Tuesday, September 09, 2014

عن الشعر وشجونه*

عن الشعر وشجونه*

ليس الشعر في مصر اليوم، أشبه بشيء منه بالبطل المأساوي، بالملك لير مثلا، بعدما تنازل عن عرشه، ومزق بيديه مملكته، فلم يبق له إلا أن يستسلم للجنون.
قبل مائة سنة، أو مائتين على الأكثر، لم يكن لدى العرب أي فن آخر. كان الشعر هو الذي يدخل كل البيوت لا الدراما التليفزيونية، وهو الذي يذهب الناس إليه  ممثلا في شاعر الربابة ذهابهم اليوم إلى المسرح والسينما، هو الذي يستشهد به الخطيب استشهاده بالنص المقدس، وهو الذي يؤرخ وقائع الحياة قبل أن يوجد التاريخ والمؤرخون. بل كان الشاعر بديلا حتى للعراف: ينذر من هزيمة قادمة، أو يبشر بثورة حتمية.
الشعر الآن لا يبدو أنه يفعل أي شيء. حتى أنه لا يعلِّق، وكأنه حتى لا يتفرج. وفي الثورة، كان شيء كالشعر حاضرا، لكنه "كالشعر" في أحسن الحالات، وفي أدقها "كالشعار". وعلى ذكر الثورة، بل المؤامرة بحسب اللغة الجديدة الكريهة، وكيف لا تكون مؤامرة وقد أخرجت من شاعر كالأبنودي ما لا يمكن لمنصف إلا أن يعتبره أسوأ ما كتبه في حياته، شكلا ومضمونا ووعيا؟ وكيف لا تكون مؤامرة وقد أفرزت وقدمت للجموع صوتا مثل هشام الجخ وخلعت عليه إما لقب شاعر النيل أو هويس الشعر؟ هويس؟ إننا حتى لم نعد نميز بين اللفظ القبيح والجميل!
فقد الشعر كل شيء، حتى ثورة الاتصالات كانت وبالا عليه، فالمساحة الهائلة المتاحة التي ازدرهت في ظلها فنون كثيرة، أبت أن يظهر من الشعر إلا أوهاه علاقة بالشعر. اختفى الشعر حتى من الأغنية، ولم يبق متاحا منه إلا ما في "أديك في السقف تمحر" من بيوطيقا.
وليس هذا الوضع حديثا بأية حال. فطوال عقود كان أردأ الشعر أكثره شيوعا. كان فاروق جويدة يبيع أكثر بكثير مما يبيع الشعراء الذين لا يخاطبون المراهقين ولا يصلح شعرهم للخطابات الغرامية وخطب المتطرفين (سمعت في صباي محمد حسان يلقي متباكيا قصيدة جويدة المكتوبة في هجاء سلمان رشدي في إحدى خطب الجمعة التي كانت تجد طريقها إلى سوق الكاسيت!).
لكن الشعر بقي لعقود طويلة مزدهرا في الهامش. فباستثناء محمود درويش، لم يحظ شاعر حقيقي آخر بالشيوع (ربما يكون لأدونيس شيء من الحضور خارج نطاق الشعراء المعتاد، ولكن ذلك بما أثاره بين الحين والآخر من جدل، وليس بشعره في تقديري). في الهامش ازدهرت أسماء شعراء كبار (قليلون بالطبع، ولكن هذه طبيعة الأمور). أما الآن، فلا يبدو أن هذا الهامش لا يزال موجودا، وهنا قد تكون النقطة المهمة حقا.
قبل نحو ستين سنة مثلا، كان شباب صغار في القاهرة وبيروت وبغداد، يبدأون طريقهم مع الشعر. لم يكن طموح هؤلاء يقتصر على نشر قصائدهم في المجلات، وكتبهم في دور النشر الصغيرة. كان طموحهم ببساطة هو أن يغيروا وجه الشعر العربي المستقر منذ قرون طويلة. هذا ما كانوا يطمحون إليه، وهذا ما فعلوه. السياب ونازك الملائكة، صلاح عبد الصبور وعبد المعطي حجازي، أدونيس وأنسي الحاج. ثم لم يأت بعد هؤلاء من طاولهم في الطموح. لا أقصد الطموح إلى تغيير وجه الشعر ـ ومن ثم العالم. بل أقصد الطموح إلى تقديم منجز جمالي مختلف، وكبير. صحيح أن كل عقد من العقود الماضية كان يأتي بما يشبه رؤية جديدة للشعر، لا سيما في السبعينيات والتسعينيات، ولكن الحروب كانت تحتدم فتنهك الشعراء وتحرفهم. وكان ينال من مشاريعهم جميعا الرضا بالقليل، والركون إلى أول بقعة ظل تصادفهم في الطريق متصورين أنها الواحة وما هي إلا بوادرها.
ربما كانت السبعينيات، والثمانينيات على الأكثر، آخر عهدنا بالشعراء الذين تظهر في شعرهم صلة قوية باللغة، ناهيكم عن الشعراء "صناع" اللغة. بعد ذلك لم يظهر إلا على سبيل الاستثناء النادر شاعر له باللغة علاقة حقيقية. في ظل تعليم منهار، وإنتاج ثقافي شديد الضحالة منخفض المعايير، في ظل مشروع قومي لإنتاج القبح والجهل، وهنت علاقتنا جميعا بمصادر الجمال الحقيقي سواء في تراثنا، أو في تراثات اللغات الأخرى وحواضرها. لم تعد الترجمة تأتي إلينا دقيقة، أو جميلة. لم يعد المترجم عارفا بالسياق الواسع للنص الذي يترجمه. بتنا مستهلكي قشور، ومنتجي قشور.
لقد كنا قبل وقت غير بعيد قادرين على تسمية الأشياء بأسمائها، قادرين على التمييز بين الزجال، والشاعر الغنائي (برغم التسمية المعيبة)، وشاعر العامية (وهي أيضا تسمية معيبة لاعتبارات أخرى). لم يكن رواج "روايات" خليل حنا تادرس ليؤهلها إلى البوكر مثلما حدث للفيل الأزرق. ولا كان واردا لـ"رواية" كعمارة يعقوبيان أن تحول طبيب أسنان إلى كاتب. ولكن معاييرنا اختلت، إن كانت لا تزال موجودة، فأصبح أروج كتاب الأغاني أيمن بهجت قمر الذي لا يستطيع أن يكتب أغنية موزونة إلا بمشقة، وأصبح أشهر الشعراء هو هشام الجخ الذي لا مانع لديه أن يسرق من شاعر آخر، ولا يعرف لماذا يكتب بالعامية فلا يجد غضاضة في الانتقال إلى الفصحى ليشارك في مسابقة.

لا أريد أن أقول إننا في زمن الحل الفردي، لأننا ـ في ما يتعلق بالفن على الأقل ـ لم نكن قط في زمن آخر. دائما الحل الفردي هو الحل الوحيد في الفن. وحتى في هذا الزمن، هناك أسماء ترى طريقها بوضوح، تنظر إلى ما تكتبه وهي تعرف أنها تخاطب به الوجود الإنساني كله، تضيف إلى منجز لا ينبغي أن يتقدم للإضافة إليه أي مغامر غير مجهز لرحلته ولمهمته الشاقة. لكننا في هذه اللحظة بحاجة إلى ما هو أكثر من الحل الفردي. بحاجة إلى برنامج شامل لا لمحو الأمية فقط، بل لتنظيف المعرفة المشوهة التي حصَّلها أكثرنا، بحاجة إلى مصادر أساسية للمعرفة، بحاجة إلى فلاسفة غير فلاسفة التوك شو الذين لا يصمتون ولا يقولون شيئا. بحاجة إلى أن نعيد النظر فعلا في كل شيء، وأن نخرج بتعريفات جديدة لكل شيء. لولا أننا مشغولون في ما يبدو بأن نحفر قناة سبق أن حفرناها.