Thursday, September 04, 2025

دروس محمد عبدالنبي في القصة والحياة

 

دروس محمد عبدالنبي في القصة والحياة






يبدو كثير من كتاب القصة الآن فقراء حكائيا، فهم يتسولون ما يبرِّر نصوصهم، ويحاولون بألعاب شكلانية أو زخارف لغوية إلهاء قارئهم عن حقيقة ـ بل خيبة ـ أن القصص التي يقدمونها ليست "قصصا" حقا. ولكن قارئ أحدث مجموعة قصصية للمصري محمد عبد النبي، وهي "سهرة درامية" (دار المحروسة - 2024)، يجد كتابا عظيم الامتلاء بالحكايات، عظيم السخاء بها، بل إن سخاءه يجاوز الحكايات إلى حد منح القارئ سر الصنعة القصصية نفسه، فكأن "سهرة درامية" ورشة من ورش تعليم الكتابة القصصية التي تخصص فيها عبدالنبي في السنين الأخيرة.

يوشك قارئ هذا الكتاب أن ينتهي منه إلى أن القصة أمرها هين، فكل ما على المرء هو أن يشرع في الكتابة عن أي شيء، وسيخرج عاجلا أم آجلا بقصة ما، قد يتعين عليه لاحقا أن يحذف مها زوائد، من قبيل المقدمات أو الاستطرادات، ليخلُص إلى القصة، أو أن يكثر من هذه الزيادات لأنها هي القصة. لكن المهم هو أن فعل الكتابة نفسه على الأرجح سوف يسوقه سوقا إلى كتابة عمل قصصي ما. فبطريقة ما، قادتني قصص هذه المجموعة إلى يقين قديم بأن كل كتابة إنما هي بطريقة ما قصة.

بل ويتبين أيضا من قصص "سهرة درامية" أن المرء قد لا يكون بحاجة إلى لغة بليغة مما يعهد في الأدب، فمن الممكن استعمال نطاق عريض من المستويات اللغوية يتسع للعامية الصريحة في الحوار وحتى في السرد، أو للتراكيب العامية المنقولة إلى الفصحى، أو الفصحى المغرقة في التراثية، وهذا وإن نأى عن البلاغة يبقى منطويا على جمال. فلا يجد عبدالنبي ضيرا من القول بأن أمرا ما "تمام جدا معه" أو بأن فلانا "فتح كلاما" مع علان، أو بأسا في استعمال مفردة يندر أن نصادفها في غير شعر الثمانينيات من قبيل الـ"شفيف" أو تركيب ينتمي إلى مرحلة ما قبل الستينيات عند محفوظ من قبيل "لشدَّ ما أحزنه" كذا.

غير أنه يجدر بقارئ الكتاب أن ينتبه إلى أن السهولة البادية في هذه القصص خادعة. فعبدالنبي لا يطلق قلمه على الورق، ليرى ماذا يكون من أمره، وإن بدا أن هذا عين ما يفعله. فكثير من هذه القصص، بل كلها تقريبا، اقتضى على الأرجح إما تفكيرا طويلا للغاية سابقا على الكتابة، أو إعادة كتابة للقصص مرات قبل الاستقرار على نسخها النهائية.

وما يرجح هذا هو أن عبد النبي كثيرا ما يبدأ قصته بنقطة بعيدة عن جوهر القصة التي يريدها، وهذا بناء يصعب أن يسلم نفسه في الكتابة الأولى حتى لكاتب راسخ. في قصة "سهرة درامية مثلا"، يظل الكاتب طويلا منهمكا في وصف حياة البطلة ريم في شيخوختها، وفي صباها البعيد، راصدا علاقتها بالقصر الذي احترق ذات ليلة وبدأت باحتراقه القصة. ويمضي الكاتب مع البطلة في حياتها طولا وعرضا. أما السهرة الدرامية التي قضتها ريم مع فريق التصوير الإخباري الذي جاء لتغطية حريق القصر، أو السهرة الدرامية التي قضتها مع صديق قديم هو والد أحد أعضاء الفريق الإخباري، فلا تحتل من القصة إلا مكانا محدودا، برغم أن قارئا قد يتصورها غاية أساسية للقصة بما أن العنوان نفسه يشير إليها.

يلجأ عبد النبي إلى البداية البعيدة أيضا في قصة "قطعة أويما"، فهو لا يمضي بنا رأسًا إلى قصة المراهق الذي أحب معلمته في المدرسة، بينما أحبت المعلمة النجار الذي يعمل التلميذ صبيا متدربا لديه. لكنه بدلا من ذلك سيضعنا في شقة ذلك التلميذ وقد صار شيخا، ويرينا روتينه، وما يشغله في حاضره، بل ما يلح عليه في هذا الحاضر، سيرينا علاقته بابنيه وبنته المغتربة، وخادمته. سيوهمنا بأن القصة هنا، في هذا الواقع المسلسلاتي، ثم يضعنا فجأة في قلب القصة القديمة.

هذه البداية البعيدة توسع رقعة العالم في كل قصة، وترغم القارئ، أو أنا على الأقل، على الانتهاء إلى أن ما نفترض أنه "جوهر" كل قصة، أو مركزها، إنما يفقد كثيرا من ظاهر أهميته بمحض مرور الزمن، وأن كل شيء تقريبا مما يلح علينا في الحاضر ونرى أنه محور حياتنا، يتكشف بمرور سنين عن واقعة بسيطة، مهما بلغت أهميتها وقت حدوثها، فقصة الغرام المحرم اجتماعيا بين مسيحية هي المعلمة ومسلم هو النجار،  تتحول ـ وإن انتهت بموت مأساوي ونفي مأساواي ـ إلى محض ذكرى لدى شيخ يفاضل بين الخادمات وينشغل بوجبة السمك الأسبوعية، كأن يديه ليستا ملطختين بدم قديم. وهكذا، ينزاح المركز المفترض انزياحا واضحا إلى أطراف القصة التي يبقى محورها الراوي الحي الأبقى من الميت.

***

و"القصة" نفسها بطلة في كثير من قصص هذا الكتاب. ففي قصة "مفاتيح بلا فائدة" مثلا، يمثل النص كله من أوله إلى آخره محاولة ماكرة من راوٍ لتسريب فكرة معينة إلى شاب يوشك على السفر بحثا عن مغامرة أو منفعة، ويحاول الراوي الشيخ بطريقة ملتوية أن يغريه بالبقاء، فلا يجد سبيلا إلى ذلك غير مخادعته بحكاية مثيرة، وواضحة التلفيق أيضا. لا ينبئنا عبد النبي بطبيعة العلاقة بين الشيخ والشاب، مكتفيا بفضح رغبة الشيخ في استبقاء الشاب بجواره، واستعانته على ذلك بالحكاية. كأننا أمام شهرزاد في صورة أخرى، لا تشتري بالحكي حياتها لنهار إضافي، وإنما تشتري رفقة في الحياة. كأننا أمام الشيطان في حكاية السندباد، لكنه بدلا من أن يلف أفعواني ساقيه على سندباد، يلف حوله حبال حكاية. ينثر الشيخ عناصر كثيرة مثيرة، منها رحلة على الإبل في الصحراء هربا من البوليس السياسي، وقصر في الصحراء، وملحق بالقصر فيه أربعون غرفة كلها مباح للراوي عدا غرفة، ويتفنن الشيخ في تعداد مقتنيات هذه الغرف، فيأتي بعضها بديهيا شأن طوابع البريد، وبعضها سحريا: فهو غيوم محبوسة في زجاجات، أو موسيقى مجمدة في إطارات!

وكما لا يجد الشيخ في (مفاتيح بلا فائدة) وسيلة غير القصة لتحقيق مآربه، لا يجد حمدي في قصة "المعطف" غير القص أيضا لاحتمال حياته. في مواجهة واقع عصيب، بسبب وباء كوفيد، فضلا عن الفقر والقهر والفساد، وفي مواجهة الخذلان من الأخ ـ وهو بمنزلة أب صغير لحمدي ـ وفي غياب أي صديق للشاب الذي يمتهن مهنا بسيطة للغاية، يتخذ حمدي من معطف مستعمل صديقا ورفيقا، يتخيل مالكه السابق شابا أوروبيا يقيم في كوخ داخل غابة، وله صديقة لا تحتمل وجودها في حياته ولا تحتمل إخراجه من حياتها. وباختلاق هذا الصديق المتجسد في معطف، يحتمل حمدي حياته هنا في القاهرة برغم كل ما فيها من  مشاق.

وشأن حمدي، ثمة شيخ كبير في السن، هو سراج أو سمير، يتعين عليه في شيخوخته، لكي يشبع فضلة احتياجاته الجنسية، أن يستحضر بالخيال قريبات قديمات. ومثلما يلجأ حمدي وسراج إلى الخيال أو القصة لاحتمال الحياة، ثمة صحفي في قصة "إقامة طيبة"، وهي أجمل قصص الكتاب في تقديري، يهرب من قصة بطل رياضي اختفى إثر حادث إليم، فلا يهرب من القصة إلا إليها، إذ يجد نفسه فى سرير البطل الرياضي القديم الذي يحاول جمع خيوط حياته، ويجد نفسه في قريته، قرية الصيادين على البحيرة، يعيش مع أبويه. هذا الصحفي المصاب بعرج خفيف، ذو الشبه الكبير بوالد الرياضي المختفي، الذي يألف قرية الصيادين منذ أن يضع قدمه فيها، يألف أيضا حياته فيها حتى ليهجر حياته السابقة بالكامل. وإذا بصحفي  عاجز عن إكمال قصة صحفية ينتهي وهو نفسه بطل القصة، أو تجسيد له. هذا فضلا عن إشارات كثيرة تدفعنا دفعا إلى تخيل ملابسات بوليودية لاحتمال أن يكون الصحفي نفسه هو البطل الرياضي ولكنه فقد ذاكرته مثلا أو استعادها أو اضطر إلى هجران هويته ثم إلى التمسح فيها.

والقصة أيضا هي التي تساعد عبدالله في قصة (عبد الله الآخر) على مواصلة الحياة. فبعد أن يتعرض للاعتقال بسبب منشورات في مواقع التواصل الاجتماعي، يتعامل عبد الله مع هذا الاعتقال أو يسوغه لنفسه بأن يتخيل رجال الشرطة عناصر تابعة لوكالة ناسا تصطاد بعض ذوي القدرات الخاصة وتخضعهم لاختبارات قاسية لتجنيد الناجحين منهم في مهمة ما. وهذه التقنية تنجح إلى حد أن يشفق عبد الله على عناصر الشرطة المضطربن إلى القسوة عليه لاختباره!

***

لعل دعوة هذا الكتاب، للقارئ، وأثمن ما يعطيه له هو ضرورة أو على الأقل إمكانية أن يستعين على صعوبة واقعه بالخيال وبالقصة وبارتجال الحكايات. ويوشك عبد النبي أن يقدم لنا دليلا بالخطوات اللازمة لإتمام هذه المهمة، فهو بالفعل لا يمنحنا سمكة ولكنه، ربما بأثر من انخراطه لسنين في تدريس الكتابة الإبداعية، يعلمنا الصيد.

قصة (عبد الله الآخر) درس جيد للصيد، يمكن أن يشرع القارئ في تطبيقه على حياته. ففي مطعم، يدخل عبد الله الحمام ليجد فيه مسدسا نسيه أحد الرواد، فينبِّه صاحبَ المسدس إلى مسدسه، وذلك في إحدى نسختي القصة، لكنه في نسخة أخرى تتضافر معها، يسرق المسدس، تماما كما أنك في نسخة أخرى من قصتك، أو كون مواز بلغة روايات الإثارة، لا تقرأ هذا المقال، وإنما تقرأ "سهرة درامية"، وبدلا من قراءتي هذه التي تتصور الكتاب ورشة لتعليم كتابة القصة، تكون لديك قراءة أخرى ترى في قصص هذا الكتاب ما لم يخطر لي، أو ربما تقودك جملة في الكتاب نفسه إلى الشروع في قصتك.

فمن طرق صيد القصص التي يقترحها عبد النبي أن تفتح كتابا، حتى إذا صادفتك جملة من قبيل "ودوَّت صرخة بين الطالبات في منتصف الليل..." إذا بك تفعل ما فعلته ريم، فتضع الكتاب جانبا، وتتخذ من هذه الجملة بابا إلى الواقع من حولك، أو إلى خيال بديل له. ولعلك تجد في كتاب (سهرة درامية) نفسه الجملة التي تترك بعدها الكتاب لتبدأ قصتك، ولتكن مثلا جملة في الصفحة الرابعة والثمانين: "بدأ يسير بهمة وشجاعة، كأنه على موعد مهم مع الدنيا". فهذه الجملة شأن جملة الصراخ في منتصف الليل، تصلح بداية لأي شيء تقريبا.

***

كل أبطال (سهرة درامية) يعيشون في نسخ ذهنية من العالم، إلا عزيز وبطة، فهما يعيشان في الواقع، المليء بسندوتشات الكبدة وأصابع المحشو وقطع اللحم الملبسة. لكنه مليء أيضا بأمراض نفسية، وأمراض سمنة، وضغوط متشددين دينيا، ومصاعب ناجمة عن تغيرات اقتصادية تهوي بالناس من الستر إلى الفاقة.

وبرغم أن (عزيز وبطة) قصة حب، فقد لا تذكِّرنا بقصص حب خالدة من قبيل روميو وجولييت، ولكن بقصة أقل خلودا من قبيل قصة حب عمارة وعدولة في مسلسل (أرابيسك) لأسامة أنور عكاشة. يفرض "الواقع" أن تكون بطلة قصة الحب في كتاب عبدالنبي حولاء، وأن يكون البطل أصلع، وأن يكون الاثنان بدينين، أكولين، معرضين لآلام لا تطاق. كأن الكتاب ينبئنا في نهايته أن الحياة في الواقع، بلا قصة مصاحبة، مخاطرةٌ يحسن اجتنابها.

وثمة مخاطرة أخرى في "القصص" يحذرنا منها الكتاب. في رواية "ساعي البريد يدق الباب مرتين" للأمريكي جيمس كين مشهد لا ينسى، أو لا يجب أن ينساه من يشرع في الكتابة أو في نسج قصة تصاحبه في حياته. تحكي الرواية الشهيرة قصة جريمة قتل ارتكبتها زوجة وعشيقها في حق الزوج. وبدأت التحقيقات مع الزوجة والعشيق، وبعد ضغوط كبيرة عليهما، يدخل محقق إلى العشيق في غرفته بالمستشفى، ويستجوبه فيعترف على نفسه وعلى الزوجة ويوقع على اعترافه. بعد ذلك يتبين أن المحامي هو الذي حصل على هذا الاعتراف، لأنه توقع من العشيق أن يفقد في تلك اللحظة قدرته على تمالك نفسه، وينهار فيعترف بالجريمة التي تواطأ عليها مع عشيقته، فقرر أن ينجيه بهذه الحيلة، أن يسجل اعترافه لكن ليس للمحقق، أن يخلصه من تلك الرغبة القاهرة في البوح، دون أن يدفع ثمنها (حتى وإن ابتزه لاحقا بذلك الاعتراف الموقَّع).

بالمثل، بعض من توضع في أيديهم الأقلام ينتهون إلى كتابة اعترافات تفصيلية عن جرائم قديمة، من هؤلاء الشيخ سراج أو سمير. الذي ارتكب في مراهقته جريمة قتل كاملة الأركان، إذ وشى بحبيبين فتسبب في مصرع الحبيبة وتشرد الحبيب، وعاش بعد ذلك ليعمل ويتزوج وينجب ويترمل ويبحث عن خادمة تشبع احتياجاته الجنسية دونما تأنيب لضمير. هذا الرجل لا يعترف، بل لا يبدو أنه يعرف، أنه ارتكب جريمة، لكنه وضع بين أيدينا اعترافا تفصيليا بجريمته.

وأيضا بعض من توضع في أيديهم الأقلام ينتهون إلى خيانة قضاياهم، ومن هؤلاء الشيخ في قصة المفاتيح إذ يقدم ـ عامدا أو غير عامد ـ أسوأ هجاء للانحياز لقضية أو مبدأ. فبسبب يقينه أن الغرفة الأربعين لا تحوي حلا للمسألة المصرية فإنه لا يعنى بفتحها، وبسبب تفانيه في النضال من أجل المسألة المصرية يفقد فضوله تجاه كل شيء آخر، يضع بنفسه لنفسه حجابا كالذي يوضع على جانبي أعين الخيول والبغال لكي لا تحيد عن طريقها المرسوم. ولا أحسبني قرأت من قبل هجاء أقسى من هذه القصة للنضال والتفاني في قضية.

ويمكن أن أقول إن محمد عبد النبي يقع بدوره في غلطة مماثلة، في تقديري، فلكي يحملنا على التعاطف مع بطلي الخيانة الزوجية في قصة (عزيز وبطة)، فإنه يجعل شخصيات القصة إما شياطين وإما عزيز وبطة. فلا يكتفي بأن يسمي زوج بطة باسم "موحِّد" الكفيل بأن يفقدنا أي تعاطف معه، لكنه يجعله متدينا متشددا غليظ القلب، كما يجعل زوجة عزيز امرأة شديدة البرود، غير قادرة على استطابة ملذات الحياة سواء في الجنس أو في الطعام. وهذا التصوير الكاريكاتوري يضيع على القصة فرصة أن تمنح شخصياتها الثانوية العمق الذي تستحقه بكونها بشرا. عدا ذلك، لا أظنني آخذ على (سهرة درامية) أي شيء، حسبها أنها لا تكتفي بمنح قارئها قصصا ممتعة، وإنما تضيف إلى ذلك منحه مفتاحا عظيم الفائدة إلى عالم لا نهاية لقصصه.


نشر المقال في جريدة عمان بتاريخ 4 سبتمبر 2025