا أزال كلما تذكرته أود لو تنشق الأرض وتبلعني. اعترض مناقش على مرجع معين رأى ألا علاقة له بموضوع الرسالة. كان المرجع كتابا من بضعة كتب باللغة الإنجليزية زارني بها الأستاذ محمد ذات يوم. قلت له وأنا أتصفح الكتب إنها معدومة الصلة ببحثه تقريبا، فأصر على أننا يمكن أن نجد فيها ما ينفع في تذليل عقبة شكلية تصر على احتواء رسالة الدكتوراه على نسبة معينة من المراجع بلغة أجنبية. دافع محمد عن مرجعه ذلك، وأشار في كلامه إلى أنه استعان عليه بمترجم "قديم" يعمل في هيئة الاستعلامات. ظللت جالسا في الصف الأخير من القاعة، أعد الثواني، غافلا عن كل ما يقال، منتظرا اللحظة التي تعلن فيها اللجنة منح الباحث درجة الدكتوراه، والعفو عن المترجم.

***

لم يكتب محمد السيد إسماعيل عن كتاب إلا ليظهر فيه شيئا يراه جديرا ولافتا، لا ليستعرض أدواته هو أو منهجه أو سعة اطلاعه. لم يقابل سخرية إلا بضحك، ولا استخفافا إلا بترفع وكبرياء. كان ممتلئا بنفسه، مدركا نفاسة ما اكتنزه في عقله وروحه على مدى عمره، ملتمسا لمن حوله العذر، غير مكترث فعلا بكل ما يلهث آخرون من أجله.

في لقاءاتنا الأخيرة، التي ندرت بتقدم السنين، كان يقرأ لي أحيانا من مسرحيات شعرية يكتبها! ولو أن أحدكم يعرف من يكتب مسرحية شعرية في زمننا هذا فليعلم أنه شخص نادر، لم تلهه دنيا الروايات وجوائزها وحفلات توقيعها عن سماوات فنون أخرى لا تزال قادرة على إضافة الجمال. شخص لا يطمع لكتابه في أرفف الأكثر مبيعا، ولا يضيره بقاؤه منزويا في أخفت أركان المكتبات إضاءة، وأقلها روادا، في انتظار أن يأتيه قارئ لا زبون.

ظل محمد السيد إسماعيل وفيا للشعر، يكتبه، ويكتب عنه، ويكتفي بصحبته، ويغني به روحه. وظل الإنسان حاضرا في شعره الأخير كما في شعره الأول. ظل لا يتعالى على ندوة، أقيمت في دار حضانة في قريتنا أم في جحر حزبي في هذه المدينة أو تلك، فيعطيها من الاهتمام مثل ما يعطيه لغيرها مما يقام في أماكن أرقى أو أمام جمهور أعلم. ظل يكتب عمن لا يعرفهم شخصيا، مثلما يكتب عن أصدقائه، بالقدر نفسه من الإخلاص والمحبة. وظل مثلما عرفته في طفولتي وشبابه، يؤاخي في حياته بين الشعر، والتزامه السياسي، وعمله الاجتماعي، ثابتا في مواقفه، منحازا للإنسانية والجمال، دونما مرارات أو أحقاد، أو انتظار جزاء.

 

بدأت كتابة هذه السطور غداة وفاة الشاعر والناقد الأستاذ محمد السيد إسماعيل حَمْيَر (مثلما ننطق الاسم في طحانوب) في العشرين من مايو لعام 2025، عن ثلاث وستين سنة.

* تم تصحيح سنة الوفاة بعد النشر الورقي

نشر المقال في عدد يونيو 2025 من مجلة إبداع

 

أفكر

 

Tuesday, March 25, 2025

مقتل البحار العجوز


مقتل البحار العجوز

 



تروى "قصيدة البحار العجوز" لصمويل تيلور كوليردج، التي طبقت شهرتها الآفاق، حكاية بحار عجوز يتنقل من بلد إلى بلد، تنقُّل الليل، باحثا عن شخص يعرفه حين يراه، وله يروي الحكاية.

أتنقل مثل الليل، من بلد إلى بلد

ولديَّ قدرة عجيبة على الكلام

وفي اللحظة التي أرى فيها وجهه

أعرف الرجل الذي يجب أن يسمعني

وله أروي حكايتي

لا بد أنه حكاها مرات كثيرة قبل تدوين القصيدة، ولا بد أنه حكاها مرات كثيرة بعد ذلك، وكل مرة لشخص مختلف، ولكنه في النسخة المثبتة في القصيدة كان شخصا ذاهبا مع رفيقين إلى عرس ابن عمه، وظهر لهم البحار بعينيه المتوهجتين ولحيته البيضاء، فاستوقفه من دونهما، وأسمعه الحكاية، وفي النهاية:

ها هو الضيف

وقد أعرض الآن عن العرس

مضى كمن نزلت عليه صاعقة

فسلبته رشده

ونهض في صباح اليوم التالي

أعمقَ حزنا وأشدَّ حكمة

لا بأس من إيجاز الحكاية التي سمعها ضيف العرس فصرفته عن البهجة الصاخبة، وأسلمته للحكمة المشوبة بالحزن، أو ربما للحزن الحكيم. كان عشرات البحارة على سفينة تائهة، وظهر لهم في تيههم طائر القطرس، فطاب بظهوره الحظ وصفا الجو وأدرك الملاحون وجهتهم ومضوا في بحر رائق دافئ نحو الأمان، يصحبهم القطرس، فيطعم معهم ويشرب، ثم أطلق أحد البحارة لاهيا سهمه فقضى عليه. وانقلب الحال، وتساقط البحارة صرعى:

مئتان من الرجال الأحياء

(وما سمعت أنة ولا زفرة)

بخبطة ثقيلة سقط الواحد

بعد الآخر، كتلةً هامدة

لم ينج منهم إلا واحد، هو البحار القاتل، العجوز، المثقل بما اقترفته يداه، وما شهدته عيناه، المحكوم عليه بالترحال، حاملا الحكاية، يحكيها لمن يعرفه حين يراه!

أسئلة كثيرة تنهال على قلب من يقرأ القصيدة للمرة الأولى، وتستولي على عقله، وبالذات إذا كان طالبا غرًّا في الثامنة عشرة، يدرس الأدب الإنجليزي في الجامعة كما كان حالي، فتظل تطارده الأسئلة، بل تصاحبه في عودته من المدينة الصغيرة حيث جامعته الصغيرة إلى القرية البعيدة حيث بيته البعيد، في نهاية يوم دراسي شتائي، مسلما وجهه للنسيم البارد وقد جعله الميكروباص بمروقه المتهور عاصفة لشخص واحد سارح العينين في الحقول المبسوطة حتى السماء، تحدثه نفسه بأنه لن يذهب أبدا إلى العرس بعدما سمع الحكاية، وبات هو الآخر أعمق حزنا، ويأمل أن يزداد حكمة.

لسنين، سيسأل نفسه، ويسأل القصيدة، ولا يجاب: ما الذي كان يراه البحار في شخص فيلقي إليه الحكاية، ويلقي عليه لعنتها؟ ما الجريمة التي كان ليرتكبها قارئ تلك القصيدة، وبدم من كان ينبغي أن تتلوث يداه، لولا أن رمته الصدفة إلى "قصيدة البحار العجوز" أو رمتها عليه؟

من شتى تفسيرات القصيدة التي عرضها الأستاذ على طلبته، يميل صاحبنا إلى قراءة القصيدة في ضوء الخطيئة بالمفهوم المسيحي، وثقل الألم على مقترفها. لن يحفل بأفكار من قبيل أن العدوان المجاني هو الذي أوغر قلب الطبيعة على أبنائها، أو أن التنكر للفأل الحسن هو الذي استجلب اللعنة؟ وستبقى محفورة في عقله طويلا صورة البحار المذنب إذ استبدل بالصليب المعلق في رقبته جثة القطرس القتيل؟ وسيقرأ عن الندم إذ يثقل كاهل البحار، فيحار في ندم آخر لا بد أنه أثقل كاهل ضيف العرس، ندم على خطيئة لم يتركبها!

"قصيدة البحار العجوز" إحدى قصائد قليلة تخلد لكوليردج مكانه وسط شعراء الإنسانية المعدودين، وإحدى أكثر قصائد شعراء الرومنتيكية الإنجليز حظوة بالدراسات، ولعلها من أروج قصائدهم لدى أجيال القراء المتعاقبة، لما فيها من إيقاع عذب، وصور شعرية مؤلمة الجمال، وغموض فاتن لا تزيده كثرة القراءة إلا عمقا.

وفي السنين القليلة الأخيرة، شاعت القصيدة في دراسات النقد الإيكولوجي Ecocriticism، شيوعا لا يصادف هوى في نفسي، كحال كل الاتجاهات النقدية التي لا تعنى بأدبية الأدب وجمالياته، وإنما بتوظيفه، بل تجنيده، للنضال في قضايا النسوية أو الكولونيالية أو البيئة أو غيرها. ولا تكاد دراسات النقد الإيكولوجي هذه تبالي برمزية القصيدة، ومأزق البحار الوجودي العميق، لأن ما يعنيها تحديدا هو العدوان على الطبيعة، بل البيئة.

وهذه القراءة لها بالطبع ما يبررها، إذ تجسد القصيدة الأواصر البديهية بين الإنسان والطبيعة، باعتباره جزءا منها، وعنصرها العاقل، وباعتبارها أمه التي تعاقبه على الخطأ في حق أخيه الطائر. وفي حين أن هذه العلاقة لا تعدو أحد مستويات القصيدة، وسِمةً يرصد نقاد الأدب تواترها عند الرومنتيكيين، فإنها تمثِّل لدعاة النقد الإيكولوجي بؤرة اهتمامهم، حتى لو أن الهم البيئي ومفهوم البيئة العلمي نفسه لاحقان على القصيدة والشاعر ووعيه ووعي عصره. وليست قصيدة كوليردج الضحية الوحيدة لهذا المنهج النقدي غير الأدبي، فقد استهدف النقد الإيكولوجي منذ التسعينيات تقريبا روائع من قبيل "موبي ديك" و"الشيخ والبحر" اللتين يجد قراء الأدب فيهما منذ عقود قيمة فكرية وشعورية ورمزية، ويشتم فيهما العبق الذي قلَّ العثور عليه في غير كلاسيكيات الأدب الراسخة الحية منذ قرون.

من الدراسات ما يقول مثلا إن قصيدة البحار العجوز "يمكن يقينا أن توصف بالقصيدة البيئية أو المقطوعة الشعرية الإكونقدية ecocritical"، ومنها ما يذهب إلى أن "فعل قتل [الطائر] يخلُّ بالتناغم بين الإنسان والطبيعة" أو إلى أن "حياة الطبيعة الأم تتهدد بتهديد البحار للأمومة والتكاثر والخيال والأنوثة. [ثم إنه] ما من حديث عن أسرة للبحار، ويبدو أنه لا مكان له في عائلته وهو ما قد يشير إلى أن البحار لم يعد أحد عوامل التكاثر. والبحار في وطنه يبدو شخصا عقيما، وبيديه النحيلتين يبدو أرضا بورا تتناقض أشد التناقض مع خصوبة طقس العرس القائم".

هذه سطور مأخوذة فعلا من دراسة "نقدية" لا من ملف دعوى مرفوعة أمام محكمة الأسرة. وبرغم أن تشوه هذه القراءات لا يحتاج في نظري إلى دليل، فلا بأس من التدليل برؤيتها لطقس العرس. ففي حين أن العرس لا يزال يبدو لي منذ قراءتي الأولى للقصيدة رمزا لكل بهارج الدنيا التي تنكشف هشاشتها فور أن تبهتنا حكاية البحار وكشفها لطرف من حقيقة الوجود ونزر من غموضه، فإن العرس يبدو لهذه الدراسة رمزا للخصوبة والتكاثر، دون أن تدعم القصيدة ذلك بشيء. فيا له من سهم قاتل يطلقه الإكوكريتيسيزم على البحار العجوز!

يركز النقد الإيكولوجي عموما على الأدب في تناوله للبيئة وتفاعل الإنسان مع كائنات محيطه، وأثر البيئة على الإنسان، ولا ضير طبعا في دراسة هذه العلاقات والتأثيرات، ولا بأس من تلمُّسها في الأدب حيثما تظهر، شريطة ألا يكون في ذلك تعسف وليٌّ لأعناق أعمال أدبية تكاد تصرخ بأن معانيها العميقة مغايرة لهذا الطرح البيئي، وبأن غاياتها الكبرى جمالية لا دعائية، مهما يكن نبل الدعوى.

الحق أن بادئة eco التي التصقت بالنقد، والمأخوذة من جذر لاتيني يعني "البيت"، قد التصقت في السنين والعقود الأخيرة بعشرات الكلمات، موجهة إياها إلى مراعاة البيئة، فالتصقت بالسياحة والتصنيع والتصميم والتخطيط وعشرات الكلمات، فضلا عن اصطباغ أجندات أحزاب سياسية وحركات معارضة بالبعد البيئي. ولا أحسب أن أحدا يمكن أن يعترض على توجيه شتى أنشطة الإنسان وجهة تحترم البيئة، فجدير بكل من ينحاز إلى الإنسان أن ينحاز إلى الرشد في التعامل مع العالم المحيط به بكل مفرداته. لكن لماذا ينبغي أن نتطرف إلى حد قراءة الأدب قراءة علمية سقيمة؟ لماذا ينبغي أن يتحول الأدباء ومحبو الأدب إلى ناشطين، والأدب نفسه إلى دعاية، مثلما تحولت "الطبيعة" إلى "بيئة"؟

لقد تعاملت الأديان والفنون على مدى تاريخ البشر بمحبة وحنان بالغين مع الطبيعة، وإلا فما السر في كل لوحات المناظر الطبيعية، بل والطبيعة الصامتة، وما السر في مفتتحات مئات الروايات التي تتفنن في وصف الآفاق، فضلا عن آلاف القصائد؟ مؤكد أن السر ليس الحرص على نسبة الأوكسجين، أو الخوف على طبقة الأوزون، أو الضغط لتقليل حرارة الكوكب بمقدار درجة ونصف الدرجة بحلول سنة كذا. وإنما هو الافتتان بالجمال، والامتنان له، والإحساس بأننا وكل ما حولنا أسرة واحدة.

فلماذا نجرد موقفا نبيلا تجاه الطبيعة، الحية والجامدة، من حمولته العاطفية؟ لماذا نعلل سعينا إلى حماية البيئة من جور الرأسمالية الجشعة وطغيانها بالمنفعة والوظيفة لا بحب الجمال وفضيلة حسن الجوار بيننا وبين الشجر والحجر؟ لماذا تشعر الإنسانية أنها كبرت على الرؤية الرومنتيكية للعالم فتطمس معالمها ما استطاعت؟ لماذا نكفر بأغنية كوليردج ونعتنق الإكوكريتيسيزم؟ لماذا يصعب أن نقول لأنفسنا ببساطة ما يقوله البحار العجوز لضيف العرس قرب نهاية القصيدة:

وداعا، وداعا،

لكن اسمعها مني يا ضيف العرس:

أحسنُ الناس صلاة أحسنُهم حبًّا

للناس والطير والدواب.

 

وأحسنُ الناس صلاة أحسنهم حبًّا

لكل الأشياء، كبيرها وصغيرها.

 

·      جميع مقاطع القصيدة من ترجمة د. حسن حلمي في كتابه "الستة الكبار"، الكتب خان، القاهرة 2024 ـ عدا المقطع الختامي فهو من ترجمة كاتب هذه السطور

·      نشر المقال في العدد 66 (يناير-مارس 2025) من مجلة الجسرة الثقافية