Tuesday, March 25, 2025

مقتل البحار العجوز


مقتل البحار العجوز

 



تروى "قصيدة البحار العجوز" لصمويل تيلور كوليردج، التي طبقت شهرتها الآفاق، حكاية بحار عجوز يتنقل من بلد إلى بلد، تنقُّل الليل، باحثا عن شخص يعرفه حين يراه، وله يروي الحكاية.

أتنقل مثل الليل، من بلد إلى بلد

ولديَّ قدرة عجيبة على الكلام

وفي اللحظة التي أرى فيها وجهه

أعرف الرجل الذي يجب أن يسمعني

وله أروي حكايتي

لا بد أنه حكاها مرات كثيرة قبل تدوين القصيدة، ولا بد أنه حكاها مرات كثيرة بعد ذلك، وكل مرة لشخص مختلف، ولكنه في النسخة المثبتة في القصيدة كان شخصا ذاهبا مع رفيقين إلى عرس ابن عمه، وظهر لهم البحار بعينيه المتوهجتين ولحيته البيضاء، فاستوقفه من دونهما، وأسمعه الحكاية، وفي النهاية:

ها هو الضيف

وقد أعرض الآن عن العرس

مضى كمن نزلت عليه صاعقة

فسلبته رشده

ونهض في صباح اليوم التالي

أعمقَ حزنا وأشدَّ حكمة

لا بأس من إيجاز الحكاية التي سمعها ضيف العرس فصرفته عن البهجة الصاخبة، وأسلمته للحكمة المشوبة بالحزن، أو ربما للحزن الحكيم. كان عشرات البحارة على سفينة تائهة، وظهر لهم في تيههم طائر القطرس، فطاب بظهوره الحظ وصفا الجو وأدرك الملاحون وجهتهم ومضوا في بحر رائق دافئ نحو الأمان، يصحبهم القطرس، فيطعم معهم ويشرب، ثم أطلق أحد البحارة لاهيا سهمه فقضى عليه. وانقلب الحال، وتساقط البحارة صرعى:

مئتان من الرجال الأحياء

(وما سمعت أنة ولا زفرة)

بخبطة ثقيلة سقط الواحد

بعد الآخر، كتلةً هامدة

لم ينج منهم إلا واحد، هو البحار القاتل، العجوز، المثقل بما اقترفته يداه، وما شهدته عيناه، المحكوم عليه بالترحال، حاملا الحكاية، يحكيها لمن يعرفه حين يراه!

أسئلة كثيرة تنهال على قلب من يقرأ القصيدة للمرة الأولى، وتستولي على عقله، وبالذات إذا كان طالبا غرًّا في الثامنة عشرة، يدرس الأدب الإنجليزي في الجامعة كما كان حالي، فتظل تطارده الأسئلة، بل تصاحبه في عودته من المدينة الصغيرة حيث جامعته الصغيرة إلى القرية البعيدة حيث بيته البعيد، في نهاية يوم دراسي شتائي، مسلما وجهه للنسيم البارد وقد جعله الميكروباص بمروقه المتهور عاصفة لشخص واحد سارح العينين في الحقول المبسوطة حتى السماء، تحدثه نفسه بأنه لن يذهب أبدا إلى العرس بعدما سمع الحكاية، وبات هو الآخر أعمق حزنا، ويأمل أن يزداد حكمة.

لسنين، سيسأل نفسه، ويسأل القصيدة، ولا يجاب: ما الذي كان يراه البحار في شخص فيلقي إليه الحكاية، ويلقي عليه لعنتها؟ ما الجريمة التي كان ليرتكبها قارئ تلك القصيدة، وبدم من كان ينبغي أن تتلوث يداه، لولا أن رمته الصدفة إلى "قصيدة البحار العجوز" أو رمتها عليه؟

من شتى تفسيرات القصيدة التي عرضها الأستاذ على طلبته، يميل صاحبنا إلى قراءة القصيدة في ضوء الخطيئة بالمفهوم المسيحي، وثقل الألم على مقترفها. لن يحفل بأفكار من قبيل أن العدوان المجاني هو الذي أوغر قلب الطبيعة على أبنائها، أو أن التنكر للفأل الحسن هو الذي استجلب اللعنة؟ وستبقى محفورة في عقله طويلا صورة البحار المذنب إذ استبدل بالصليب المعلق في رقبته جثة القطرس القتيل؟ وسيقرأ عن الندم إذ يثقل كاهل البحار، فيحار في ندم آخر لا بد أنه أثقل كاهل ضيف العرس، ندم على خطيئة لم يتركبها!

"قصيدة البحار العجوز" إحدى قصائد قليلة تخلد لكوليردج مكانه وسط شعراء الإنسانية المعدودين، وإحدى أكثر قصائد شعراء الرومنتيكية الإنجليز حظوة بالدراسات، ولعلها من أروج قصائدهم لدى أجيال القراء المتعاقبة، لما فيها من إيقاع عذب، وصور شعرية مؤلمة الجمال، وغموض فاتن لا تزيده كثرة القراءة إلا عمقا.

وفي السنين القليلة الأخيرة، شاعت القصيدة في دراسات النقد الإيكولوجي Ecocriticism، شيوعا لا يصادف هوى في نفسي، كحال كل الاتجاهات النقدية التي لا تعنى بأدبية الأدب وجمالياته، وإنما بتوظيفه، بل تجنيده، للنضال في قضايا النسوية أو الكولونيالية أو البيئة أو غيرها. ولا تكاد دراسات النقد الإيكولوجي هذه تبالي برمزية القصيدة، ومأزق البحار الوجودي العميق، لأن ما يعنيها تحديدا هو العدوان على الطبيعة، بل البيئة.

وهذه القراءة لها بالطبع ما يبررها، إذ تجسد القصيدة الأواصر البديهية بين الإنسان والطبيعة، باعتباره جزءا منها، وعنصرها العاقل، وباعتبارها أمه التي تعاقبه على الخطأ في حق أخيه الطائر. وفي حين أن هذه العلاقة لا تعدو أحد مستويات القصيدة، وسِمةً يرصد نقاد الأدب تواترها عند الرومنتيكيين، فإنها تمثِّل لدعاة النقد الإيكولوجي بؤرة اهتمامهم، حتى لو أن الهم البيئي ومفهوم البيئة العلمي نفسه لاحقان على القصيدة والشاعر ووعيه ووعي عصره. وليست قصيدة كوليردج الضحية الوحيدة لهذا المنهج النقدي غير الأدبي، فقد استهدف النقد الإيكولوجي منذ التسعينيات تقريبا روائع من قبيل "موبي ديك" و"الشيخ والبحر" اللتين يجد قراء الأدب فيهما منذ عقود قيمة فكرية وشعورية ورمزية، ويشتم فيهما العبق الذي قلَّ العثور عليه في غير كلاسيكيات الأدب الراسخة الحية منذ قرون.

من الدراسات ما يقول مثلا إن قصيدة البحار العجوز "يمكن يقينا أن توصف بالقصيدة البيئية أو المقطوعة الشعرية الإكونقدية ecocritical"، ومنها ما يذهب إلى أن "فعل قتل [الطائر] يخلُّ بالتناغم بين الإنسان والطبيعة" أو إلى أن "حياة الطبيعة الأم تتهدد بتهديد البحار للأمومة والتكاثر والخيال والأنوثة. [ثم إنه] ما من حديث عن أسرة للبحار، ويبدو أنه لا مكان له في عائلته وهو ما قد يشير إلى أن البحار لم يعد أحد عوامل التكاثر. والبحار في وطنه يبدو شخصا عقيما، وبيديه النحيلتين يبدو أرضا بورا تتناقض أشد التناقض مع خصوبة طقس العرس القائم".

هذه سطور مأخوذة فعلا من دراسة "نقدية" لا من ملف دعوى مرفوعة أمام محكمة الأسرة. وبرغم أن تشوه هذه القراءات لا يحتاج في نظري إلى دليل، فلا بأس من التدليل برؤيتها لطقس العرس. ففي حين أن العرس لا يزال يبدو لي منذ قراءتي الأولى للقصيدة رمزا لكل بهارج الدنيا التي تنكشف هشاشتها فور أن تبهتنا حكاية البحار وكشفها لطرف من حقيقة الوجود ونزر من غموضه، فإن العرس يبدو لهذه الدراسة رمزا للخصوبة والتكاثر، دون أن تدعم القصيدة ذلك بشيء. فيا له من سهم قاتل يطلقه الإكوكريتيسيزم على البحار العجوز!

يركز النقد الإيكولوجي عموما على الأدب في تناوله للبيئة وتفاعل الإنسان مع كائنات محيطه، وأثر البيئة على الإنسان، ولا ضير طبعا في دراسة هذه العلاقات والتأثيرات، ولا بأس من تلمُّسها في الأدب حيثما تظهر، شريطة ألا يكون في ذلك تعسف وليٌّ لأعناق أعمال أدبية تكاد تصرخ بأن معانيها العميقة مغايرة لهذا الطرح البيئي، وبأن غاياتها الكبرى جمالية لا دعائية، مهما يكن نبل الدعوى.

الحق أن بادئة eco التي التصقت بالنقد، والمأخوذة من جذر لاتيني يعني "البيت"، قد التصقت في السنين والعقود الأخيرة بعشرات الكلمات، موجهة إياها إلى مراعاة البيئة، فالتصقت بالسياحة والتصنيع والتصميم والتخطيط وعشرات الكلمات، فضلا عن اصطباغ أجندات أحزاب سياسية وحركات معارضة بالبعد البيئي. ولا أحسب أن أحدا يمكن أن يعترض على توجيه شتى أنشطة الإنسان وجهة تحترم البيئة، فجدير بكل من ينحاز إلى الإنسان أن ينحاز إلى الرشد في التعامل مع العالم المحيط به بكل مفرداته. لكن لماذا ينبغي أن نتطرف إلى حد قراءة الأدب قراءة علمية سقيمة؟ لماذا ينبغي أن يتحول الأدباء ومحبو الأدب إلى ناشطين، والأدب نفسه إلى دعاية، مثلما تحولت "الطبيعة" إلى "بيئة"؟

لقد تعاملت الأديان والفنون على مدى تاريخ البشر بمحبة وحنان بالغين مع الطبيعة، وإلا فما السر في كل لوحات المناظر الطبيعية، بل والطبيعة الصامتة، وما السر في مفتتحات مئات الروايات التي تتفنن في وصف الآفاق، فضلا عن آلاف القصائد؟ مؤكد أن السر ليس الحرص على نسبة الأوكسجين، أو الخوف على طبقة الأوزون، أو الضغط لتقليل حرارة الكوكب بمقدار درجة ونصف الدرجة بحلول سنة كذا. وإنما هو الافتتان بالجمال، والامتنان له، والإحساس بأننا وكل ما حولنا أسرة واحدة.

فلماذا نجرد موقفا نبيلا تجاه الطبيعة، الحية والجامدة، من حمولته العاطفية؟ لماذا نعلل سعينا إلى حماية البيئة من جور الرأسمالية الجشعة وطغيانها بالمنفعة والوظيفة لا بحب الجمال وفضيلة حسن الجوار بيننا وبين الشجر والحجر؟ لماذا تشعر الإنسانية أنها كبرت على الرؤية الرومنتيكية للعالم فتطمس معالمها ما استطاعت؟ لماذا نكفر بأغنية كوليردج ونعتنق الإكوكريتيسيزم؟ لماذا يصعب أن نقول لأنفسنا ببساطة ما يقوله البحار العجوز لضيف العرس قرب نهاية القصيدة:

وداعا، وداعا،

لكن اسمعها مني يا ضيف العرس:

أحسنُ الناس صلاة أحسنُهم حبًّا

للناس والطير والدواب.

 

وأحسنُ الناس صلاة أحسنهم حبًّا

لكل الأشياء، كبيرها وصغيرها.

 

·      جميع مقاطع القصيدة من ترجمة د. حسن حلمي في كتابه "الستة الكبار"، الكتب خان، القاهرة 2024 ـ عدا المقطع الختامي فهو من ترجمة كاتب هذه السطور

·      نشر المقال في العدد 66 (يناير-مارس 2025) من مجلة الجسرة الثقافية

 

Monday, March 24, 2025

كلمات في الجنة

 


كلمات في الجنة

 


يوجب منطق التلقي البشري لآية يستهلها الله تعالى بقوله "وما هذه الحياة الدنيا إلا لهو ولعب" أن تكون بقيتها من قبيل أن الدار الآخرة هي الجد والعمل، ليكون الجد في مقابل اللهو، والعمل في مقابل اللعب. لكن منطق القرآن إلهي محض، فتكتمل الآية بقوله تعالى "وإن الدار الآخر لهي الحيوان". والحيوان، كما تنبئنا المعاجم ويوضح لنا المفسرون، هو الحياة.

هكذا يردنا الله إلى شطر الآية الأول وقد علمنا عن الحياة التي نعيشها هنا ما لم نكن نعلم: أنها في حقيقتها نقيض الحياة، وأننا نظل إلى أن يعتقنا الموت من أسر الجسم والجاذبية والسبب والنتيجة، محرومين، لا نذوق للحياة طعما. لأن الحياة ـ على رأي ميلان كونديرا ـ هي في مكان آخر.

ترد هذه الآية في سورة (العنكبوت) التي ينبئنا الله فيها بما لعلنا نعلمه جميعا، وهو أن بيت العنكبوت أوهن البيوت، لكن الله تعالى يتبع ذلك بقوله "لو كانوا يعلمون"، فيا لها من نهاية عجيبة للآية!

غير أن العجب ينتفي، عندي على الأقل، إذ أنتبه إلى أن هذه النهاية تتكرر في السورة مرة أخرى بنصها، فهي نهاية آية اللهو واللعب والحيوان:

"وما هذه الحياة الدنيا إلا لهو ولعب، وإن الدار الآخرة لهي الحيوان، لو كانوا يعلمون".

ينهي الله بالصيغة نفسها جملتين، واحدة عما يفترض أننا نعلمه،  وواحدة عما لا نعلم من أمره إلا ما يخبرنا به الله، فلعل الله يسوقنا إلى أن نربط آية بيت العنكبوت الواهي بآية حياة اللهو واللعب، ولعل أحدنا لا يشطط كثيرا حين يخطر له أن الوهن ليس مقصورا على بيت العنكبوت وحده، وأن الإحساس الزائفَ بالبيت الذي قد يشعر به عنكبوت في عشه، أشبه بالطمأنينة التي قد نجدها في أنفسنا إلى الدنيا.

***

من أشد ما أشتهيه في "الحياة" الحقيقية الموعودة أنه لن يكون فيها كلام فارغ.

ففي سورة (الواقعة) أن أهل الجنة "لا يسمعون فيها لغوا"، وفي سورة (الغاشية) أن الجنة "لا تسمع فيها لاغية"، بل إن من يشرب فيها كأسا فهي كأس ـ كما في سورة (الطور) ـ  لا لغو فيها.

غير أن الموعودين بهذه الحياة التي ما من كلام فارغ فيها، هم الذين يرفضون الكلام الفارغ في شبه الحياة التي نعيشها هنا، ففي القرآن آية أخرى يصف فيها الله الموعودين بالجنة بأنهم ـ هنا على الأرض ـ "عن اللغو معرضون".

وإذن، الجنة الآن، قريبة قرب الـ flight mode في الهاتف، أو قرب زرِّ الإطفاء في ريموت التليفزيون، أو قرب انقطاع النور، أو بالأحرى قريبة قرب الاتصال بالنور.

***

كثيرة أوصاف الجنة في القرآن، أنهارها وأطعمتها وأشربتها بل وأقمشة ملابسها. ومن بعد، هناك الأحاديث تفصِّل ما يجمله القرآن حتى لنعلم من أي خامة أقيم في الجنة بيت أمِّنا خديجة رضي الله عنها. وبعد هذين النورين، أمم من علماء المسلمين يوردون للنعيم أوصافا لا أول لها ولا آخر.

ووسط كل هذه النصوص، ثمة حديث يزعزع فهمنا لهذه الأوصاف، أو يضبط هذا الفهم، إذ يرتقي بالجنة عن كل تصور قد ينسجه قارئ من أوصافها في القرآن أو الحديث أو غيرهما. ذلك حديث رواه أبو هريرة رضي الله عنه وفيه أن الله تعالى أعدّ للصالحين من عباده "ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر". يوشك هذا الحديث أن يماثل آية (السجدة) التي يقول فيها الله تعالى: "فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ".

فهل يصح أن أفهم من هذا أن الجنة تبدأ من نقطة تعقب منتهى ما يصل إليه خيال أي من الجديرين بها؟ وهل تكون الجنة بهذا المعنى مسابقة في الخيال، بقدر ما هي مسابقة في العمل؟

***

من كل هذه النصوص الكثيرة في وصف نعيم الجنة، ومن كل ما يقال عن أطعمتها وأشربتها، لا أجد في نفسي شوقا إلى شيء فيها يعدل شوقي إلى شراب بعينه يوصف في سورة (الإنسان) ـ الإنسان بالذات. يأتي هذا الشراب في كأس من فضة، ممزوجا بالزنجبيل، ويؤتى به من عين اسمها سلسبيل.

بعد حياة على الأرض، كلكم يعرف كم هي شقية، وحياة تحت الأرض لم يدخر الوعاظ جهدا في تخويفنا منها وكأنهم ماتوا وعرفوا من أمر ما بعد الموت ما لم نعرفه، وبعد البعث وما يصحبه من فزع، ثم الانتظار الطويل ونحن نخوض في ذنوبنا التي تسيل منا حولنا، منكفئين على أنفسنا وعلى خوفنا وعلى ترقُّبنا، وبعد هول الحساب بين يدي الله، تأتي هذه الكأس، وعدا بما يليها، وطمأنة بأن الأسوأ قد انتهى.

لكن أشهى ما في هذا الشراب أنه يكون، حسبما أفهم، تحية من الله. يتوق المسلمون إلى شربة من يد سيدنا محمد الشريفة لا يظمأون بعدها أبدا، وأتوق توقهم إليها، لكن توقي أكبر إلى الشراب الذي يحيِّي به الله عباده الصالحين. ألم يقل الله: "وسقاهم ربهم شرابا طهورا"؟

***

ومن كل الآيات والأحاديث التي تصف الجنة وتذكرها، آية مركزية في تكوين تصوري عنها، بل بعض آية، إذ يقول الله تعالى عن المنعّمين بالجنة: "وهم في ما اشتهت أنفسهم خالدون". أنفسهم، لاحظوا، وليس أرواحهم.

بهذه الآية، يصعب أن أتصور جنة واحدة للجميع، وإنما جنات بعدد المؤمنين. وبهذه الآية أفهم معنى الدرجات والمنازل، وأفهم أن خلود أحدنا ـ إن شاء الله طبعا ـ لن يكون في حديقة للخالدين، وإنما في ما اشتهاه هو بالذات، مع مراعاة أن تجسُّد الاشتهاءات هذا سوف يأتي مجاوزا للخيال، في هيئة لا تخطر لبشر. فلو صدق بورخيس في ما قال، فستكون جنته كما تخيلها مكتبة، أعني أنها ستكون شيئا مجاوزا للخيال يُحدث أثر المكتبة.

ولو أن هذه الآية تنبئ المؤمن كيف يمكن أن تكون جنته، فالأخطر أنها تعرِّفه بحقيقة نفسه، إذ يعرف أشد ما يشتهيه، ومن ثم ما سيعيشه إلى الأبد. وبذلك تكون الجنة بمعنى ما صناعة أرضية، تجسيدا أخرويا لأحلام يقظة أرضية. وبذلك أيضا تكون تنبيها: صحيح أن أحدنا قد يحب شيئا ما، لكن، هل إلى درجة أن يخلد فيه؟

عن نفسي، أحب الطعام الطيب طبعا، والنساء الحسناوات، والموسيقى، والشعر، وأحب أيضا أن أجيد كل اللغات فأقرأ كل الكتب وأعرف كل ما جرى على الأرض وأنفذ إلى حقيقة كل ما خفي وكل ما ظهر على غير حقيقته، أحب أن أقابل كل الأنبياء، والشعراء، والطغاة، أحب أن أكون البطل في روايات وأفلام، أحب أن أعيش في واحة راعي غنم، وفي قرية نجارا، وفي مدينة صغيرة أمين مكتبة. وفي الخلود متسع لذلك كله. ثم إني أريد من قبل ومن بعد جلسة ثنائية مع الله أعرف فيها جواب هذا السؤال الذي لا يعرفه غيره: لماذا؟ لماذا كل هذا؟

لكن، هل أصلح بكل هذه الرغبات لدخول الجنة أصلا؟ أعني: هل يرتقي إلى الجنة، من يظل حتى آخر لحظة في حياته غافلا عن جوهر الحياة، وعن كونها مصممة أصلا لاختبار قدرته على التركيز برغم كل هذه الملهيات، وعلى الإعراض عن التفريعات الجانبية المغرية فلا تحيد عيناه وقلبه وجوارحه عن الغرض الوحيد من الرحلة كلها؟ وهل يعد ناجيا وناجحا في الاختبار من يصل إلى لقاء الله ليسأله لماذا خلق الخلق؟ كيف ولم يكفه سببا أن الله فعال لما يريد؟

وما الذي نتعلمه من الصيام لو لم نتعلم أن نفقد عبوديتنا للطعام فلا تصحبنا إلى الآخرة؟ وهل تزكّينا الزكاة إذا لم نوقن من ممارستها أننا لم نملك المال لنمنحه ولكنه مرَّ بأيدينا مرورا، بلا فضل منا في كسبه أو إنفاقه أو منحه؟ وما الذي نتعلمه من الحج لو لم تصبح بقعة في الأرض لا بيت لنا فيها ولا أهل ولا ذكريات ولا مستقبل أحبَّ إلينا وأغلى مما نعده الوطن والبيت؟ ماذا تعلمني الصلاة لو لم أنتبه إلى أن اللحظات التي أدير فيها ظهري لكل الدنيا، ولكل الحياة، مكتفيا بأن أكون بين يدي الله، هي اللحظات التي أغنمها حقا من الحياة؟

وماذا نتعلم من التوحيد إلا أن نؤمن في قرارة وعينا بأن كل ما عدا الله باطل وهالك وقبض ريح، وأن كل وجود عدا وجود الله مجاز؟

سنخلد في ما تشتهيه "أنفسنا"، أنفسنا بالذات، كيف لا أفهم من هذا أن كل هذه الرحلة على الأرض إنما غايتها هي صقل النفس، والارتقاء بها إلى مقام الأرواح؟

***

كثيرا ما يوصف تصور المسلمين للجنة بالشهوانية، فهي جنة خمور ونساء وطعام وشراب وغلمان كاللؤلؤ المكنون، وأقداح تطوف على المؤمنين المتكئين على الأرائك يضحكون. ولعلها تكون هكذا حقا لمن يدخلها ولم يعلَّمه الإيمان حقيقة متع الدنيا. فمن يصوم ليأكل في الجنة، أو يمتنع عن الخمر ليعب منها عبا في حياته الأبدية، أو يشتد على نفسه هنا ليطلق لها العنان هناك، فقد لا يحرمه الله مما يشتهيه.

وأنا نفسي قلت مرة لصديق لي إن بعض أتقى المؤمنين يا أخي سوف يفضحوننا في الجنة، فضحك قائلا وأي فضيحة!

حكى لي هذا الصديق يومها عن تصوره للجنة فقال إنه يتصور أن كل ذي مهنة هنا سوف يمتهنها هناك، فصديقي هذا مثلا سيكون في الجنة صحفيا ينقل الأخبار، وأنا في رأيه سأقضي خلودي في كتابة الشعر والروايات، وكلنا كذلك، شأن الفلاح المصري القديم الذي دعا ربه ـ في قصيدة من كتاب جمع نصوصه حلمي سالم وصدر عن شرقيات في ما أظن ـ أن يمنحه في الجنة غيطا يزرعه.

قلت لصديقي، بنبرة زاهد لم أكنه قط، ولا أحسبني بالغ مقامه أبدا: تصورك هذا يعني أن قلبك لا يزال معلقا بالدنيا يا صاحبي.

***

مثلما أومن أننا نصنع في الدنيا جنتنا في الآخرة، أومن أن تصورنا لجنة الآخرة يصنعنا في الدنيا.

كنت قبل أسابيع مع اثنين من أصدقاء العمر لم نجتمع منذ أمد بعيد، فقلت لهما إننا قد لا نلتقي ثانية، لا أعني في الحياة، وإنما في الجنة. قلت لهما إننا إن كنا من أهل الجنة، فمن يضمن ألا يكون أقرب الجيران لأحدنا مؤمنا من قوم سيدنا نوح بلَّغه عمله مثل ما بلَّغ أحدنا عمله، أو يكون أعز صديق لأحدنا يهوديا عاصر سيدنا العزير أو هنديا أحمر عاش على الإسلام، أو أفريقيا أو آسيويا أو رجلا من الإسكيمو ممن آمنوا بأنبياء ورسل لم تخل منهم أمة من الأمم؟

وهذا في الحقيقة ما أفهمه من آية في سورة (الأنبياء)، تأتي بعد سرد الله لقصص عدد كبير من الأنبياء فتقول "إن هذه أمتكم أمة واحدة".

ذلك التصور لا ينفي الفرقة الزمنية بين أجيال الأمة الواحدة في الجنة فقط، وإنما تتحقق هذه الأممية هنا على الأرض أيضا، اعتقادا، وحياة. وليس ما يجمع المرء بإخوانه في هذه الأمة مواطنة أو معاصرة أو ما هو أدنى من ذلك من أشكال التعصب للعرق أو اللون أو القوم، ولكن الجامع روح وإيمان وعلاقة بالله وفهم واحد لحقيقة الدنيا بل حقيقة الوجود كله، قبل الدنيا وفيها وبعدها.

ومرةً سألت أمي إن كانت لا تزال تصوم يوما وتفطر يوما، فقالت إنها عدلت عن ذلك مؤثرة المتواتر عن سيدنا محمد من قبيل صيام الاثنين والخميس وأيام الليالي القمرية من كل شهر عربي. قلت لها في أسى: لماذا؟ كنت أتخيلك يوم القيامة وقد جاء نبي الله داود عليه السلام يسأل عن امرأة من أتباع أخيه محمد كانت تصوم على سنته أي سنة سيدنا داود، فتهلَّل وجهها لـ"البشرى"، وما هي ببشرى، وقالت لي إنها ستحرص على أن تجمع أحيانا بين تلك السنة الداودية وسنن سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام.

هذا، وأنا شخصيا لا أكاد أحتمل صيام ساعة في غير رمضان، لكن هذا لا يمنعني من الوعظ.

تصوري هذا عن الأمة الواحدة لا يعلمني فقط أن أحترم "الديانات المختلفة"، مؤمنا أنها في حقيقتها دين واحد، وجوهر واحد، لكنه يكشف لي حقيقة عظيمة من حقائق الحياة: ليس كل هؤلاء المحيطين بك، المهمين لك، المؤثِّرين في أهم قراراتك، المشاركين في تشكيل تصورك عن نفسك، ليس كل هؤلاء مهمين حقا، وليسوا بالضرورة الأقرب لك في القسم الأهم والأبقى من وجودك. هؤلاء عابرون في وجودك، حتى لو أن منهم أبويك، وأبناءك، وزوجتك، وأصدقاء عمرك، والقراء والنقاد، وما أنت إلا عابر في وجودهم أيضا.

ولكنك تحب أبويك وأبناءك وأصدقاءك، وربما زوجتك، وتسعدك كثرة القراء وكتابة النقاد... ولا بأس في هذا، إن فهمت حقيقة أخرى من حقائق الحياة العظيمة، حقيقة الحب.

مؤكد أن إبراهيم عليه السلام، وهو أب مثلنا، كان يحب ابنه، إسماعيل طبعا، ولكنه امتثل للأمر بذبحه. ومؤكد أن نوحا عليه السلام كان يحب ابنه (لدرجة محاولة التوسط له عند الله عسى أن ينجيه من الغرق)، لكنه آمن بقول الله "إنه ليس من أهلك". وكيف لا يكون من أهله وهو ابنه؟ "إنه عمل غير صالح".

كلنا عابرون في وجود بعضنا بعضا، والروابط الحقة لن تنشأ بين أحدنا والآخرين في الجنة، لكنها تنشأ هنا، في قلوبنا ووعينا، على أن يتم تفعيلها لاحقا.

***

من النصوص الحبيبة إلى نفسي في ما يتعلق بالجنة أيضا حديث لرسول الله قال فيه ما يعني أن من قال (سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم) كانت له بها في الجنة نخلة من ذهب. وليس حبي لذلك الحديث حبا في الذهب، بل وليس لحبي العظيم لعمتنا النخلة، وإنما لأن هذا الحديث يعلمنا عن الكلام الذي يجري على ألسننا وعبر أصابعنا: أن له هو الآخر وجودا مختلفا في حياتنا القادمة، وأن كلمات نقولها هنا، خفيفة على اللسان، ستنكشف حقيقتها في الأبد فإذا بها نخلة من ذهب.

لا يعينني هذا الحديث فقط على تخيل أملاكي ـ المرجوة من الله فضلا وكرما ـ في الجنة، لكنه يجعلني أتأمل كل كلمة أصادفها هنا على لساني، أو على الورق: تُرى ما حقيقتك يا صديقتي؟ وكيف هو شكلك الحقيقي بعد أن يحتد البصر فينفذ إلى حقائق الأشياء؟ وأتساءل: هل سأقابل "لماذا لا تزرع شجرة" ـ روايتي ـ بيتا من خشب، أم بحيرة، أم كوخا، أم أرجوحة؟ أم تراها تنتظرني في الجحيم، إن لم أنجح في أن آتي الله بقلب سليم؟ وماذا عن كلمات هذه المقالة؟ وماذا عن القصائد؟ والمقالات المترجمة؟ وأطنان الكلام المهدر كل يوم في بوستات وتعليقات وهزل وجد؟

ما الذي من كل هذا سوف يتبين أنه نفاية؟ وما الذي ستنكشف حقيقته فإذا هو شجرة، باسقة، أصلها هنا على الأرض، وفرعها هناك في السماء؟

نشر المقال في أخبار الأدب بتاريخ 23 مارس 2025 الموافق 23 رمضان1446

Saturday, December 28, 2024

قليل من اللغة...كثير من الفن

 

قليل من اللغة...كثير من الفن



منذ ما يزيد على عقدين، يصدر حسن عبد الموجود في دأب مجموعاته القصصية، مقدما في كل منها مغامرة جمالية خاصة، لا يكاد يعاود الرجوع إليها مرة أخرى. جرَّب يده في القصة القصيرة المؤلفة من مئات الكلمات، والقصة القصيرة المطولة التي قد تمتد لعشرات الصفحات، كتب قصصا ذات أجواء كابوسية، وأخرى استلهم فيها الحكايات أو عارض فيها حواديت من ألف ليلة وليلة. بل وجرَّب ـ على استحياء ـ الإمكانات القصصية لقالب المقال في مجموعة صدرت قبل سنوات قليلة عنوانها "البشر والسحالي" جعل البطولة فيها قسمة بين البشر ومن حولهم من كائنات، أو لنقل إنه رصد عالما يتعايش فيه البشر والحيوانات فتحشر كل من المجموعتين أنفها في شؤون المجموعة الأخرى وحياتها.

ومغامرته الأحدث كتاب قصصي صدر عن الدار المصرية اللبنانية في أكثر قليلا من مئة صفحة عنوانه "تاجر الحكايات" كان لي شرف تقريظه بكلمات على غلافه الخلفي أكدت فيها قناعتي بأن الحضارة الإنسانية تنتخب من آدابها نصوصا بالغة الطول مثل الإلياذة مثلما تنتخب نصوصا بالغة القصر مثل الهايكو، غير منحازة إلا إلى الجمال.

صنَّف عبد الموجود نصوص كتابه السبعين تقريبا بالأقاصيص. وتتراوح نصوص الكتاب بين القصير وبالغ القصر، فمنها ما لا يزيد عدد كلماته عن عشرين ومنها ما يمتد إلى بضع عشرات الكلمات.

لا أعرف إن كان في النقد العربي اتفاق على حدود مهما تكن للجنس الأدبي الموسوم بـ"الأقصوصة". لا أعرف مثلا بوجود معيار عددي للكلمات على       غرار المتبع مع القوالب السردية القصيرة في الغرب. فقد هداني بحث أولي على الإنترنت عن محددات لهذا النوع، إلى موقع لتعليم الكتابة في القوالب السردية القصيرة ووجدت فيه جدولا يحدد قصة الومضة [إن جازت هذه ترجمةً لـ flash fiction] بأنها النص السردي الذي تقل كلماته عن ألف وخمسمئة، والمايكروفيكشن [أو القص الصغير] بأنه النص الذي يقل عدد كلماته عن مئة، وأن ما يعرف بالمينيساجا [وهي تسمية هازلة بالطبع إذ تعني "الملحمة الصغيرة"] نص يتألف من أقل من خمسين كلمة، فضلا عما يعرف بـ"قصة الكلمات الست" التي ربما كان همنجواي أول من اخترعها. في حين نفتقر نحن في نقدنا العربي إلى محددات، سواء سطحية كالعددية أو غيرها.

ثم،  ماذا عن شروط القص الأخرى؟ ما الذي ينبغي أن نتوقعه من فنون السرد عموما في قالب القصة القصيرة جدا [وهذا هو المصطلح الذي أوثره شخصيا على مصطلح "الأقصوصة" باشتقاقه الذي أجد له في أذني رنين استهانة من شأن قالب هو كأي قالب غيره عظيم القدرات]؟ وأهم من ذلك، ما الذي ينفرد به هذا القالب وتعجز عن منحه بقية القوالب؟ وأين تقع بالضبط الحدود الفاصلة ـ أو الواصلة ـ بين هذا القالب وقوالب شعرية أخرى مثل قصيدة النثر في قالبها الكتلي؟

ولا يكتفي عبد الموجود بـ"الأقاصيص" تصنيفا لنصوصه، لكن لعله بعنوان كتابه نفسه يضيف تصنيفا آخر هو "الحكايات". ولا أحسب هذا التصنيف الأخير ينطبق على نصوص الكتاب، إذ لا نصادف بينها مطلقا ما نعرفه في الحكايات أو الحواديت ونعرفها به من صيغ ثابتة من قبيل "يحكى أن" أو "كان يا ما كان" وما شابههما، فضلا عن أن نصوص "تاجر الحكايات" كما سنرى لا ترمي إلى التسلية ـ وإن وجدناها فيها ـ بقدر ما ترمي إلى التحريض على التفكير والتأمل، وذلك ما لا تفعله الحكايات إلا لماما.

تبقى على الغلاف كلمة "التاجر"، وهي أيضا لا تبدو لي أفضل الاختيارات. فعهدي بالتجار في الكتابة، وما أكثرهم، أنهم يعيدون إنتاج سلعهم التي يطمئنون إلى قدرتهم على إنتاجها، ويضمنون رواجها في السوق التي يوجهون إليها كتاباتهم السوقية. وحسن عبد الموجود لا يكتفي بتخصصه تقريبا في القصة القصيرة شبه البائرة عربيا وعالميا الآن، بل إنه يغامر بالتجريب في الأكثر بوارا من القصص القصيرة وأعني القصير جدا منها، وهذا التجريب في ذاته ينأى به عن التجارة.

في ظني أن "التاجر" في حدود فنون السرد هو من يصر على كتابة الرواية وإن عزَّ عليه أن يقيم عالما روائيا راسخا، أو يصر على حشو رواية بدينة راميا من بدانتها إلى أن يغري لجان تحكيم الجوائز، أو يقحم على روايته أسبابا للإثارة يستميل بها زبائن تلوثت ذائقتهم من فرط قراءة "روايات" الرعب والإثارة والجريمة وما إلى ذلك.

وحتى لو كان عبد الموجود قد أراد بعنوانه هذا استعارة ما، فلا أحسبها استعارة تليق بالتعبير عن فنان، لأن ما يفعله حقا في كتابه هذا هو مغامرة مفهومة من فنان ومستبعدة تماما على تاجر.

غير أن العناوين بعامة مشكلة في هذا الكتاب، فأكثر عناوين النصوص قوامها كلمة أو اثنتان. وغالبا ما يكون عنوان النص هو العنوان البديهي له، فالنص الذي يحوي مطاردة عنوانه "مطاردة"، والنص الذي يدور حول حذاء مخروم عنوانه "حذاء مخروم". وما من عنوان تقريبا في هذا الكتاب يرغم القارئ على مسار معين لقراءة النص أو فهمه، ولعل هذه فضيلة، وما من عنوان يبرز في نص معنى خفيا، أو يضيف إليه نغمة مصاحبة، أو يناقضه أو يبدله. إنما العناوين ببساطة علامة للقارئ على أن نصا يبدأ. ولا أحسب هذه مشكلة عبد الموجود، البارع في كتبه السابقة في نحت العناوين. لكنها في تقديري مشكلة هذا الجنس الأدبي نفسه والأجناس القريبة منه. فديوان "العالم لا ينتهي" للشاعر الأمريكي الراحل تشارلز سيميك يضم قصائد نثر بلا عناوين بالمرة، وكتاب "جبل التجربة" الجميل لزكريا محمد ـ القابع على مكتبي الآن ومنذ بضعة أشهر ـ فيه مئات من قصائد النثر عديمة العناوين، وكاتب هذه السطور نفسه مدان بكتابين فيهما قرابة مئتي نص تحمل جميعا أرقاما بدلا من العناوين. ولا شك أن "مطاردة" أو "حذاء مخروم" أقرب إلى العناوين من واحد واثنان وثلاثة...

غير أن عبد الموجود لا يتقشف في العناوين وحدها، فاللغة الغالبة على الكتاب توشك أن تكون شفافة، حريصة قدر استطاعتها ألا تشير إلى نفسها. يقول في قصة "القفل":

"أمُّه لم تقبل توسّلاته. ضبطته يراقب أخته من فرجة باب الحمام وهي تستحم. خبطت يدها على صدرها وهي تصرخ: ’حتى الشيطان لا يفعلها’. قبَّلها في منتصف جبهتها، انطبع وشم ’القفل الأخضر’ من رأسها على شفتيه. حاول أن ينطق ليستسمحها، أو يصرخ ليخرجها من سكونها، أو يبكي ليستدر مشاعرها، لكن صوته انحبس في فمه إلى الأبد".

هكذا هي اللغة في "تاجر الحكايات"، توشك أن تختفي تماما، حريصة ألا تعطل فعل القراءة، واعية بأن انسحابها هو الضامن الأكبر لسرعة تلقِّي القارئ الاستعارة الكبيرة النهائية التي تجعل المسافة الضئيلة الواقعة في ما بين عنوان النص ونقطة النهاية مسرحا للعنة لا نصادف مثلها إلا في الأساطير أو في أقدم كتب الرعب في التاريخ، أعني "التحولات" لأوفيد، وهو بالمناسبة أيضا، قريب في شكل نصوصه من قصيدة النثر ومن القصة القصيرة جدا، ومن شتى هذه الأجناس والقوالب الأدبية التي تظهر لنا قليلة الشأن على الصفحة حتى إذا انطلت علينا خدعتها هذه ومضينا في قراءتها إذا بنا نتعرض لتجارب شعورية مشحونة إلى أقصى قدر ممكن، وإذا بنا نتعرض في هذا الحيز البسيط لزحام لا يوحي به الشكل على الإطلاق، وانظروا في نص من نصوص تاجر الحكايات عنوانه "الجمال":

"...اقتربتُ منه، متخيلا أن علاقتي به قد تسهِّل لي التعرف على أختيه أو إحداهما، لكنه انقطع فجأة عنا. وجدته بالصدفة يجلس أمام المسجد العتيق  يوم جمعة. تأملته. كان جميلا كأختيه. راق لي التملِّي في ملامحه. لم يكترث لإطالة نظري، ونبهني إلى قرب إقامة الصلاة. وقفنا في الصف. كنت حريصا أن يلمس مشطُ قدمي مشطَ قدمه".

لا تحوي هذه السطور قصة فقط، بمثل ما تحوي النادرةُ التراثيةُ قصةً، إنما لدينا هنا شخصية حية نوشك أن نمسها. راوي هذه السطور يعري نفسه بين أيدينا معترفا لنا بمنظومته الأخلاقية، بل اللاأخلاقية إن شئتم، يرينا بأعيننا أنه مستعد لدخول مسجد يوم جمعة ليصلي، لا لله، ولكن للجمال. أم تراه لا يرى من فارق؟

ثمة شخصية مماثلة لبطل هذه القصة عند نجيب محفوظ، تجدونها في خان الخليلي، حيث يرصد محفوظ مشاعر يمكن وصفها بالمثلية أو البيدوفيلية، أو بكليهما، لدى بطله أحمد عاكف، إذ يجد في نفسها ميلا حسيا إلى صبي صغير لما بينه وبين أخته الكبيرة من شبه. لا يسلط محفوظ إلا ضوءا رهيفا على هذا الجانب في شخصية بطله، لكن عبد الموجود يمنح البطولة لهذا الجانب وحده، ويفعل ذلك ببساطة، فما من أبواق نسمع نفيرها منبئة بلعنة تحل على من يتلصص على عري أخته، وما من تمهيد كبير لإقدام صبي على لمس قدم صبي في الصلاة زلفى لأختيه. ويبدو أن هذه البساطة في العرض كلما ازدادت، ازداد تأثير النصوص في القارئ.

من أكبر إغراءات هذه النصوص، التي كثيرا ما تشير إلى قصة بدلا من أن تبذلها لنا، أن القارئ يجد نفسه مدفوعا إلى بناء قصصه الخاصة حول قصص الكتاب. ففي كثير من النصوص بذور يسهل على من يتعهدها بالتأمل أن يقيم لشخصيات القصص ماضيا، أو يتخيل تفاصيل إضافية في حاضرها، أو مسارات إلى مآلات محتملة. ولعل من أخصب الخامات المتاحة لهذه اللعبة راوي القصص نفسه.

يروي عبد الموجود الغالبية الكاسحة من النصوص بضمير المتكلم، فيكون الأبطال "أبي" وأمي" و"جدي" و"جارنا" و"ابنة عمتي"، ثم "ناظر  مدرستنا"، ثم "زميلي في العمل" ثم "مديرنا"، فضلا عن عبارة في قصة نصها "ها أنا أضعت نصف القصة". هكذا يسهل علينا أن نستخلص من نثار موزع على مدار النصوص ملامح حياة كاملة لشخص، منذ طفولته في مجتمع ريفي ما، وحتى احترافه كتابة القصص أو تجارة الحكايات، مرورا بمخاوفه وألعابه وإحباطاته وفواحشه، وحتى مزاجه الجنسي.

أما من يعزفون عن بذل هذا الجهد فلهم في النصوص بما هي عليه كثير من العطايا. ولعل من أهم هذه العطابا خلخلة كثير من الثوابت، بل البديهيات. فلدى حسن عبد الموجود ولع بالشخصيات منحرفة الطبع، أو فاسدة الطبيعة. ولا يقتصر هذا فقط على صبي يستغل صلاة الجمعة ليتخذ ولدا مطية إلى "أختيه"، ولكن لدينا أمًّا تفضل لو أن ابنها هو الذي مات وليس الدجاجات في نص جدير بأن يحمل قارئه على مراجعة مسلماته عن الأمومة. وثمة نصوص أخرى تزعزع صورة الأبوة والبنوة والأخوة والجيرة، وغير ذلك من العلاقات التي يقوم كل مجتمع على رسوخها وما يرتبط بها من أوهام أو مبالغات.

فضلا عن أن في الكتاب نصا بطله يجلس بادي البراءة في سيارة أجرة، منتظرا بفارغ الصبر أن تتحرك به السيارة، لتطرب أذناه بسماع جمجمة رضيع تتهشم تحت إطارها. لو أن نصا كهذا كفيل بأن يفقدنا أي ثقة في الفرد الذي نجاوره في حافلة أو طائرة أو صلاة عيد، فثمة ما يفقدنا الثقة في المجتمع الذي نعيشه فيه بالفعل لا الذي نقرأ عنه في نصوص يفترض أنها خيالية. وفي نص بالكتاب بلد أهله كلهم فاسدون، رضي نصفهم بالتجسس لحساب الحكومة على النصف الآخر، حتى اختل أداء أولئك المخبرين أو قويت شوكتهم، فرضي نصف الشعب الآخر بالقيام بمثل دورهم.

أغلب ظني أن دافع حسن عبد الموجود إلى مغامرة "تاجر الحكايات" هي إحساس ـ كان طبيعيا في تقديري أن يعتريه بعد سنين من كتابة القصة القصيرة وقراءتها ـ بأن في كل شيء قصة. في "تاجر الحكايات" مثلا قصة عنوانها "البوكس" ـ وذلك هو الاسم الشائع لسيارة الاعتقال الشرطية في مصر ـ هي عبارة عن نكتة، فبنيتها شائعة في النكات، وهي بلغتها الفصيحة نكتة مضحكة، ولكني أضمن لمن يترجمها من القراء إلى العامية ويلقيها على غيره أنها لن تخذله.

وتبلغ قناعة عبد الموجود بأن في كل شيء تقع عليه العين قصة حدَّ أنه يترجم بتصرف مشهدا سينمائيا ذائع الشهرة جاعلا من ترجمته قصة جديدة (هي "حنان")، وأعني مشهد تفتيش الجماعة الحقوقية للمعتقل سيء السمعة في فيلم "البريء" للراحلين وحيد حامد وعاطف الطيب، لكن عبد الموجود يحول المعتقلين إلى مجندين لا يلقون الحد الأدنى من المعاملة الإنسانية إلا في لحظات الحضور العابر لعدسات الإعلام، ولعل هذا التغيير العميق هو الفارق بين زمن إنتاج (البريء) في ثمانينيات القرن الماضي وزمن كتابة (تاجر الحكايات). ومثل هذه القناعة هي التي تجعل عبد الموجود يقدم على استلهام قصة (هي قصة "أطلس") من نص للشاعر والكاتب محمد خير. وهذه القناعة أيضا هي التي تجعلنا نصادف في "تاجر الحكايات" نصا تاريخيا، وأتصور أن هذه سابقة، إذ لا أعرف (قصة قصيرة جدا) تاريخية، شأن الرواية التاريخية أو المسرحية التاريخية. وفي الكتاب قصة رعب، وقصة إثارة، وقصة فنتازيا. وفي تاجر الحكايات قصة كلها دعاء، وأخرى ليست سوى مناجاة. وكأن حسن عبد الموجود اكتشف الطاقة القصصية في أي شيء، وفي أي شكل، وفي كل لغة. ولعل هذه رسالة إضافية يبعثها "تاجر الحكايات" إلى قارئه: في كل شيء تقع عليه العين قصة، لا ينقصها لكي تتحول إلى فن غير فنان، نعم، فنان لا تاجر.


نشر المقال في مجلة إبداع، عدد ديسمبر 2024

Saturday, December 14, 2024

مولاي... إني ببابك قد بسطت يدي

 

مولاي... إني ببابك قد بسطت يدي

لا أعرف أهي أجمل قصائدي أم لا. لا أعرف أهي قصيدة أصلا أم لا. لكني أعرف أنها كانت تثير فيمن يسمعها مني رد فعل لا أجده منه بعد أي قصيدة أخرى لي. رد فعل أقرب ما يمكن أن يوصف به أنه شهقة. ليست بالشهقة الحادة، لكنها شهقة. رهيفة ووجيزة. صوت قد تخطئ فتحسبه ضحكة، أو أخطئ فأحسبه شهقة.

وأحيانا كانت تتبعها كلمة إعجاب.

وقد تكون كلمة الإعجاب هي الله.

***

ليس الشاعر، صاحبُ القصيدة، هو الحكم النهائي عليها. فبوسع أي قارئ أن يستحسن قصيدة ويستبشعها الشاعر، أو العكس، ولا سلطان لرأي الشاعر.

ولكن صاحب القصيدة قارئ أيضا، وقارئ نادر لقصيدته، يعرف لا أسباب نشأتها فحسب، ولكنه يعرف أيضا كيف كان ينبغي أن تكون، يعرف ما قصرت عنه، أو يعرف أنها قصرت عن شيء وإن لم يعرفه. وذلك هو حالي.

كنت أعرف أن هذه القصيدة ذات الكلمات القليلة، وكأنها تطمح إلى الهايكو، قصرت عن شيء.

لا أعتزم أن أثير الفضول أكثر من هذا. إليك القصيدة، وحسبي أنني مهدت لها أسوأ تمهيد ممكن، إذ جعلتها ملزمة بأن تستدعي منك شهقة، ولا أحسبها الآن فاعلة ذلك:

عدني يا الله

عدني ألا تقرأ شعري

قبل أن أكتبه.

***

كنت قد استقررت على أن يكون عنوان ديواني الأول هو "طريق جانبي ينتهي بنافورة"، بتأثير من عناوين كتب الشعر في التسعينيات من القرن الماضي. ولم تكن في ذلك الديوان قصيدة تحمل هذا العنوان، وذلك أيضا دأب دواوين الشعر أيامها. ولكن العنوان كان يمثل لي وصفا جماليا للكتاب النحيل، إذ بدا لي طريقا، وبدا جانبيا، لا يكاد يدب فيه غيري، وينتهي بنافورة. والنافورة كانت قصائد قصيرة في آخر الكتاب، مرقومة، علاجا لنقص العناوين.

والحق أنها لم تكن، جميعها، قصائد.

مضيت وقد استقررت على عنوان الكتاب أبحث في أجنداتي التي كتبت فيها على مدى عمري عما يصلح ضمه لكتابي الأول، فكنت أجد في القصائد المضطربة سطورا قليلة مضيئة فأستلها، أو مقاطع مكتفية بنفسها، أو أزيح وشيشا كثيرا كريه الحضور عن نغمة تبدو لي عذبة على قصرها، ومما عثرت عليه كلمات تلك القصيدة، بلا وشيش حولها، ولا ذيول بعدها، هي هذه السطور الثلاثة فقط.

لم تكن موثقة. وكنت مهما بلغت تفاهة مسودة لي أحرص على تأريخها، وتوقيتها، وتحديد مكان كتابتها. ولأمر ما، لم أفعل ذلك في تلك الكلمات أو تلك القصيدة. فبدت وكأنها مكتوبة خارج الزمن، وقادمة من خارج المكان. واجهتني حينما واجهتني، منفردة بصفحة من أجندة، مكتملة، غنية عن الإضافة، متمنعة على الحذف، وكنت صاحب أول شهقة.

رأيت أن أجعلها في آخر الكتاب الذي صدر ضمن مشروع نشر مموّل من بيت الثقافة في بنها. كان كتابا فضيحة. شديد القبح. على غلافه لوحة فنان من المحافظة أليق بكتاب عن عذاب القبر. خجلت من الكتاب فحبست نسخي إلا أقل القليل. وكانت عندي نسخة من الكتاب بخط يدي، فصورت منها نسخا قليلة، وطويت كلا منها على هيئة كتاب، وجعلت لنسختي أنا غلافا من لوحة لسلفادور دالي ووزعت بقية النسخ القليلة على أقرب أصدقائي. ونسيت أمر ذلك الديوان، سواء في طبعته القبيحة، أو بديلي الرخيص.

لولا أن تلك القصيدة الأخيرة بقيت ترافقني.

كنت أحب لو بقيت منه قصائد أخرى، قصائد حكيت فيها قصة حبي الأولى، أعني الكبيرة والطويلة والمؤثرة، التي، خلافا لسابقاتها الكثيرة، صمدت معي وصاحبتني من سنوات الثانوي مرورا بالجامعة، ولم تتركني، إن كانت تركتني، إلا بعد أن أصبحت مترجما يعمل في مؤسسة حكومية، ويدخن السجائر مع رجال في عمر أبيه، منزاحة إلى ركن منزو في عقلي، بل في قلبي، فلا ينبغي لنا نحن الشعراء أن يغير العلم معجمنا.

***

طبيعي في ظني أن تكون للقصائد الغرامية بطولة الكتاب الشعري الأول. طبيعي أن تكون اللوعة، والسخونة، والبحث في فتاة عما لا تستطيع الدنيا بأسرها أن تمنحه لأحد، هي الشاغلة لشاعر كتب قصائده حول العشرينيات من عمره.

لكنني أعلم أنني لو تصفحت ذلك الكتاب، وهو ما لا أجرؤ أن أفعله، سأجد بجوار تلك القصائد هموما أخرى، بل وفي ثناياها، سأجد أوجاعا  لا علاقة مباشرة لها بتلك الفتاة، وتلك المشاعر:

هناك هناك هناك

في الصور القديمة،

حيث تبدو السماء بيضاء

وكل واحد من البشر السودِ

فيه دائرة بيضاء

شغلتها الوجوه بعد ذلك

هل كنت أعرف حين كتبت تلك السطور ما تقوله حقا: أننا في صورنا القديمة، أو نسخنا المتروكة، نشترك مع السماء في شيء؟ لا، لم أكن أعرف هذا.

ثم، ما علاقة الحب الأول بذلك، بالسماء البيضاء، والدوائر التي لوثت بياضها القسمات والملامح لاحقا؟ واضح أنه ما من علاقة. لكنني أعرف أن العلاقة قائمة، وأن هذه العلاقة هي التي جعلت ذلك الغرام الأول مستحيلا، أنني كنت أبحث عن السماء لكن في فتاة!

كان مطلوبا من تلك الفتاة، وهي أيضا كان عمرها سبعة عشر عاما، أن تعوض ذلك الشاعر صغير السن عن عدم قدرته على مقابلة الله، بالوتيرة التي يحتاج إليها وبالطريقة التي يريدها، أن تلهيه عن شبح الموت، وحلم الاختفاء، وتنسيه بائعة الخضار العرجاء الطاعنة في السن التي عذبته منذ طفولته المبكرة بصوتها الساحر وهي تروج بضاعتها بالغناء، أو تبرر غناءها بالبضاعة. كان مطلوبا منها أن تغنيه عن ذلك كله، أو تعزله عن ذلك كله، أو تفيض عليه بالجمال فيسكر ويذهل عن كل شيء. أو،

"أردنا فقط أن نسير ببطء

فيسبقنا العالم".

لا أعرف بصدق هل كانت تريد ذلك، لكني أردته بشدة، واستعصى عليَّ بشدة. أردت أن أختفي، في طريق جانبي ينتهي بنافورة أو في غيره. أردت بصدق أن أشير للعالم بأن تقدم أنت على الرحب والسعة، ودعني هنا وراءك. لكن أين؟ أين والعالم مصرٌّ على أن يحتل القادم والغابر والحاضر وعلى ألا يترك شبرا لغيره؟

وإذن:

"تدخلنى رئتيها

تجمع من ذاكرة الناس:

ملامحي

ونكاتي

قهقهاتي

وأثر احتكاكي بأكتافهم في العربات.

تملؤنى بما تناثر منى

وتفرغنى من كل شيء أخذته من كوكب الأرض".

كنت مستعدا لرد كل ما حصلت عليه، كي يخلي العالم طرفي، ويتركني وشأني؟ لماذا؟ لماذا حقا رأيت أن سعادتي، أم حريتي؟، لن تتحقق لي ما لم أتخلص من كوني مرئيا، حاضرا، موجودا.

وكيف كان لعلاقة حب أن تصح بين أي فتاة وشخص كهذا يستثقل هو نفسه وجوده؟

***

أم أنه كان يأسا من قيام علاقة سوية مع العالم، ومع الآخر، وحتى مع الله؟

"عدني يا الله

عدني ألا تقرأ شعري

قبل أن أكتبه".

مجترئة على الله؟ هل التجاوز في مناداة الله بهذه الطريقة لا يغتفر، أبدا؟ فماذا عن الطلب نفسه: لا تقرأ شعري قبل أن أكتبه؟ مع ذلك، أعرف أنه طلب لا يطلبه إلا مؤمن، يعرف أن الله مطلع عليه، على ما كان من أمره، وما يكون، وما كان يمكن أو لا يمكن أن يكون؟ ولد صغير يريد أن يأتي بشيء لم يره أحد قبله، لا يهم أن يكون عظيما، أو جميلا، لكنه يريده بكرا، خالصا، لم تقع عليه عين من قبل، وإن تكن عين الله.

ولد صغير زيَّن له الشعر سوء قوله؟

نعم.

أم ولد صغير أظهر له الشعر بابا سيظل يطرقه حتى النهاية؟

***

ظل في نفسي من تلك القصيدة شيء. ظلت تعاودني، وحيدا، في أوقات تختارها هي، وأخرى أختارها أنا. حتى خطر لي بعد سنين، في خريف 2014،  أن ما أردت أن أقوله هو:

"عدني يا الله

عدني ألا تقرأ شعري

حتى أكتبه".

نعم. لعل القصيدة هكذا تقول ما أرادت منذ سنة 2000، حين صدر الكتاب، أن تقوله. لا زلت فيها أطلب من الله ألا يقرأ شعري (إلى أن) أكتبه، لكنني بت أيضا أطلب منه ألا يقرأ شعري (لكي) أكتبه.

لا تزال القصيدة تعني أن شعري موجود قبل أن أدرك أنا نفسي وجوده، موجود عند الله، يملك أن يقرأه حتى لو لم أكتبه. وهو الغني، وهو العليم.

لكن القصيدة، فجأة، باتت تعني لي أن الله هو المحك، هو الذي من أجله أكتب، فإن قرأ ما لم أكتبه بعد، فأي داع إذن للكتابة؟

***

خريف 2024:

أريد الآن لقصيدتي أن تقول: يا رب

"عدني يا رب

عدني ألا تقرأ شعري

حتى أكتبه"

نعم، بنبرة شحاذ يقول يا رب، تكتمل القصيدة.



نشر المقال في أخبار الأدب بتاريخ 15 ديسمبر 2024