Thursday, March 07, 2024

حتى بلكونتي تطل على غزة

 

ولكن بلكونتي أيضا تطل على غزة





كان ينبغي أن تكون الثمانية عشر يوما قد أهَّلتني بالقدر الكافي.

ولعلي لست بحاجة إلى التعريف بـ(الثمانية عشر يوما)، ففي ظني أنها ينبغي أن تكون غنية عن التعريف عندنا شأن الحادي عشر من سبتمبر عند الأمريكيين مثلا. رقم، محض رقم، لكنه لا يكاد يقال حتى يستحضر المرء لحظة كانت جديدة على كل من شهدوها، لا مثيل لها قبلها أو بعدها. لحظة امتدت على مدار ثمانية عشر يوما وبدا لنا فيها أننا نمتلك المستقبل كله، إلى أن تبين أننا لا نمسك إلا طرفه، ثم إذا بنا نفيق وقد أفلت من بين أيدينا، فرجعنا كلٌّ إلى قوقعته، وكان نصيبي أنا بلكونة، وضعت فيها مكتبا، فلا أنا في البيت ولا أنا في الشارع، تماما كما أنني محروم من كلا اليأس والأمل.

أقول هذا ولم أقض الثمانية عشر يوما في مصر أصلا، فلا كنت للحظة في الميدان ولا كنت للحظة خارجه.

كان ينبغي، هكذا تحدثني نفسي الآن، أن تكون الثمانية عشر يوما قد أهلتني جيدا لصباح السابع من أكتوبر، فأمسك نفسي حتى لا ترتد مرة أخرى إلى فرحة الأطفال، ثم لا تفيق منها إلا على حسرة الأطفال، وما أشدها، وما أوجعها، وما أفجعها.



لكنها للأسف، لم تحصِّني، ففرحت بالسابع من أكتوبر، وانتقلت من البلكونة لأجلس مرة أخرى، بعد كل هذه الأعوام المنصرمة منذ 2011، أمام شاشة التليفزيون، أرى المستقبل من جديد بعيني رأسي، ليس بيني وبينه إلا أن يواصل الرجال في فلسطين طوفانهم إليه.

قلت، لا في حسرة، إن خمسين سنة كاملة كان ينبغي أن تمر لننتقل من السادس من أكتوبر إلى السابع منه. ورأيت بعيني كيف يمكن أن يقهر لعب الأطفال ترسانات الأسلحة. لقد سبق أن أزيح الساتر الرملي دونما حاجة إلى قنابل أو جرافات أو قذائف من أي نوع، بل هزمه سلاح خراطيم الماء، الذي يقوم على ما تقوم عليه ألعاب الأطفال لا أكثر ولا أقل. ثم حدث في السابع من أكتوبر أن هزأت الدراجات الطائرة بخرسانة السور الكريه، وأهانت صواريخ هي أقرب إلى المفرقعات تكنولوجيا القبة الحديدية، ورجع المقاتلون بالأسرى، وبدا لوهلة أنه مهما حدث بعد ذلك فقد تحقق انتصار، وانتصار عظيم، انتصار لخيال طفولي على واقع متغطرس أعمته غطرسته عن هشاشته.

وهذا لم أفقده. فلم أزل إلى الآن متشبثا في بداهة معنى السابع من أكتوبر كما فهمته: لن ترى إسرائيل نفسها بعد اليوم آمنة، لن تبدو أرض الوعود والأحلام ليهود العالم، لن يتصور زعماء العصابة هناك أن البطش بالفلسطينيين سوف يمر دائما دونما عقاب مؤلم، لن يفلح أحد في إيهام الفلسطينيين بأنهم عاجزون أو ضعفاء، أو لا أمل لهم إلا تسول المفاوضات راجين أن تسفر لهم يوما عن دولة. ولن يقال إن الفلسطينيين بحاجة إلى غيرهم من العرب يعينونهم على تحرير بلدهم، وإنما غيرهم من العرب هم الذين يحتاجون إليهم يذكِّرونهم ويحيونهم من موتهم.

كل هذا لم أزل أصدقه، ولن يزعزعه شيء. لأني رأيته. مثلما رأيت في الثمانية عشر يوما ما لن أفقد الإيمان به ما حييت.

أما ما تغير، فظني الساذج بأن النصر قريب. كنت أعلم في أول الأيام التالية للسابع من أكتوبر أن الضربة الإسرائيلية لن تكون هينة، وأن العالم لن يثني إسرائيل أو يلجم هياجها، مثلما لم يجرؤ من قبل على أن يمنع الولايات المتحدة عن سعار اجتياحها للعالم إثر الحادي عشر من سبتمبر. لكنني كنت أقول لنفسي إن الثمن ـ الأليم ـ هذه المرة له ما يبرره. لأن ضربة السابع من أكتوبر، مهما تكن قسوة عواقبها على الفلسطينيين، منحتهم ما كانوا في أمس الاحتياج إليه: تذكير الإسرائيليين والعالم بأن لهم أنيابا يجب أن تخشى. وقلت لنفسي إن شعوب العالم لن تسكت طويلا على مجازر إسرائيل، وإنها ستضغط على حكامها، فيضغطون على إسرائيل، ويرغمون الأطراف جميعا على هدنة، وعلى محادثات، وعلى مفاوضات، وعلى حل، حل يليق بقوة الفلسطينيين، وتضحيتهم، لا الهراء الذي طالما تكلم عنه الدبلوماسيون والساسة.

جهل طبعا. أو عدم وعي بالسياسة وحسابات العصابات الحاكمة في العالم. أو في أحسن الأحوال سذاجة وحسن ظن بالدنيا. أو أنني ببساطة كنت قد ابتليت بالطفل الميت بدرجات داخل كل واحد فينا وقد ارتدت إليه الروح، واحتل مقاليد عقلي، وأجلسني أمام الشاشة أشاهد، وأمام الشاشة أشرد.

حتى قضت عليه وعليَّ الشاشة.

وجرائد الغرب أيضا.

يرغمني عملي في الترجمة الصحفية، منذ قرابة ربع قرن، على أن أبدأ يومي بتصفح بعض مواقع الجرائد الأمريكية والبريطانية، وبعض مما يصدر بالإنجليزية من صحف في أماكن أخرى. ودائما، أرغم نفسي على أن أبحث في هذه الجرائد ـ وبخاصة الأمريكية والغربية منها ـ لا عما يطمئننا أو يريحنا أو يؤكد أوهامنا عن أنفسنا أو عمن عدانا، وإنما عن أشد المقالات استفزازا لنا وعداء، وأكثرها إمعانا في تجاهلنا ومحاربة لمصالحنا، وأعني بنا المصريين والعرب والمسلمين والعالم الثالث وما بات يعرف في السنين الأخيرة بجنوب العالم، ظنا مني بأن هذا ما يجب أن نعرفه حقا، وإن كان مؤلما أو مستفزا. ومنذ السابع من أكتوبر، صرت كل يوم أصطدم بكتاب عهدت فيهم نزاهة أو حيادا أو حتى حرفية على مدار سنين إذ أراهم يكشفون عن انتمائهم الحقيقي وانحيازهم الذي أحسنوا إخفاءه طويلا، ويقفون بلا لبس في صف الباطل. صرت أقابل في كل مقالة ـ إلا النادر الاستثنائي ـ عبارة "حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها" بدلا من حرب الإبادة الجماعية ومساعي التطهير العرقي، ووصف حماس بالإرهاب والتوحش لا بالنضال والكفاح المشروع بل الواجب، وتسمية الحرب بحرب غزة لا لأنها تجري فوق غزة ولكن لأنهم لا يريدون أن ينطقوا كلمة فلسطين أو يكتبوها. صرت أستهل كل يوم بمطالعة هذا الكذب والزيف، ثم أنتقل منه إلى الشاشة بحثا عن الصدق، فتوالت عليَّ ضربات الكذب والصدق معا.

مضيت أترجم عن المناخ؛ كوب 28 شيء مهم. مهم جدا. والاحتباس الحراري بالمناسبة مسألة مهمة. مهمة جدا. وكتمت صوت التليفزيون، لفترة، ثم أطفأت الشاشة غير متوهم أنني بذلك أنهي الحرب، أو أوقف القصف، أو أضع حائلا بين الفلسطينيين والقنابل. فلم أفقد عقلي، وإنما قدرته على المتابعة، أو على درجة المتابعة التي ألزمت بها نفسي لأيام. ومرة أخرى، انتقلت إلى البلكونة، فرجة للعالم، والعالم فرجة لي.

وما هو بدعاء بالضبط. صحيح أنني أخاطب فيه الله، صامتا، لا تتحرك حتى شفتاي، ولكن ليس طلبا للنصر، ولا الثبات، ولا مدد السماء. أقول فقط: يا رب، أريد لأهل غزة، يا رب، أن يستيقظ بعضهم غدا، غدا يا رب، ضجرين، نعم، ضجرين، غاضبين لأنهم أرادوا دقائق إضافية من النوم، أريدهم أن يشربوا قهوتهم أو شايهم، ضجرين، نعم، ضجرين يا رب، وأن يخرجوا إلى الشوارع، ضجرين، ضجرين يا رب، فيجدونها، يجدون الشوارع، لم تنمح معالمها بليل، أريدهم أن يروا الناس، فلا يرون فيهم شهداء محتملين، إنما محض مواطنين يزاحمونهم على الأرصفة، وفي الأتوبيسات، أريد لهم، غدا، غدا يا رب، لا أن يكونوا أبطالا، ولا منتصرين، ولا شهداء، أريد لهم حرية أن يكون بعضهم أنذالا، وبعضهم شرفاء، بعضهم أزواجا خائنين وبعضهم قوامين صوامين، بعضهم أبناء عاقين، وبعضهم جيرانا مزعجين. أريدهم أن يموتوا بالسرطان، وبالحادثة المرورية، وبالجلطة، لا بالقنبلة والغصة ونقص الطعام. أريدهم أن يجربوا تعاسة أن يشيخوا في عزلة وجحود، بدلا من أن تنقصف أعمارهم في شبابهم. أريد لهم غدا، غدا يا رب، حق أن يكرهوا فلسطين أو يضيقوا بها. مثلنا يعني يا رب. نعم، أريد لهم، غدا، غدا يا رب، أن يكونوا عاديين، حتى لو أصبحوا مثلنا في مصر، أو مثلنا في الرباط، أو مثلنا في الخرطوم.

كفاهم يا رب، نالوا أكثر كثيرا من نصيبهم، من الشرف، والنبل، والألم.

 نشر ما سبق في عدد ديسمبر 2023 من مجلة إبداع