أبو المعاطي يا اسطى
نشرت جارديان البريطانية قبل أشهر قليلة (في 19 يناير 2024 بالتحديد) مقالة لمعلمة في مدرسة ثانوية في لندن، عن قرار اتخذته ناظرة مدرسة هناك بمنع الطلبة المسلمين من الصلاة في المدرسة. كتبت المعلمة تقول إن المحكمة العليا تنظر في قضية "رفعها طالب مسلم سعيا إلى إلغاء هذا الحظر ’التمييزي’" وإن الطلبة في مدرسة ميكايلا الثانوية "كانوا يصلُّون في الملعب، ساجدين على ستراتهم، لقرابة خمس دقائق من وقت الغداء، وذلك لأن المدرسة لا توفر لهم غرفة للصلاة".
لم يكن ينبغي أن
يذكِّرني ذلك بمدرستي أنا، فهي في قرية في مصر لا تمييز فيها ضد المسلمين، لكن هذا
ما حدث بالضبط: منعنا ناظر المدرسة من الصلاة في فناء المدرسة.
غداة زلزال التسعينيات الشهير، عمدت هيئة الأبنية
التعليمية ـ لو صحَّ ما في ذاكرتي من نثار كلام سمعته بين أبي وأمي في ذلك الزمن
البعيد وكان الاثنان يعملان في التربية والتعليم ـ إلى فحص المدارس للتحقق من مدى
تضررها، وتبين أن ضررا قد لحق بمدرستنا، فاضطررنا طوال السنة التي استغرقها
الترميم، إلى الحضور في مدرسة أخرى، أظن أنها كانت ثانوية تجارية قبل إلغاء
التعليم الثانوي التجاري. كانت أصغر حجما من مدرستنا، فتحتَّم تقسيمنا إلى قسمين،
قسم يضم فصول الثانوية العامة مع تلميذات الصفين الأول والثاني، ويحضر هؤلاء في
الفترة الصباحية، وقسم فيه تلاميذ الصفين الأول والثاني ويحضر في فترة ما بعد
الظهيرة.
ردَّتنا تلك القسمة مرة أخرى إلى جحيم سنوات الابتدائي التي
كنا ننتظر بفارغ الصبر الانتقال منها إلى الإعدادي والثانوي لكي لا نضطر إلى
الدراسة في ما كان يسمى بالفترة المسائية. كان إحساسا بشعا أن يخرج طلبة الفترة
الصباحية إلى الحرية، إلى بقية اليوم الممتد حتى الليل، فيما نحن وقوف على باب
المدرسة في انتظار الدخول طوعا إلى السجن، لنقضي ست ساعات تشوه لنا يومنا، فلا نحن
قبلها نستمتع بصباح خال من توتر الاستعداد للذهاب إلى المدرسة، ولا نحن بعدها نجد
في اليوم متسعا لشيء.
لكن شاء الزلزال أن يردنا مرة أخرى إلى ذلك الجحيم بعد
أن توهمنا أننا تجاوزناه إلى الأبد. ومع أن الصلاة لم تكن شاغلا كبيرا لأغلبنا، أو
لي على الأقل في ذلك الوقت، فهي التي قادتنا إلى الوقوع في فلك غضبه، أعني الأستاذ
عبد الحميد، الأستاذ عبد الحميد رضوان.
أوقن أنه ليس طويل القامة حقا بالقدر الذي كان يتراءى
لنا أيامها. لكنه كان دائما مرفوع الرأس والصدر، على غرار بائعي العرقسوس، لا يكاد
ينظر إلينا، ولم أفهم ذلك في حينه إلا كبرا واعتزازا مقيتا بالذات. كان أيضا ذا
لحية بيضاء. صحيح أني لم أجترئ قط على التفرس في ملامحه، لكنني أتذكر ذلك الإطار
الأبيض النحيل حول وجهه. ما لم أكن أضفت تلك اللحية كلها إلى الوجه بفوتوشوب الذاكرة
الذي يعمل من تلقاء نفسه. فالآن أرى وجهه وضيئا، مع أنني واثق أنه لم يكن يبدي لي في
تلك الأيام البعيدة إلا الصرامة.
لا أعرف، ولعلنا جميعا لم نعرف، أي مادة كان يدرسها
الأستاذ عبد الحميد قبل أن يصبح ناظر المدرسة الثانوية المهيب الذي لا يعلو في
المدرسة صوت في وجوده. كان ببساطة جبارا، واحدا من تلك الفئة من المعلمين التي لا
تظهر إلا في مدارس الماضي. دائما، هناك ذلك الجبار في ماضي كل أب لنا، وها هو صار
في ماضينا نحن أيضا بعد أن جعلنا الزمن ونظرة أبنائنا إلينا آباء ممعنين في
الأبوة.
كنا نقف أمام بوابة المدرسة المغلقة، فإذا ارتفع أذان
الظهر، اقتربت جماعة منا من البوابة وطلبت من الحارس أن يفتحها لندخل للصلاة. ولم
يكن ذلك بالطلب الذي يمكن أن يرفضه حارس البوابة.
كنا نعبر بوابة المدرسة، ونمشي عبر الفناء الصغير في خط
مستقيم، ثم نصعد درجات قليلة، ونعبر من باب حديدي إلى مخزن ذي سقف منحن، فما سقفه غير
قاع السلم، نخلع أحذيتنا، ونقف صفوفا قليلة في ذلك الكهف، ونصلي الظهر. ولم نكن
حتى بحاجة إلى انتظار السجود كي تخنقنا رائحة الجوارب العالقة بالحصيرة. وأثق أن تلك
الرائحة اللعينة المسيطرة على المخزن هي التي أوحت للأستاذ نجدي بالفكرة.
وجَّهنا معلم الأحياء، وإمامنا في ذلك اليوم، إلى الخروج
بالحصيرة لنصلي في الفناء. ولا أحسب الحصيرة تخلصت من رائحتها فورا، لكننا على
الأقل صرنا واقفين في الهواء الطلق، وصار بوسعنا أن نحتمل هنيهات السجود كاتمين
أنفاسنا، إلى أن ننهل في ما بين السجدتين بعضا من هواء الله الطازج في الشتاء.
وفيما نصلي، سمعنا الصوت الهادر. لا، بالطبع لم يكن
يصيح، كان يسأل بنبرته المعتادة التي كم سمعتها في بيتنا كلما حلَّ ضيفا على أبي.
وقف الأستاذ عبد الحميد رضوان على مسافة من مصلَّانا المرتجل، وسأل الحارس عنا، في
أي الصفوف هؤلاء، ولماذا ليسوا في فصولهم في أثناء اليوم الدراسي؟ قال الحارس إننا
تلامذة الفترة المسائية. لسنا وحق الذي نقف بين يديه من طلبة الصف الثالث. سكت
هنيهة. ظنناه خلالها انهزم، ولن يجرؤ أن ينزل بنا عقابا، أو يتجاسر على التنكيل
بنا. أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله؟
قال بنبرته نفسها، لم يغيرها: لا تفتح لهم البوابة مرة
أخرى. الجوامع حولنا في كل مكان.
ومضى. تراجع ظله الذي كان يغمرنا في ركوعنا وسجودنا.
انتهت الصلاة، واستدار إلينا معلم الأحياء. ابتسم وقال: سمعتم؟
أكرِّر أنني لم أكن شديد الالتزام بالصلاة، لكن ليس
دائما. كانت تمر بي موجات تديُّن، تعقبها موجات تخفُّف. فلعلي في تلك الأيام كنت
في أحد أطوار التقوى، أو لعلها متعة الاشتراك مع الزملاء في شيء. فالواقع أننا
صرنا نصلي الظهر فعلا في مسجد قريب من المدرسة، هو أحد أقدم مدارس القرية على الإطلاق،
وأول مسجد اصطحبني أبي إليه طفلا لأصلي الجمعة وراء صديقه الشيخ علي، فأحفظ عنه
"اللهم ارفع مقتك وغضبك عنا"، وأرددها مثله مقلقلة القاف وأنا واقف على
ظهر السرير بديلا للمنبر. ثم يمضي بي أبي بعد صلاة الجمعة، لنجلس في ما بين
المحراب والمنبر، مع كبار آخرين، في حلقة يفرغون في منتصفها صندوق جمع التبرعات
الذي مرَّ على صفوف المصلين خلال الخطبة، وأبدأ في اللهو: أقيم مثلما علمني أبي
أبراجا من الشلنات والبرايز، كل برج يساوي جنيها. كان أولئك المتحلقون هم أعضاء
لجنة إعادة بناء الجامع الكبير، فهل يا ترى يعدُّني الله بلهوي ذاك بالعملات
الصغيرة الجليلة عضوا في لجنة لم أكن في الحقيقة عضوا فيها؟ ترى هل يثيبني الله مع
من يثيبهم وقد بنوا له بيتا؟ أم يكفيني أن ذلك المسجد بالذات هو الذي فتح لي
ذراعيه بعد سنين، أنا وزملائي، مبيحا لنا ما حرَّمه الأستاذ عبد الحميد؟
لم ندر قط لماذا أصدر ذلك القرار، لماذا ونحن نصلي، لا
نصخب، ولا نشاغب، ولا يؤذي وجودنا أحدا؟ ولعلي إلى الآن لا أفهم ذلك المنع، ومن
ذلك الرجل بالذات. لعله رأى في صلاتنا في العراء، والجوامع حقا كثيرة حولنا،
تنطعا، أو رياء، لم يرض أيهما لنا.
كان صديقا لأبي، ولعلهما تزاملا في بعض المدارس، وهو
الذي أقنع أبي بالذهاب معه إلى (أبو المعاطي).
على بعد بضعة كيلومترات من قريتنا، وفي ما بين قريتين
مسجَّلتين باسميهما في دفاتر الحكومة، ثمة محطة غير رسمية يعرفها سائقو سيارات
الأجرة والركاب، فيكفي أن يقول أحدهم "أبو المعاطي يا اسطى" لتتوقف
السيارة وينزل بعض الركاب. لم تكن قرية. إنما مقام ولي، وولي حي.
لا أعرف عن أبي المعاطي هذا الكثير. لا أعرف حتى الطريقة
الصوفية التي كان أحد مشايخها. ولم يحدث قط أن زرته، ولا أعرف فعلا أي شيء مما
يجعل الناس ينزلون في (أبو المعاطي). لا أعرف إلا همهمة سمعتها من حديث بين أبي
وأمي.
قال لها ضاحكا: أخذت العهد
ومضى يشرح فلم يصلني من شرحه الكثير. لكنه تكلم عمن
اصطحبه إلى تلك المغامرة. هو الأستاذ عبد الحميد رضوان. بدت صدمة مذهلة لي. كيف
لذلك الجبار أن يكون هذا المسكين؟ لعله إذن لا يقصد من مشيته، بانتفاخ صدره وتعالي
وجهه، أن يتجبر في الأرض، لعله محض مؤمن مسكين مجذوب، لا يحتمل أن ينزل عينيه من
علياء السماوات إلى حضيض الأرض. لا أعرف حقا هل كان أبي يتكلم عنه، هو، أم عن غيره
من رواد الحضرة في تلك الليلة. قلت لنفسي لا يمكن أن يكون هو من ينهنه كالأطفال.
لا يمكن أن يكون هو من يهتز جرمه الهائل ويرتعش. لا يمكن أن يكون هو الذي وصفه أبي
لأمي في تلك الليلة.
فات الأوان. ولم يعد بوسعي أن أتثبت من أبي. ومع أنني
يمكن أن أسأل أمي أطال الله عمرها، لكن يخطر لي الآن أنني لن أصل إلى يقين في هذا
الأمر ما لم أركب مرة الميكروباص، وأنطق للسائق الكلمات القليلات:
ـ أبو المعاطي معك يا اسطى.
مع علمي أن أبا المعاطي أيضا مات منذ سنين.
نشرت في مجلة إبداع