مقتل البحار العجوز
تروى "قصيدة
البحار العجوز" لصمويل تيلور كوليردج، التي طبقت شهرتها الآفاق، حكاية بحار
عجوز يتنقل من بلد إلى بلد، تنقُّل الليل، باحثا عن شخص يعرفه حين يراه، وله يروي
الحكاية.
أتنقل مثل الليل، من بلد إلى بلد
ولديَّ قدرة عجيبة على الكلام
وفي اللحظة التي أرى فيها وجهه
أعرف الرجل الذي يجب أن يسمعني
وله أروي حكايتي
لا بد أنه
حكاها مرات كثيرة قبل تدوين القصيدة، ولا بد أنه حكاها مرات كثيرة بعد ذلك، وكل
مرة لشخص مختلف، ولكنه في النسخة المثبتة في القصيدة كان شخصا ذاهبا مع رفيقين إلى
عرس ابن عمه، وظهر لهم البحار بعينيه المتوهجتين ولحيته البيضاء، فاستوقفه من
دونهما، وأسمعه الحكاية، وفي النهاية:
ها هو الضيف
وقد أعرض الآن عن العرس
مضى كمن نزلت عليه صاعقة
فسلبته رشده
ونهض في صباح اليوم التالي
أعمقَ حزنا وأشدَّ حكمة
لا بأس من
إيجاز الحكاية التي سمعها ضيف العرس فصرفته عن البهجة الصاخبة، وأسلمته للحكمة
المشوبة بالحزن، أو ربما للحزن الحكيم. كان عشرات البحارة على سفينة تائهة، وظهر
لهم في تيههم طائر القطرس، فطاب بظهوره الحظ وصفا الجو وأدرك الملاحون وجهتهم ومضوا
في بحر رائق دافئ نحو الأمان، يصحبهم القطرس، فيطعم معهم ويشرب، ثم أطلق أحد البحارة
لاهيا سهمه فقضى عليه. وانقلب الحال، وتساقط البحارة صرعى:
مئتان من الرجال الأحياء
(وما سمعت أنة ولا زفرة)
بخبطة ثقيلة سقط الواحد
بعد الآخر، كتلةً هامدة
لم ينج منهم
إلا واحد، هو البحار القاتل، العجوز، المثقل بما اقترفته يداه، وما شهدته عيناه، المحكوم
عليه بالترحال، حاملا الحكاية، يحكيها لمن يعرفه حين يراه!
أسئلة كثيرة تنهال
على قلب من يقرأ القصيدة للمرة الأولى، وتستولي على عقله، وبالذات إذا كان طالبا غرًّا
في الثامنة عشرة، يدرس الأدب الإنجليزي في الجامعة كما كان حالي، فتظل تطارده الأسئلة،
بل تصاحبه في عودته من المدينة الصغيرة حيث جامعته الصغيرة إلى القرية البعيدة حيث
بيته البعيد، في نهاية يوم دراسي شتائي، مسلما وجهه للنسيم البارد وقد جعله الميكروباص
بمروقه المتهور عاصفة لشخص واحد سارح العينين في الحقول المبسوطة حتى السماء،
تحدثه نفسه بأنه لن يذهب أبدا إلى العرس بعدما سمع الحكاية، وبات هو الآخر أعمق
حزنا، ويأمل أن يزداد حكمة.
لسنين، سيسأل
نفسه، ويسأل القصيدة، ولا يجاب: ما الذي كان يراه البحار في شخص فيلقي إليه الحكاية،
ويلقي عليه لعنتها؟ ما الجريمة التي كان ليرتكبها قارئ تلك القصيدة، وبدم من كان
ينبغي أن تتلوث يداه، لولا أن رمته الصدفة إلى "قصيدة البحار العجوز" أو
رمتها عليه؟
من شتى
تفسيرات القصيدة التي عرضها الأستاذ على طلبته، يميل صاحبنا إلى قراءة القصيدة في
ضوء الخطيئة بالمفهوم المسيحي، وثقل الألم على مقترفها. لن يحفل بأفكار من قبيل أن
العدوان المجاني هو الذي أوغر قلب الطبيعة على أبنائها، أو أن التنكر للفأل الحسن
هو الذي استجلب اللعنة؟ وستبقى محفورة في عقله طويلا صورة البحار المذنب إذ استبدل
بالصليب المعلق في رقبته جثة القطرس القتيل؟ وسيقرأ عن الندم إذ يثقل كاهل البحار،
فيحار في ندم آخر لا بد أنه أثقل كاهل ضيف العرس، ندم على خطيئة لم يتركبها!
"قصيدة البحار العجوز" إحدى قصائد قليلة تخلد لكوليردج مكانه وسط
شعراء الإنسانية المعدودين، وإحدى أكثر قصائد شعراء الرومنتيكية الإنجليز حظوة بالدراسات،
ولعلها من أروج قصائدهم لدى أجيال القراء المتعاقبة، لما فيها من إيقاع عذب، وصور
شعرية مؤلمة الجمال، وغموض فاتن لا تزيده كثرة القراءة إلا عمقا.
وفي السنين القليلة الأخيرة، شاعت القصيدة في دراسات النقد الإيكولوجي Ecocriticism،
شيوعا لا يصادف هوى في نفسي، كحال كل الاتجاهات النقدية التي لا تعنى بأدبية الأدب
وجمالياته، وإنما بتوظيفه، بل تجنيده، للنضال في قضايا النسوية أو الكولونيالية أو
البيئة أو غيرها. ولا تكاد دراسات النقد الإيكولوجي هذه تبالي برمزية القصيدة، ومأزق
البحار الوجودي العميق، لأن ما يعنيها تحديدا هو العدوان على الطبيعة، بل البيئة.
وهذه القراءة لها بالطبع ما يبررها، إذ تجسد القصيدة الأواصر البديهية بين
الإنسان والطبيعة، باعتباره جزءا منها، وعنصرها العاقل، وباعتبارها أمه التي تعاقبه
على الخطأ في حق أخيه الطائر. وفي حين أن هذه العلاقة لا تعدو أحد مستويات
القصيدة، وسِمةً يرصد نقاد الأدب تواترها عند الرومنتيكيين، فإنها تمثِّل لدعاة النقد
الإيكولوجي بؤرة اهتمامهم، حتى لو أن الهم البيئي ومفهوم البيئة العلمي نفسه لاحقان
على القصيدة والشاعر ووعيه ووعي عصره. وليست قصيدة كوليردج الضحية الوحيدة لهذا
المنهج النقدي غير الأدبي، فقد استهدف النقد الإيكولوجي منذ التسعينيات تقريبا روائع
من قبيل "موبي ديك" و"الشيخ والبحر" اللتين يجد قراء الأدب
فيهما منذ عقود قيمة فكرية وشعورية ورمزية، ويشتم فيهما العبق الذي قلَّ العثور
عليه في غير كلاسيكيات الأدب الراسخة الحية منذ قرون.
من الدراسات ما يقول مثلا إن قصيدة البحار العجوز "يمكن يقينا أن توصف
بالقصيدة البيئية أو المقطوعة الشعرية الإكونقدية ecocritical"،
ومنها ما يذهب إلى أن "فعل قتل [الطائر] يخلُّ بالتناغم بين الإنسان والطبيعة"
أو إلى أن "حياة الطبيعة الأم تتهدد بتهديد البحار للأمومة والتكاثر والخيال
والأنوثة. [ثم إنه] ما من حديث عن أسرة للبحار، ويبدو أنه لا مكان له في عائلته
وهو ما قد يشير إلى أن البحار لم يعد أحد عوامل التكاثر. والبحار في وطنه يبدو
شخصا عقيما، وبيديه النحيلتين يبدو أرضا بورا تتناقض أشد التناقض مع خصوبة طقس
العرس القائم".
هذه سطور مأخوذة فعلا من دراسة "نقدية" لا من ملف دعوى مرفوعة
أمام محكمة الأسرة. وبرغم أن تشوه هذه القراءات لا يحتاج في نظري إلى دليل، فلا
بأس من التدليل برؤيتها لطقس العرس. ففي حين أن العرس لا يزال يبدو لي منذ قراءتي الأولى
للقصيدة رمزا لكل بهارج الدنيا التي تنكشف هشاشتها فور أن تبهتنا حكاية البحار وكشفها
لطرف من حقيقة الوجود ونزر من غموضه، فإن العرس يبدو لهذه الدراسة رمزا للخصوبة
والتكاثر، دون أن تدعم القصيدة ذلك بشيء. فيا له من سهم قاتل يطلقه الإكوكريتيسيزم
على البحار العجوز!
يركز النقد الإيكولوجي عموما على الأدب في تناوله للبيئة وتفاعل الإنسان مع
كائنات محيطه، وأثر البيئة على الإنسان، ولا ضير طبعا في دراسة هذه العلاقات
والتأثيرات، ولا بأس من تلمُّسها في الأدب حيثما تظهر، شريطة ألا يكون في ذلك تعسف
وليٌّ لأعناق أعمال أدبية تكاد تصرخ بأن معانيها العميقة مغايرة لهذا الطرح البيئي،
وبأن غاياتها الكبرى جمالية لا دعائية، مهما يكن نبل الدعوى.
الحق أن بادئة eco
التي التصقت بالنقد، والمأخوذة من جذر لاتيني يعني "البيت"، قد التصقت
في السنين والعقود الأخيرة بعشرات الكلمات، موجهة إياها إلى مراعاة البيئة،
فالتصقت بالسياحة والتصنيع والتصميم والتخطيط وعشرات الكلمات، فضلا عن اصطباغ
أجندات أحزاب سياسية وحركات معارضة بالبعد البيئي. ولا أحسب أن أحدا يمكن أن يعترض
على توجيه شتى أنشطة الإنسان وجهة تحترم البيئة، فجدير بكل من ينحاز إلى الإنسان
أن ينحاز إلى الرشد في التعامل مع العالم المحيط به بكل مفرداته. لكن لماذا ينبغي
أن نتطرف إلى حد قراءة الأدب قراءة علمية سقيمة؟ لماذا ينبغي أن يتحول الأدباء ومحبو
الأدب إلى ناشطين، والأدب نفسه إلى دعاية، مثلما تحولت "الطبيعة" إلى
"بيئة"؟
لقد تعاملت الأديان والفنون على مدى تاريخ البشر بمحبة وحنان بالغين مع
الطبيعة، وإلا فما السر في كل لوحات المناظر الطبيعية، بل والطبيعة الصامتة، وما
السر في مفتتحات مئات الروايات التي تتفنن في وصف الآفاق، فضلا عن آلاف القصائد؟ مؤكد
أن السر ليس الحرص على نسبة الأوكسجين، أو الخوف على طبقة الأوزون، أو الضغط لتقليل
حرارة الكوكب بمقدار درجة ونصف الدرجة بحلول سنة كذا. وإنما هو الافتتان بالجمال،
والامتنان له، والإحساس بأننا وكل ما حولنا أسرة واحدة.
فلماذا نجرد موقفا نبيلا تجاه الطبيعة، الحية والجامدة، من حمولته
العاطفية؟ لماذا نعلل سعينا إلى حماية البيئة من جور الرأسمالية الجشعة وطغيانها
بالمنفعة والوظيفة لا بحب الجمال وفضيلة حسن الجوار بيننا وبين الشجر والحجر؟ لماذا
تشعر الإنسانية أنها كبرت على الرؤية الرومنتيكية للعالم فتطمس معالمها ما
استطاعت؟ لماذا نكفر بأغنية كوليردج ونعتنق الإكوكريتيسيزم؟ لماذا يصعب أن نقول لأنفسنا
ببساطة ما يقوله البحار العجوز لضيف العرس قرب نهاية القصيدة:
وداعا، وداعا،
لكن اسمعها مني يا ضيف العرس:
أحسنُ الناس صلاة أحسنُهم حبًّا
للناس والطير والدواب.
وأحسنُ الناس صلاة أحسنهم حبًّا
لكل الأشياء، كبيرها وصغيرها.
· جميع مقاطع القصيدة من ترجمة د. حسن حلمي في كتابه
"الستة الكبار"، الكتب خان، القاهرة 2024 ـ عدا المقطع الختامي فهو من
ترجمة كاتب هذه السطور
· نشر المقال في العدد 66 (يناير-مارس 2025) من مجلة الجسرة الثقافية