Wednesday, October 25, 2017

أحمد شافعي: ما كنتُ لأحتمل هذا العالم لولا الترجمة!

أحمد شافعي: ما كنتُ لأحتمل هذا العالم لولا الترجمة!
حوار : حسام الخولي

أن اصطاد الخاطر عند مروره، أدونه وأنساه، أتحول في آخر العمر إلى حصالة مقلوبة تخيلوا حصالة قماشية مقلوبة، جوربًا مقلوبًا مفرغًا من قدم تنقلت به بلاد الله لخلق الله". هكذا يعرّف الشاعر المترجم المصري أحمد شافعي مدونته دون زيادة، ربما بشكل أكثر اتساعًا يمكننا اعتبار "المترجم" على وجه التحديد تلك "الإسفنجة" التي تمتّص عصارات الثقافة من الجميع وتعكسها بقدر موهبة صاحبها، فلا تصبح وظيفته مجرد نقل الكلمات بقدر إعادة إحيائها بلغة جديدة تناسب المستقبل الجديد، لا سيما إذا خرجت هذه القراءات المختلفة والمتنوعة للعالم أيضًا في صورة أشعار أو روايات خاصة بالكاتب نفسه، فربما ستكون أيضًا بقدر هذا الاختلاف، فاللغة الجديدة على ما يبدو تنقل إلى صاحبها عالمًا آخر لم يكن ليعيشه إلّا من خلالها، تمنحه، بنشأته وبيئته، دون غيره أسرار ذلك العالم الذي عليه تحويلها لعالمه.  
صدرت لأحمد شافعي (40 عامًا) دواوين شعرية: "طريق جانبي ينتهي بنافورة" (2000) "وقصائد أخرى" (2009)، كما صدرت له روايتان: "رحلة سوسو" (2000)، "الخالق" (2013). له أيضًا ترجمات إلى العربية: مختارات من الشاعرة الأفروأمريكية ليوسيل كليفتون 2004، و"فندق الأرق"، مختارات من الشاعر الأمريكي تشارلز سيميك (2004)، و"امرأة عادية.. قصائد وذكريات"، و"وجه أمريكا الأسود... وجه أمريكا الجميل ـ مختارات من الشعر الأفرو أمريكي" (2005)، و"رجل القمر"، مختارات من الشاعر الأمريكي بيلي كولينز (2006)، و"الغرفة رقم 7"، مختارات من قصيدة النثر الأمريكية (2012)، و"قصص" لأليس مونرو (2013)، و"العالم لا ينتهي" تشارلز سيميك في نفس العام. إضافة إلى رواية آندريه برينك "الباب الأزرق" (2014)، و"كلنا نولد مصابين بالغثيان" في نفس العام للكاتب راسل إدسن. عام 2015 صدر له "بيت حافل بالمجانين"؛ كعرض حوارات في مجلة "باريس ريفيو" مع أشهر كتّاب العالم، بعد ذلك ترجم "هنا والآن" (2016) عبارة عن رسائل بين الكاتب بول أوستر وصديقه جي إم كوتزي، حول أفكارهم وهواجسهم تجاه العالم، أيضًا ترجم "السامريون الأشرار.. الدول الغنية والسياسات الفقيرة وتهديد العالم النامي" ذا الاتجاه الاقتصادي للكاتب هاجون تشانج (2016)، والذي كان ضمن القائمة القصيرة لـ"جائزة رفاعة الطهطاوي" المقدمة من "المركز القومي للترجمة"، وأخيرًا صدر له هذا العام ديوان شعري يحمل تاريخ ميلاده "77".
حاوره "ألترا صوت" حول كتاباته وهواجسه ككاتب في الفترة الحالية، إلى جانب الحديث عن الوضع الثقافي الحالي سواء محليًا أو عالميًا.

  • ديوانك الأخير الذي يحمل على ما يبدو تاريخ مولدك، كما يحمل اسمك أكثر من مرة. ربما "الإنسان يجب أن ينشغل بنفسه بالفعل"، لكن لماذا ذلك الانشغال بالتطبيق الواضح غير الرمزي بالأمر تحديدًا في هذا الديوان؟
·         أعتقد أن أحد أدوار الشعر منذ بدايته هو أن يساعد الإنسان على معرفة نفسه. الإنسان التائه في صحراء حين يرفع عينيه إلى السماء لا يفعل ذلك ليرى النجوم، بل ليرى أين هو من النجوم. حين أفكر في قصائد "77" مقارنة بقصائد في كتب أخرى لي، منشورة أو غير منشورة، أجد أنني في كثير من هذه القصائد كنت أكلم نفسي، وأبحث عنها. كنت أحاول، مع الاعتذار لكل الشعراء العظماء المهمومين بكبريات الأمور، أن أعرف لماذا أنا هنا، مع هؤلاء الأشخاص، في هذا الحيز؟ ما معنى هذا؟ وما جدواه؟ وما العمل؟
مشكلة الشعراء أنهم ينتبهون للألغاز التي ينتبه لها الفلاسفة، ويسشتعرون أهميتها بقدر ما يستشعرونها، لكنهم لا يملكون التصدي لها برزانة الفلاسفة، بل بلوعة الأطفال. ربما هذا ما يجعلني حاضرا باسمي في بعض قصائد الكتاب، وبذاتي في كثير منها. يمكن أن تفهم السبب بدقة حينما تفهم متعة طفل يلعب وحده أسفل سرير.

قلت إن "أفضل ما أنتجه العرب منذ التسعينيات كان الشعر"، في نفس الوقت الذي صرحت فيه بأن "الشعر المترجم يقرأ أكثر" لماذا يحدث ذلك في رأيك؟ وهل هناك علاقة بين ذلك وبين قولك بأننا نميل إلى حب الأجنبي عمومًا؟
أعتقد أنني مطلع على قدر مهما يكن بسيطًا من الأدب العالمي الآن، والشعر بصفة خاصة بطبيعة الحال. وفي حدود اطلاعي المحدود هذا، وفي حدود ذوقي أيضًا، أرى أن الجيد من الشعر المصري المكتوب منذ التسعينيات يقف جماليًا على الأرض التي يقف عليها الشعر الجيد في بلد مثل الولايات المتحدة أو في أوروبا وفي أماكن أخرى من العالم. في حين أن القصة مثلًا ليست كذلك، والرواية بقدر كبير. وبرغم جودة الشعر لدينا، فهو لا ينشر بالقدر الكافي، لكنه يقرأ بدرجة معقولة.
قراء الشعر دائمًا نادرون، والشعر الجميل قليله مشبع. صدقني حين أقول لك إنني قد لا أقرأ من بعض كتب شعراء أحبهم إلا القليل، لأنني أعرف أنني سأعود إليها، ولأنني أعرف أنني لن أنتهي أبدًا من قراءة كتاب شعري أحبه.
أما عن الشعر المترجم إلى العربية، فكلنا يريد أن يعرف ما الذي يجري بعيدًا عنه، كلنا فضوليون من هذه الزاوية، هذا شيء إنساني، غير مرتبط بالشعر وحده. جرِّب مثلًا أن تضع ثلاثة أفلام في السينما: فيلم من إثيوبيا مثلًا، وفيلم من أمريكا، وفيلم لمحمد رمضان. مشاهدو الفيلم الأول سيكونون شعراء، ومشاهدو الفيلم الثاني سيكونون روائيين، ومشاهدو الفيلم الثالث طبعًا سيكونون مذيعي توكشوز وسائقي تكاتك.

قلت إنك تكتب عبر مواقع التواصل الاجتماعي عن أفكارك وهواجسك وشذراتك وحتى عن قصائدك؟ هل تغيرت بعض الأشياء أثناء كتابتك بعد ذلك للقصائد بناءً على هذا التفاعل؟ وما الذي تغيّر في نظرتك لقراءك خصوصًا وأنك قلت إن هناك قصائد عديدة قررت أن تتركها على مواقع التواصل دون أن تدوّن في كتاب؟ ما الذي يحدد اختيار قصيدة عن أخرى؟
بعض الشعراء يتعالون كثيرًا على فيسبوك، ويتعالون على من يكتبون قصائدهم فيه، أو يتيحونها من خلاله. أعتقد أن سبب هذا هو أنهم يفكرون أن القصيدة بحاجة إلى وقت أطول، وصمت أطول، بحاجة إلى أكثر من نظرة من الشاعر قبل النشر. وطبعًا عندهم حق. حينما أفكر في الأمر أجد أنهم محقون.
لكن دائمًا كان بعض الشعراء يرتجلون. هذه ملكة أيضًا، إن توافرت لشاعر فعليه ربما أن يستثمرها. كثير من قصائد كتابي الأخير كتبت كتابة شديدة القرب من الارتجال. ولكنني كنت أرجع إليها، حينما انتبه إلى احتمالات أخرى فيها، إلى مصادر محتملة للجمال.
لعل الشعراء الذين يرفضون هذه الطريقة في الكتابة أكثر احترامًا للقارئ، وللفن الذي يمارسونه، ولأسمائهم التي يرون أنها لا يجب أن ترتبط إلا بقصائد منتهية لا بمسودات في طور الكتابة. أنا أيضا أحترم الشعر ونفسي وربما القارئ بدرجة أقل، لكنني أحب أن أكون حرًا.
ثم إنني أتبين أن بعض "القصائد" ليست قصائد، وأن بعضها ضعيف أو رديء، وهذا ما لا أضمه في كتاب، وإن كنت أتركه معروضًا من خلال حسابي، نكاية بالقراء، أو بنفسي، أو لمجرد أنني لا أكترث.

قسم آخر من السؤال السابق يتعلق بأنك "لا تكتب لأحد"، هل تعتقد أن تلك إحدى نقاط قوة كاتب ما كتشيخوف على سبيل المثال؟
أما عن تشيخوف، فأنا لا أحب أن أتكلم عن زميل في غير وجوده. لكنني عمومًا أظن أن كل كاتب يكتب أولًا لنفسه، لمتعته، لغرض أن يعرف المزيد عن نفسه أو عن شيء ما. وأعتقد أيضًا، وفي الوقت نفسه، أن كل كاتب يكتب لقارئ معين، بمعنى أن كل كاتب يضع نوعًا من الجمال في عمله، متصورًا وجود شخص ما قادر على تذوق هذا الجمال، ويريد فعلًا أن يراه.

هل تختار الترجمات التي توافق قناعاتك في الحياة بشكلٍ عام؟ أم تختار ما يعجبك حبكته وطريقة سرده بعيدًا عن الآراء التي يحتويها، خصوصًا أنك منذ زمن لم تجبر على ترجمات بعينها؟
لا أعرف كيف كنت لأحتمل هذا العالم لولا الترجمة. تعرف طبعًا ذلك الزوج الذي يرجع من العمل ليأكل وينام ثم ينزل إلى المقهى. تعرف مشاعر زوجته وأبنائه مثلًا تجاه المقهى. لا بد أن تكون هذه مشاعر زوجتي وأبنائي وأصدقائي تجاه الترجمة. الفارق الوحيد بيني وبين ذلك الزوج "التنبل" أنني أرجع من الترجمة لأذهب إلى الترجمة. يومي كله يدور في فلكها. الترجمة هي القراءة. هي ببساطة القراءة. وأنا منذ سن الخامسة من عمري لا أعرف متعة أخرى تعادل أن أقرأ.
بعيدًا عن العمل الواضح المأجور الذي أترجم من خلاله ما يهم الجهة التي أعمل لها. أترجم ما أريد أن أقرأه، وأترجم ما أستمتع بقراءته، وأترجم ما أتعلم منه، وفي أحيان قليلة جدًا (أعرفها جميعًا) أترجم ما أرى ضرورة أن يطلع الناس عليه في لحظة ما. لكن هل أترجم ما يوافق قناعاتي؟ ليس بالضرورة. أعتقد أنني ما كنت لأغير رأيي أبدًا بهذه الطريقة. وهذا أمر لا أتخيله، ولا أتصور أن أحتمل ما فيه من ملل.

بخصوص آرائك عن جائزة نوبل باعتبارها "الذبابة المزعجة التي تقف على وجه أحدهم" على حد قولك، ما رأيك في فائزها الأخير كازو إيشيغورو، ومن قبله ديلان، وجدوى فوزهما؟ وهل ترى أي اختلافات طرأت على الجائزة قد تُغيّر من الحصول عليها في المستقبل؟
لا أتذكر إنني قلت جملة الذبابة هذه. لكن ذاكرتي الضعيفة تضعني دائمًا في هذا الموقف: لعلي قلت. بصفة عامة، أنا مستاء من الأكاديمية السويدية في السنين الأخيرة، وأرى أنها تتصرف بشكل طائش بعض الشيء لا يليق بمؤسسة في سنها: تحاول توجيه مسار الأدب. جوائز كثيرة تفعل ذلك، لكن نوبل أكبر من أن يسمح لها بهذه اللعبة. تكريم صحفية بالجائزة، وتكريم مغن، ثم تكريم كاتب مثل إيشيغورو (يستحق التكريم قطعًا) لأنه يقر هذا التوجه من الأكاديمية، تبدو لي هذه جميعًا تصرفات صغيرة فعلًا. الأدب يغيره الأدباء، والنقاد، والقراء، والزمن، والتفاعل بين هؤلاء جميعًا. الأشكال الأدبية تولد وتموت بناء على هذا التدافع. والجائزة، أي جائزة، تكرم الأدب القائم لا الأدب المنتظر. وأرجو ألا يفهم من هذا أنني محافظ. فإن فًهم هذا فلا بأس، فقد بلغت السن الذي يبدأ فيه الناس فقدان حكمتهم ليوصفوا بالحكمة!

وما رأيك في ورش الكتابة العديدة التي انتشرت في الفترة الأخيرة؟ وإلى أي مدى يمكن أن تفيد صغار الكتّاب؟
ورش الكتابة في تقديري حل أمريكي، كان ينبغي أن يبقى أمريكيًا، لمشكلة شسوع أمريكا. حل لمشكلة صعوبة التواصل بين كتاب في بلد هو في حقيقته قارة. أما نحن في مصر، أو في أوروبا حتى، فالورش الأدبية عندنا قديمة للغاية، أتكلم عن الملتقيات الأسبوعية في المقاهي ونوادي الأدب، عن الكتاب مختلفي التجارب والخبرات والأذواق إذ يلتقون فيتناقشون في إبداعات بعضهم بعضًا. بدون وجود "أستاذ"، و"منهج" و"وصفة" وكل هذه العناصر التي تمثل خط إنتاج. الإبداع الأدبي مشروع فردي، مأسسته تقتله.

وكيف ترى الوضع الثقافي الحالي محليًا وعالميًا؟ هل يمثل تطورًا وانعكاسًا في آن لما يمر به العالم؟
الوضع الثقافي في مصر بائس تمامًا. أشعر أننا نرث تركة لسنا مؤهلين لإدارتها. انظر إلى أي موقع ثقافي، أعني أي منصب، وتأمل المسؤول الحالي والسابق تجد بوضوح أننا ننحدر. أستطيع أن أذكر لك هيئات ومجلات فترى بوضوح أن من يتولونها الآن لا يقارنون من أي وجه بالسلف. ولا أريد أن أهين أسماء بعينها، مع أنني أريد جدًا أن أهين أسماء بعينها.
في الكتابة نفسها، نحن فعلًا بحاجة إلى التوقف عن مجاملة بعضنا البعض. بحاجة ماسة إلى أن نقول للبعض منا: تعلموا اللغة أولًا، وإلى البعض منا: أنتم كتاب قصص لا روايات، وإلى البعض منا: أنتم صحفيون لا روائيون، وإلى البعض: أنتم لستم مترجمين بل شعراء، وإلى البعض: لستم شعراء وركزوا في الترجمة. تواطؤنا على الصمت عن جرائم وسقطات بعضنا البعض ليس في صالحنا ككتاب وكقراء.
ولا أستطيع أن أتكلم عن العالم. ذلك نطاق أكبر بكثير من قدراتي ومن اطلاعي.

في الختام؛ هل هناك مشاريع أدبية تنشر لك قريبًا؟
أكتب طبعًا. وعندي أعمال مجازة للنشر إن جاز القول، لكنني لم أقدمها لناشر، ولو أنني أعرف السبب لما أخفيته عنك.



نشر الحوار في ألترا صوت