Friday, October 30, 2020

قدر الشاعر

قدر الشاعر


بدا لوهلة، فور الإعلان عن فوز الشاعر عماد أبو صالح بجائزة سركون بولص للشعر، أن الدنيا قد انقلبت رأسا على عقب، أعني دنيانا الصغيرة نحن محبي الأدب ومنتجي بعضه. سارع العشرات يتناقلون الخبر وينشرونه على صفحاتهم في مواقع التواصل الاجتماعي فيحصد عند كل من نشره مئات من كلمات التهنئة وتعبيرات المحبة، حتى بدا وكأن طوفانا من القلوب الحمراء يجتاح صفحاتنا جميعا. وطوال ساعات كان ضجيج عظيم، ضجيج فرح صادق ومحبة صافية. وطوال تلك الساعات كان عماد أبو صالح، بأمر من طبيبه، ممنوعا من أن يفتح فمه. صحيح أنه في العادة لا يفتح فمه، ويمسك عن المشاركة في كل ما نشارك فيه، لكن بوسعه هذه المرة بالذات أن يتذرع بأوامر الطبيب. بوسعه القول إنه كان خالعا ضرسه حين فاز بالجائزة. وهكذا، بينما كان أصحاب الشاعر ومحبوه وقراؤه فرحين بهذه الجائزة المفاجئة، كان الشاعر نفسه يعض على قطنة منقوعة في دمه. كان يغلق فمه على جرح. وأحسب أن هذا الوصف العارض صالح دائما، قبل الجائزة العارضة وبعدها، لوصف عماد الذي نهاه الطبيب هذه المرة عن المشاركة في عرس صغير مقام على شرفه، لكنه منهي عن مثل هذه المشاركات جميعا، ودائما، بأمر من نفسه، أو بسلطان لا يملك إلا الامتثال له، سلطانٍ شاء، ولا رادّ لمشيئته، ألا ينطق عماد إلا ليقول شعرا.

لم يقل أحد من مئات المتفاعلين مع الخبر، من الشعراء والقراء والمحبين، المصريين والعرب، "وهل هناك جائزة باسم سركون بولص، أصلا؟". مع أن البعض ـ وأنا منهم ـ كانوا لا يعرفون بوجود جائزة كتلك. لكنها الآن أصبحت موجودة حقا، ومهمة، وجديرة بأن ننتظرها في أواخر أكتوبر من كل عام. وعدا ذلك، عدا ولادة جائزة جديدة للشعر، في زمن لا يكافئ الشعر ولا يكاد يلتفت إليه، عدا ذلك، لم يحدث شيء. فقبل الجائزة، كان ديوان عماد أبو صالح الأول هو "أمور منتهية أصلا" وديوانه الأحدث هو "كان نائما حين قامت الثورة". ولم يزل ذلك هو ديوانه الأول وهذا هو ديوانه الأحدث. وقبلها، كان الرجل يصون عزلته ويحميها، وبعدها لم يزل هذا هو حاله. قبلها، كان له قراؤه ومحبوه وعارفو قدره، وأيضا مبغضوه أو منكروه أو حاسدوه، وبعدها لم يزل له نصيبه من كلا الفريقين. إذن، جوهريا، لم يتغير شيء.

ولا أظن أن شيئا سوف يتغير.

برغم قلة عدد النسخ المطبوعة من دواوينه، كانت هذه الدواوين ولم تزل مقروءة جيدا. قرئت منذ منتصف التسعينيات، حين تداولها الشعراء واستعاروها بعضهم من بعض، واستنسخت منها صور، فلم يصعب قط على مهتم أن يصل إليها. ثم إنها أتيحت جميعا عبر الإنترنت فوصلت إلى من لا يعلم إلا الله عددهم من القراء.

وبرغم ندرة الكتابة عن الشعر، وقلة الاعتناء به، فهذه الدواوين جميعا مكتوب عنها جيدا، من نقاد راسخين، ومن شعراء محبين، وممن يجمعون بين الصفتين، وممن يفتقرون إلى أيٍّ منهما. من الصحفيين ومن القراء. من المغرضين ومن الأبرياء. ثمة حفلة كتابة مقامة دائما على شرف هذه الكتب. لكنها حفلة هادئة أقيمت لتدوم.

كما أن قصائده حاضرة في كل أنطولوجيا أعرفها لقصيدة النثر المصرية، على قلة هذه الأنطولوجيات. وهو قد لا يكون حاضرا بشخصه في مواقع التواصل الاجتماعي المختلفة، لكن صفحات كثيرة تحمل اسمه، فضلا عن قصائد عديدة يتناقلها رواد هذه المواقع ويتداولونها.

مؤكد أن الجائزة سوف تزيد أعمال عماد أبو صالح قراءة، وتزيد اسمه حضورا، ولكن المؤكد بالقدر نفسه أنها لا تستحدث من هذا شيئا لم يكن لديه أصلا.

في بيت كفافيس- الاسكندرية 12 ديسمبر 2018

أيضا، لا أظن أن شيئا سوف يتغير في حياة عماد نفسه. لا أظنه مثلا سوف يشارك في مؤتمرات، حتى ما قد يقام منها لشاعر عزيز عليه. وهل أعز على عماد من كفافيس؟ كفافيس الحاضر في شعره حضور الفاصوليا والدم. كفافيس الذي قرأه في كل ترجمة له، وزار بيته في ورع حاج راسخ الإيمان. كفافيس هذا، نفسه، لم يزحزح عمادا أو يستدرجه للخروج من عزلته، فقصر مشاركته في مؤتمر أقيم أخيرا في الإسكندرية للاحتفاء به على كلمة بعثها وقرئت بالنيابة عنه.

ولا أظنه سوف يصبح عضوا في لجنة، أو يظهر ضيفا على برنامج، أو يحضر بكلمات قليلات في تحقيق صحفي، أو حتى أن يكثر ظهوره في المقاهي التي يختلف إليها ـ وفيها ـ الشعراء والكتاب والمثقفون.

وليت بعض ظنوني يخيب. مؤكد أنني أحب أن أجد مشاركة من عماد في ملف صحفي عن كتاب أو كاتب أو مكان، أو أي شيء مما تعد عنه الملفات. مؤكد أنني أحب هذا لأنني أحب نثر الشعراء، وأحب مثلما أقابلهم في قصائدهم أن أقابلهم خارجها. أحب أن أقرأ نثر عماد مثلما أحب نثر أسامة الدناصوري في "كلبي الحبيب .. كلبي الهرم" ومثلما أحب نثر عبد المنعم رمضان في "الشهيق والزفير" ومثلما أحب نثر صلاح عبد الصبور في كتب كثيرة أقربها إليَّ "حياتي في الشعر" ومثلما أحب نثر تشارلز سيميك في كتبه الكثيرة ومنها في العربية "ذبابة في الحساء" من ترجمة إيمان مرسال و"المسخ يعشق متاهته" من ترجمة تحسين الخطيب. ولماذا أذهب بعيدا وقد ذقت ما يقدر عليه نثر عماد أبو صالح في كتابه الفريد "مهندس العالم"؟

أحب أن يحكي عماد حياته، بعيدا في القرية، ثم في القاهرة، لأنني أعرف أن في حياته وتجربته الإنسانية ما لم يحط به الشعر بعد وما قد لا يحيط به إلا النثر مقالا أو سيرة أو ربما رواية.

أحب أن يكشف نثره عن القارئ البارع مثلما كشف شعره عن الشاعر البارع.

أحب أن تكون له زاوية أسبوعية، في صحيفة أو مجلة أو مدونة. مئتا كلمة فقط يا عماد كل أسبوع، تقدِّم فيها جوهرة من الجواهر التي لا تكف عن العثور عليها حيثما نقَّب غيرك دون أن يخرج بشيء. جوهرة من رواية أو فيلم أو قصيدة. اقتراح ـ كالذي لا تكفُّ عن تقديمه لأصدقائك ـ بقراءة جديدة لكتاب قديم.

أحب أن يصدر عماد مختاراته من الشعر العالمي، فهو من أكثر من عرفتهم دراية بالشعر المترجم، حتى أنني لم أكلمه عن كتاب إلا وقال إنه عنده أو قرأه وذكر لي منه قصيدة أو قصائد كنت أرجع إلى نسختي من الكتاب فأجد أحيانا أنني ميزتها بنجمة حمراء تزيدها إشارته سطوعا.

أحب أن يعرف الناس مثلما أعرف عماد السمِّيع صاحب المكتبة الموسيقية المذهلة، وجامع التسجيلات النادرة للأغنيات والتلاوات والموسيقى من أربعة أركان الأرض.

أحب أن يقدم عماد للناس ملاحظاته الثاقبة، ذات المرجعية الإنسانية والأخلاقية، على المشهد السياسي العالمي الذي يتابعه بدأب نادر، وقسوة على النفس قلَّ ان رأيت لها مثيلا عند أحد.

أحب أن يشارك عماد في مؤتمرات، ويظهر في برامج، ويحضر في وسائط مختلفة، بصوته وبكتابته وبصورته، فتحتفظ به أراشيف أخرى إضافة إلى أرشيف الشعر، وليكون في تلك المصادر جميعا عون لدارسين وباحثين وقراء وشعراء في المستقبل أثق أنهم سوف يكونون في أمس الحاجة إليها وهم يعكفون على شعره يعيدون قراءته ويفهمونه ويفهمون به زمانهم وأنفسهم.

أحب كل هذا وأعرف أنه ـ على الأرجح ـ لن يحدث. لسوء الحظ لن يحدث. ولحسن الحظ لن يحدث.

لن يحدث، لأنني منذ سنين أكلم عماد في أن يكتب سيرته. أكلمه بنبرة المقترح، وبنبرة الراجي، وبنبرة المحذر الخائف من الاندثار على حكايات وتجارب ليس من العدل أن تنتهي بنهاية صاحبها.

لن يحدث، لأنني أعرف إيقاع عماد، وأرى بعيني كيف يقوى على البقاء مخلصا لمشروع شهورا طويلة وسنين، يجمع دقائق المعلومات عنه، لا يحول بينه وبين معلومة يريدها أن تكون مكتوبة بلغة لا يجيدها، أو منشورة في كتاب لا يبدو أن إليه سبيلا، أو في مجلة غير مؤرشفة. أعرف أن هذا الإيقاع يضمن لنا دائما الدقة والعمق، لكنه يحرمنا من الغزارة المرجوة.

لن يحدث، لأن عماد أشبه بجاسوس ضبط مؤشر مذياعه على محطة سرية، وهو جالس في انتظار رسالة، مشكلته الوحيدة أنها رسالة غير محددة الموعد. عليه أن يتأكد كل صباح من ضبط مذياعه، ويجلس بجواره منتظرا، بلا يأس، وبلا أمل. وحين يأتي البث، وقتما يعنّ له، يتحرك القلم في يد الشاعر على الورقة البيضاء، وكلما اكتمل عدد كاف من الرسائل، نشره في كتاب. عماد جاسوس يعمل لحسابنا، يتجسس على عالم آخر ليس لنا من طريق إليه إلا تلك الكتب البيضاء حمراء العناوين. فكيف يمكن أن يغامر ويغيِّر مؤشر المذياع؟ كيف يمكن أن يسمح لنفسه بالتشويش على البث مهما تكن نفاسة ما يضحي به؟

لن يحدث، لأن عماد يعرف بالضبط ما يشعر به السيلولويد في عتمة الكاميرا، ثم في عتمة غرفة التحميض، ثم في عتمة الصندوق داخل المخزن المغلق. يعرف أنه لا ينبغي أن يتعرض للنور، وإلا احترقت الصور. يعرف أن قدره هو أن يرضى بالعتمة لنفسه، ليضمن النور لقصائده.

لن يحدث، لأن عمادا يعرف أنه لا يجب أن يسمح بأي خلل في مقادير مكونات طبخته. يعرف أن إضافة شخص إلى حياته قد ينقص ألمه، أو قد يزيده. والنقصان، كالزيادة، خلل لا يستطيع أن يغامر به. ولأنه يعرف أن خطوة في غير موضعها قد تجعله يضل الطريق نهائيا إلى غرفته، حيث جهاز الاستقبال المضبوط مؤشره بالشعرة. ولأنه يعرف أن نكتة تضحكه من قلبه كفيلة بأن تلهي قلبه هذا عن مهمته كعميل للعالم مزروع في جسد الشاعر. ولأنه يعرف أن وجبة ألذ قليلا مما ينبغي قد تنسي لسانه مذاق الحقيقة الذي شقي حتى عرفه.

لن يحدث، للأسف ولحسن الحظ، أن نبحث باسم عماد أبو صالح في أي أرشيف فنجد ما يلهينا عن قصائده. ربما نجد مقالات جميلة، لكنها في النهاية لن تقودنا إلى غير الشعر. ربما نجد بضع حوارات أجريت معه على مدار قرابة ربع القرن، لكنها لا تغري إلا بالبحث عن الدواوين. وربما، في هذه الأيام العارضة، يعثر الباحث باسم عماد على أخبار الجائزة، لكن بعد أسابيع، وشهور، وبعد سنين، وعقود، سيبحث الناس عن عماد فلا يعثرون إلا على الشعر. وهذا تحديدا ما يعمل من أجله عماد، وهذا ما ينبغي له. وهذا ما نرضى به، على مضض، لأنه كثير، ولأنه ثمين.

نشر  المقال في عدد أخبار الأدب الصادر في الأول من نوفمبر 2020

اقرأ أيضا "معي جمال كافر"