Friday, June 13, 2025

محمد السيد إسماعيل

 

محمد السيد إسماعيل






كانت عيناي تتنقلان بين الموبايل واللابتوب، ففي الأول لقاء عمل بدأ على تطبيق زوم قبل أيام ولن ينتهي قبل أيام، وفي الثاني ملفات كلما ظننت أنا وزميلان من المغرب والسعودية أننا انتهينا منها إذا بها تتوالد وتتكاثر بلا شفقة. وفي ثنايا ذلك، جاءت رسالة من أخي الأصغر، قصيرة، وحادة: البقاء لله، أستاذ محمد حمْيَر توفي اليوم، والدفنة بعد صلاة المغرب. شد حيلك!

ثلاثة أرباع عمري انفرطت أمام عيني، حائلة بيني وبين الشاشتين، ثم حائلة بيني وبين ما حولي. مضت تطاردني مشاهد نفضت عن نفسها الغبار وارتدَّت ناصعة كأنما لم تجر قبل عقود. تظهر لي في سجودي وشرودي ونومي، لا يبدو أنها يمكن أن تنتهي، ولا يبدو أنني أريد أن تنتهي.

رأيتني طفلا، في شارع ضيق من القرية، كثير المنحنيات، صاعد إلى ذروة ثم منحدر بعدها، أسير مع أبي إلى بيت الأستاذ محمد حمير، أو محمد السيد إسماعيل كما تعرفونه في أغلفة كتبه وتوقيعه على مقالاته.

رأيتني تلميذا في ثانوي يصر أن يجري حوارا مع أستاذه هذا في الإذاعة المدرسية، فيرفض الأستاذ في البداية، ثم يوافق أخيرا، ليسأله التلميذ عن قصيدة النثر التي لا يعرفها أو يبالي بها في المدرسة كلها غيرهما.

رأيتني شاعرا صدر ديوانه الأول فقير الطباعة، والبضاعة أيضا، وجاء أستاذه يناقشه في ندوة أقيمت ببيت الثقافة القريب.

رأيتني مترجما في أول عهده بالوظيفة يستأذن ساعتين قبل موعد الانصراف ليحضر مناقشة أستاذه لرسالة الدكتوراه في دار العلوم.

رأيتني طفلا ومراهقا وشابا وكهلا، ورأيته حاضرا في كل تلك الأطوار.

رأيتني في الرابعة عشرة من عمري، أحمل ورقة توصية من أستاذي للشاعر المنجي سرحان كي ألقي قصيدة في مخيم الإبداع بمعرض الكتاب. فخورا أمام مئات الجالسين على جمر في انتظار أن تنتهي فقرة الشعراء وتبدأ فقرة الرقص الشعبي.

رأيتني وعمري ستة عشر عاما أسير في القاهرة، وحيدا للمرة الأولى، بهدي من وصفة الأستاذ الدقيقة السهلة منذ مغادرة محطة مترو السادات "عند مخرج طلعت حرب" وحتى الوصول إلى الأتيليه في شارع "اسمه كريم الدولة".

رأيته معلما يشرح لي البلاغة في الفصل، وصديقا يقرأ لي مسودة قصيدة في الفسحة.

رأيت أبي وأباه وأصدقاء عرفتهم من خلاله وبحماية منه.

رأيتنا نتجاور بالصدفة، في قاعة الندوات الرئيسية بمعرض الكتاب، نستمع لجمال الغيطاني محاورا ممدوح البلتاجي! أفسر له وجودي بأنني مفتون بالغيطاني حتى لو حاور وزير الداخلية لا وزير السياحة أو الإعلام، ويفسر لي وجوده بأنه يعمل على رواية للغيطاني في رسالة الدكتوراه وبينهما موعد بعد الندوة.

رأيتنا نتجاور أيضا، لكن على حصيرة في مقر الحزب الناصري في القرية، والأستاذ يحاضر عن التفكير في الإسلام، أو شيء من ذلك القبيل، ويطول كلامه كثيرا، وأستأذن في الانصراف فور انتهائه، خشية أن يثير تأخري ـ وأنا طالب الثانوية العامة ـ مشاجرة أخرى مع أبي. ويعترض المتحدث الآخر في الندوة، زوج خالتي المفكر الإسلامي الرصين د. السيد عمر، قائلا إنني لا بد أن أسمع الرأي الآخر، وأن هذا أهم من الثانوية العامة. ورأيت الرجلين يتفقان في النهاية على تأجيل الجزء الثاني من المناظرة ليوم آخر أستطيع حضوره، في حنان وحرص على ولد صغير.

رأيته يزورني في غرفتي ببيتنا القديم، فأسمعه قصيدة طويلة، يسألني بعدها: "من فيفيان هذه؟" فأقول "فتاة أحبها" فيقول "وإياك أن تتركها".

رأيتني وقد تزوجتها.

رأيتني في طحانوب، قريتنا، أزوره كل أسبوع، ورأيتني وقد اغتربت في مسقط فبات أغلب العام ينقضي دون لقاء، ثم وقد أقمت في القاهرة وجرفتني الدنيا، ثم الآخرة.

رأيتني قبل شهر واحد، منهكا في نهاية يوم عمل طويل، أحضر ندوة أقيمت في حزب التجمع لمناقشة ديوانه الأخير. ويضبط أحد الحاضرين خطأ لغويا في قصيدة له. وأعثر في جوجول على مخرج ـ وإن لم أقتنع به ـ من الخطأ. ورأيتنا بعد الندوة نرتب للقاء قريب لم يقدَّر له التمام.

***

تنتهي أيام العمل الشاقة عبر تطبيق زوم. بعد قراءة تسعين مقالا، ومقابلة تسعين شخصا لمناقشتهم في ما كتبوه. فعلا؟ هل هذا الرقم حقيقي؟ هو إذن الرقم القياسي في حياتي للحديث مع غرباء. متى أصلا سمحت بمثل هذا الاحتكاك اليومي بالناس، أو بنصفه، أو حتى بعشره؟ لا يكاد كل ذلك ينتهي، حتى  أتناول رواية أوقفني العمل عن إتمامها، وكتبا قليلة أخرى أريد أن أنفرد بها، وكل ما لدي من تبغ وبن، وأترك القاهرة ورائي، وابنةً لم تنه بعد امتحانات آخر السنة، وابنا يستعد خلال أيام لخوض امتحانات الثانوية العامة، وزوجة سوف يجن جنونها ولا شك في غياب أي دعم، وأولي شطر طحانوب. غايتي الواضحة هي العزاء، مع أنني أعرف أنه لا عزاء.

فور دخولي شقتي الخاوية، أمضي رأسا إلى الغرفة الملأى بالصناديق الورقية، في أحدها ولا شك عشرات أشرطة الكاسيت. لن يكون البحث صعبا. ليس عليَّ سوى استبعاد أشرطة صوت الفن الخضراء، ثم أي أشرطة أصلية أخرى، للتركيز على الأشرطة الخاصة التي سجلتها بنفسي، ومن هذه عليَّ أن أبحث عن شريطين لندوة أقيمت في بيت ثقافة شبين القناطر لمناقشة ديواني الأول فور صدوره. أي نقلة زمنية من تطبيق زوم إلى شريط كاسيت.

ناقشني في تلك الليلة الشاعران أمجد ريان، ومحمد السيد إسماعيل. ولست بحاجة إلى أن أسمع تسجيل الندوة، لكن حاجتي ماسة إلى أن يكون الشريطان موجودين.

لا يزال حاضرا في ذاكرتي، دونما استماع إلى الشريطين، ما يعنيني من الندوة. لا أزال أتذكر بوضوح غلطتي ليلتها. كنت جالسا على طرف المنصة، وإلى يساري محمد ثم أمجد. كان ديواني الأول، فكان طبيعيا أن يكيل الصديقان الكريمان المديح بلا حساب. لكن غير الطبيعي هو أنني لم أكن أعرف بعد طريقة أخفي بها حرجي مما يقولانه. فما كان مني إلا أن أخذت أنظر إلى صديق لي، مبديا دهشة مما أسمع أو استنكارا، أو أي تعبير آخر أوحى للحاضرين بأن ما يسمعونه لا يستحق وقتهم، فمضوا في أحاديث جانبية أثارت ضيق الناقدين. لعلهما الوحيدان في الندوة اللذان لم يفهما سبب انصراف الحاضرين عن حديثهما. سأتعلم بعد ذلك أن الطريقة المثلى لاجتناب حرج كهذا هي منعه من المنبع، فلا أوافق إلا لمامًا على تنظيم مناقشة لأي من كتبي.

ولا يزال هذا أيضا حاضرا في ذاكرتي. في الديوان قصيدة عن فتاة ترفض كوب لبن. فيها:

يقول الطبيب

وربما الأم من قبل

إن الحليب...

ولا بدَّ...

من أجل أن...

-       "لا أريد".

وسط لغط الحضور، قال محمد السيد إسماعيل إن هذه القصيدة تبتر ما تقوله الأم، وما يقوله الطبيب، تبتر النصيحة وإن تكن سديدة، والتنبيه وإن يكن في محله، ثم تأتي إلى رفض الفتاة وعنادها فتثبته كاملا، بنصه، بل وتضعه بين أقواس، مسبوقا بشرطة، ومتبوعا بنقطة، كأنما لا مجال لحديث بعده، أو كأنما هو الحديث الوحيد الجدير بالتدوين.

هل خرجت من تلك الندوة بأثمن من هذه الملاحظة؟ أعني منحه لي سببا إضافيا لأن أحب إحدى قصائدي.

وهل أنا بحاجة حقا إلى شريطي الكاسيت؟

وفيم إذن كل هذا التراب الذي أغرق فيه نفسي كأنني أحفر قبرا أو بالأحرى، أنبش في قبر؟

***

لا يزال ماثلا في ذاكرتي ذلك اليوم في ثمانينيات القرن الماضي، حينما اضطربت شوارع القرية، بمطاردات وملاحقات، وربما بأصوات رصاص. كنت أصغر من أن أشهد بعيني، لكني سمعت شذرات من أحاديث عن إحراق صناديق انتخابية، وخروج مندوبة معينة من مندوبي الحزب الوطني مذعورة من اللجنة، واعتقالات بعض الشباب.

ربما لم أر بعيني شيئا من هذا، لكنني رأيت ما سبقه على مدى أسابيع من حرب لافتات استعرت في الشوارع بين خالد محيي الدين الذي كان يخوض الانتخابات في دائرتنا، لا في كفر شكر دائرته المعتادة، وبين مرشح الحزب الوطني الذي سأقرأ بعد سنين أن عائلته تنفرد بتمثيل دائرتنا في كل برلمان مصري منذ القرن التاسع عشر.

في غضون سنوات قليلة سأعرف شخصيا أحد الشباب الذين ترددت أنباء اعتقالهم. لن ترقى علاقتنا إلى صداقة، فقد حال دون ذلك فارق في السن، وفي السمعة، والأخير أهم في نظر أبي. كان ذلك الشاب محاميا، أو خريج حقوق على الأقل، ويساريا، أو عضوا في حزب التجمع على الأقل، وكان يبدو في مشيه الكسول بالقرية نافدَ الصبر بالناس، متعاليا عليهم، فكان من الإنصاف في المقابل أن رماه أهل القرية بالجنون أو بالإلحاد أو بكليهما.

بعد سنين قليلة، وأنا في الجامعة، سيزورني ذلك الشاب في البيت، ولا يكاد يجلس في غرفة الضيوف، حتى تستقر بيني وبينه صينية الشاي، وملف يفتحه طالبا مني أن أساعده في ملئه. كان الملف باللغة الإنجليزية، ومن هنا الاحتياج إلى مساعدتي. بدأت أقرأ وأترجم. لم يبق في ذاكرتي من ملف الهجرة ذلك إلا قائمة الوظائف الأعلى حظا في القبول. اختار من بينها وظيفة بحار.

لم أسأله لماذا اختار مهنة البحار، ولا سألته لماذا اختار من بين كل بلاد العالم أبعدها في المكان والزمان: أستراليا. ليس لأنني كنت أعلم الإجابات سلفا، ولكن لأن الإجابات كانت تظهر على وجهه تباعا، وبجلاء تام. أقول في دهشة "أستراليا!"، فأرى على وجهه "نعم" كبيرة، شاسعة، بعيدة، ليس في أفقها الرحب غير كنغر واقف على قائمتيه الخلفيتين شارد العينين. وأقول في عجب "من محام إلى بحار"، فيغمض عينيه كمن يتقي ريح المحيط العاصف وينتشي بها في الآن نفسه.

لم يكن لديه كثير لملء خانات الملف، ولا قليل. وفي نهاية الجلسة التي طالت قليلا، قلت له "أنت تعرف طبعا أنها محاولة منذورة للفشل" فضحك للمرة الأولى ضحكة صاخبة وقال "طبعا". ولم يتبعها بقوله "شأن كل شيء في حياتي".

سيموت "رائف" بعد سنوات قليلة، غير تارك زوجة أو ولدا، أو حتى سيرة يمكن أن توصف في القرية بالطيبة والعطرة. وربما لم يبق الآن أحد ممن يمكن أن يتذكروه بخير أو بشر. فقد مر أكثر من عشرين سنة على وفاته، حاصدة في طريقها كارهيه ومحبيه. لكن ها أنا أتذكره إذ يموت صديقه وصديقي، محمد السيد إسماعيل.

في بيت محمد فقط، من كل البيوت التي كنت أعرفها، كان يمكن أن أقابل رائفا غير المنبوذ، رائفا الهادئ، مأمون الجانب، الذي لا يفاجئك بغضبات جنونية، الظريف الذي يعرف كيف يلقي نكتة، الرصين عندما يتحدث، القادر أن يستشهد عند اللزوم أو الرغبة في الاستعراض بمهدي عامل، والذي قد يدندن لنفسه في لحظات الصمت بأغنية لمحمد فؤاد إما أنها "مواعداني وطال الانتظار" أو أنه لم يبق لي أمل في أن أتذكرها.

ليس رائف وحده. ففي بيت محمد السيد إسماعيل اقتربت من منبوذين آخرين، أو مختلفين وحسب، فانغرس في وعيي مبكرا أنني يجب ألا أقيم وزنا لإجماع. ليس بغير تمحيص. وربما في مثل أهمية ذلك أنني تعلمت أنه يمكن أن يصاحب المرء الصعاليك وشذاذ الآفاق وغير القادرين على قبول ما حولهم أو احترامه، ويبقى على اتزانه، معلما وقورا في الفصل، متحدثا جادا في الندوة، سياسيا ملتزما في الحزب، وشاعرا متخفيا طوال الوقت.

***

لا أستطيع أن أحدد السنة بدقة، ولن أبحث في جوجول عن تاريخ حصول محمد السيد إسماعيل على جائزة النقد الأدبي من مجمع اللغة العربية. لن أرفو بجوجول خرقا ما كان يجدر أن أسمح به أصلا في ذاكرتي. كنت قد زرته بعد أسابيع من فوزه بتلك الجائزة، وما كدنا نجلس حتى هنأته، بطريقتي: كيف لجائزة يمنحها مجمع اللغة العربية نفسه ألا تلقى حقها الواجب من الحفاوة والتغطية الإعلامية؟ وكلمته عن الأكاديمية الفرنسية التي كلما انضم إليها عضو صار ذلك نبأ يذاع، وواقعة يدونها التاريخ. فافتعل الدهشة، وأظهر احتراما لكلامي، وقال دون أن يعني حرفا من قوله: والله عندك حق. وفهمت أنا برغم القسم أن الأمر في نظره هيِّن.

ثم إنه قال، سأحكي لك قصتي مع هذه الجائزة. قال إنه لم يسمع عنها من قبل، لكنه قرأ خبرا في الأهرام، جاء فيه أن آخر موعد للتقدم للجائزة في غضون أسبوع، وأن الثيمة المحددة للتسابق هي الكتابة عن شوقي. قال: جئت بالشوقيات، وجلست. أشار إلى طبلية صغيرة كان يكتب عليها حتى ذلك الحين، قبل أن ينتقل من القلم والورق إلى الكمبيوتر، وليته ما فعل، فقد بقيت ملفاته على مدار السنين أشبه بغلال من الكلمات منثورة نثرا على الصفحة البيضاء، يلزمني حتى أقرأها، أن أقضي في تنسيقها وضبطها وقتا غير قليل.

قال، جلست أقرأ الشوقيات بالترتيب، وكلما قرأت قصيدة دونت عنها ملاحظات، وهكذا حتى انتهى المجلدان، في كم يوم بقى؟ في يومين اثنين. ثم جلست في يومين آخرين أو نحو ذلك فكتبت الكتاب، وأخذته كما هو فشاركت به، وفزت.

طبعا، لم أسأله: لماذا لم تبدأ بالنسيب؟

كان قد قابلني بالمصادفة وأنا راجع من المدرسة الإعدادية، فسألني باسما ومشفقا عما يثقل حقيبتي المدرسية المكتظة. أخرجت له بفخر صبياني ديوان حافظ. كنت قد استعرته من مكتبة المدرسة في الأسبوع الأول من الدراسة، وظللت لشهور أتنقل به حيثما ذهبت، مفتونا بما أقرأ. وكعادته، أثنى عليَّ، ثم سألني إن كنت قرأت الشوقيات، فقلت لا. قال إن رأيتَ أن تقرأها فـ"ابدأ بالنسيب"، وقال إن النسيب هو الغزل.

في ذلك اليوم، كان قد مر نحو ثلاثة أعوام على لقائنا الأول، إذ قال لي أبي في عصر يوم صيفي، هات قصائدك وتعال. كان قد أخبرني من قبل أنه سيأخذني ليعرفني بشاعر من البلد اسمه محمد حمير، درعمي، معه ماجستير في الشعر، ومعلم لغة عربية، ويسكن على مقربة من (الجامع الكبير). قال أبي، سأتركك بعد أن نشرب الشاي وأذهب إلى عمك محمود عبد الصمد، يقصد صديقه الوحيد الذي كان بيته أيضا على مقربة من الجامع الكبير. فلعل ذلك كان أول إرث لي من أبي: أن يكون أقرب أصدقائي أنا الآخر مقيما قرب الجامع الكبير.

هيأني أبي مسبقا، خشية أن تغلبني طفولتي فأبدي حينما أراه دهشة تؤذيه. ولكنني، خلافا لأي صورة كونتها قبل رؤيته، رأيت مودته الفائضة وكرم استقباله لنا، فكانا أوضح كثيرا من قصر قامته الذي أنبأني به أبي. أخذت أُسمعه من كراستي أجود ما فيها، وهو يستزيدني، حتى قرأت كل ما معي، وهو يثني، ولا يعلق إلا بتصحيح خطأ هنا، أو ضبط هنة وزنية هناك، أو اقتراح كلمات أنسب للقوافي. ثم سألني عما أقرأ من الشعر فقلت فاروق جويدة. ابتسم بلا سخرية، وقال: ممتاز. ولما امتعض صديق له كان قد انضم إلينا، أشار إليه فأسكته. ثم التفت إليّ وقال: دعك من رأي الأستاذ أمين، يعني أمين الكرداسي، صديقه الذي انضم إلينا وأستاذ اللغة العربية في مدرستي الإعدادية. وتابع: واحفظْ من شعر فاروق جويدة ما استطعت.

لن ينقضي وقت طويل حتى أفهم سر امتعاض الأستاذ أمين، وسر مطالبتي بأن أحفظ ما أستطيع من شعر جويدة. سأرى التأثير في قصائد لي بات وزنها أكثر انضباطا. وسأرى أنني سرعان ما أتجاوز فاروق جويدة من تلقاء نفسي إلى غيره. وسأفهم بعد سنين لماذا لم يقترح عليّ الأستاذ كتابا قط، ولماذا لم يعرني مطلقا إلا ما أطلبه منه بنفسي. صحيح أنه كان معلما، وأني سأجلس بين يديه تلميذا في المدرسة الثانوية، لكنه سيحرص دائما على ألا أقفز قفزات قبل أوانها. تركني أكره الشعر الحر إلى أن التقيت بأمل دنقل، وقصيدةَ النثر إلى أن أوقعني في شركها الماغوط، بل لقد تركني سنين أوثر يوسف إدريس على نجيب محفوظ إلى أن أنار الله بصيرتي وعرفت لكل منهما قدره.

***

أعجب الآن كيف لم يبدِ ضيقا قط من مروري عليه كل أسبوع أو أسبوعين على الأكثر، بقصائد جديدة كتبتها منذ آخر لقاء فملأت من أجندتي البنية شهرا أو أكثر.

دونما موعد مسبق، فما من هواتف أرضية آنذاك إلا في بيوت قليلة، كنت أمر بالبيت فأنادي، ويأتي صوته من غرفة على الشارع في الطابق الأرضي (ادخل يا أحمد). كثيرا ما كنت أجده وحده، وكثيرا ما كنت أجد لديه رائف، أو أحمد بيومي، أو غيرهما من أصدقائه. وكثيرا أيضا ما كنت أذهب إليه مصطحبا بعض أصدقائي ممن لهم علاقة بالكتابة أو القراءة! ولم يحل شيء أو أحد قط دون أن يفرغ نفسه لي فأقرأ عليه، وأسمع منه.

كنت على أعتاب الثانوية العامة، وأخبرته أنني خلافا لما يراد لي في الأسرة والعائلة والمدرسة أعتزم الالتحاق بالقسم الأدبي، فسألني عما أعتزم دراسته في الجامعة. قلت "الفلسفة"، وكنت قد وقعت في غرام محفوظ، ولم يعد يملأ عيني أقل من الفلسفة. قال لي "ممتاز"، فلا بد طبعا من دراسة الفلسفة. ثم سألني إن كنت فكرت في ضرورة أن أقرأ بلغة أخرى بجانب العربية، وفي أن ذلك قد يعينني على قراءة الفلسفة، والشعر أيضا، بلغتين.

ذلك أقصى ما فعله من توجيه. لا أستطيع حتى أن أصف ما قاله في ذلك اليوم بالاقتراح. فقط أثار الفكرة، وتركها لي، أو تركني لها.

***

على مدار السنين، سيزورني مثلما أزوره. سيستعير مني روايات يحتاج إليها لأطروحته، وسأستعير منه كتبا لشعراء عرب، وأعدادا قديمة من مجلة فصول، سيكتب عن كتب لي مرات، وسأعينه في ترجمة فقرات من كتب يريد الرجوع إليها في بحث ـ لعله بحث الدكتوراه ـ وسيطلب مني أن أترجم موجز البحث إلى الإنجليزية. سنصبح كأننا صديقان، أو زميلان، يقرأ أحدنا مسودات الآخر، ونتبادل الرأي مثلما نتبادل الزيارات.

سيقيم، بعد سنوات قليلة قضاها مغتربا في ليبيا، بيتا مستقلا عن بيت أبيه الذي عرفته فيه، وسيقيم أبي بيتا غير بيتنا القديم، وسيكون البيتان الجديدان قريبين، فنصبح جارين أيضا، لا يفصل بين بيتينا غير بيوت قليلة. فنقترب بكل وجه ممكن.

كبرت في بيته، منتقلا من شرب الليمونادة بينما هو وأبي يشربان الشاي، إلى شرب الشاي فقط بينما يشرب هو الشاي ويدخن، إلى مشاركته شرب القهوة وتدخين السجائر، إلى أن يأتي الوقت فيقلع هو عن التدخين، وأدخن أنا وحدي.

وعلى مدار كل تلك السنين، لن أكبر على شيء واحد: فلن يحدث ولو مرة واحدة أن أناديه باسمه مجردا، فهو دائما الأستاذ، والدكتور، وإن خاطبت أنداده بأسمائهم المجردة، وإن تحولت علاقتنا إلى صداقة وطيدة.

لم أتخلص قط من إحساس التلميذ هذا تجاه الأستاذ محمد، لأنني ببساطة لم أحتج إلى التخلص منه. ولأنه لم يطلبه قط، خلافا لآخرين، صغار، يتسولونه تسولا، أو يدّعونه كذبا. كان يعرف، مثلما أعرف، أنه أستاذي.

قبل سنوات قليلة، كنت أستعد لإصدار ديوان، وأطلعت أصدقاء أثق في ذائقتهم على مسودته، وجاءتني ردود يفترض أن تطمئنني، ولم أطمئن. وبالمصادفة دعاني محمد السيد إسماعيل لأمسية شعرية في مكان ما كان يشرف على ندواته ولا أذكر منه إلا أن في اسمه شيء اشتراكي، وأنه غرفة شديدة البساطة في طابق أرضي من بناية بحي شعبي، وأن الأمسية لم تكن أكثر من مائدة تحلق حولها حضور لم يتجاوز عدد أصابع اليدين، وأني قرأت من مسودة كتابي أكبر قدر ممكن، ثم انفردت بمحمد في طريقنا إلى المترو، فسألته عن رأيه. ورجعت إلى البيت فبعثت إلى ناشرتي مسودة الديوان.

***

طريقته التي كتب بها عن شوقي هي طريقته عموما في الحياة. بمثل تلك البساطة كان يفعل كل شيء. وبمثل تلك الثقة في قدراته.

في مناقشة رسالته لنيل الدكتوراه، وكنت أنذاك قد أصبحت مترجما في هيئة الاستعلامات، اعترض أحد مناقشيه على بنية بحثه نفسها. كان قد بحث عددا غفيرا من الروايات لرسالته التي تناولت في ما أتذكر "الرواية السياسية في مصر في الفترة من 1973 إلى 1993". وكتب بضع صفحات عن الرواية تلو الرواية تلو الرواية، فرأى المناقش هذا شديد الإملال. والأمر ببساطة أن هذه طريقة محمد السيد إسماعيل. كان بوسعه أن يستعرض الروايات بعشرات الطرق الأخرى، ويصنفها تصنيفات مختلفة، لكنه في النهاية كان ليخلص إلى النتائج التي خلص إليها بتلك البساطة، فما الداعي إلى التعقيد؟

وفي مناقشة الرسالة تلك، حدث ما لا أزال كلما تذكرته أود لو تنشق الأرض وتبلعني. اعترض مناقش على مرجع معين رأى ألا علاقة له بموضوع الرسالة. كان المرجع كتابا من بضعة كتب باللغة الإنجليزية زارني بها الأستاذ محمد ذات يوم. قلت له وأنا أتصفح الكتب إنها معدومة الصلة ببحثه تقريبا، فأصر على أننا يمكن أن نجد فيها ما ينفع في تذليل عقبة شكلية تصر على احتواء رسالة الدكتوراه على نسبة معينة من المراجع بلغة أجنبية. دافع محمد عن مرجعه ذلك، وأشار في كلامه إلى أنه استعان عليه بمترجم "قديم" يعمل في هيئة الاستعلامات. ظللت جالسا في الصف الأخير من القاعة، أعد الثواني، غافلا عن كل ما يقال، منتظرا اللحظة التي تعلن فيها اللجنة منح الباحث درجة الدكتوراه، والعفو عن المترجم.

***

لم يكتب محمد السيد إسماعيل عن كتاب إلا ليظهر فيه شيئا يراه جديرا ولافتا، لا ليستعرض أدواته هو أو منهجه أو سعة اطلاعه. لم يقابل سخرية إلا بضحك، ولا استخفافا إلا بترفع وكبرياء. كان ممتلئا بنفسه، مدركا نفاسة ما اكتنزه في عقله وروحه على مدى عمره، ملتمسا لمن حوله العذر، غير مكترث فعلا بكل ما يلهث آخرون من أجله.

في لقاءاتنا الأخيرة، التي ندرت بتقدم السنين، كان يقرأ لي أحيانا من مسرحيات شعرية يكتبها! ولو أن أحدكم يعرف من يكتب مسرحية شعرية في زمننا هذا فليعلم أنه شخص نادر، لم تلهه دنيا الروايات وجوائزها وحفلات توقيعها عن سماوات فنون أخرى لا تزال قادرة على إضافة الجمال. شخص لا يطمع لكتابه في أرفف الأكثر مبيعا، ولا يضيره بقاؤه منزويا في أخفت أركان المكتبات إضاءة، وأقلها روادا، في انتظار أن يأتيه قارئ لا زبون.

ظل محمد السيد إسماعيل وفيا للشعر، يكتبه، ويكتب عنه، ويكتفي بصحبته، ويغني به روحه. وظل الإنسان حاضرا في شعره الأخير كما في شعره الأول. ظل لا يتعالى على ندوة، أقيمت في دار حضانة في قريتنا أم في جحر حزبي في هذه المدينة أو تلك، فيعطيها من الاهتمام مثل ما يعطيه لغيرها مما يقام في أماكن أرقى أو أمام جمهور أعلم. ظل يكتب عمن لا يعرفهم شخصيا، مثلما يكتب عن أصدقائه، بالقدر نفسه من الإخلاص والمحبة. وظل مثلما عرفته في طفولتي وشبابه، يؤاخي في حياته بين الشعر، والتزامه السياسي، وعمله الاجتماعي، ثابتا في مواقفه، منحازا للإنسانية والجمال، دونما مرارات أو أحقاد، أو انتظار جزاء.

 

بدأت كتابة هذه السطور غداة وفاة الشاعر والناقد الأستاذ محمد السيد إسماعيل حَمْيَر (مثلما ننطق الاسم في طحانوب) في العشرين من مايو لعام 2025، عن ثلاث وستين سنة.

* تم تصحيح سنة الوفاة بعد النشر الورقي

نشر المقال في عدد يونيو 2025 من مجلة إبداع

 

أفكر

 

Tuesday, March 25, 2025

مقتل البحار العجوز


مقتل البحار العجوز

 



تروى "قصيدة البحار العجوز" لصمويل تيلور كوليردج، التي طبقت شهرتها الآفاق، حكاية بحار عجوز يتنقل من بلد إلى بلد، تنقُّل الليل، باحثا عن شخص يعرفه حين يراه، وله يروي الحكاية.

أتنقل مثل الليل، من بلد إلى بلد

ولديَّ قدرة عجيبة على الكلام

وفي اللحظة التي أرى فيها وجهه

أعرف الرجل الذي يجب أن يسمعني

وله أروي حكايتي

لا بد أنه حكاها مرات كثيرة قبل تدوين القصيدة، ولا بد أنه حكاها مرات كثيرة بعد ذلك، وكل مرة لشخص مختلف، ولكنه في النسخة المثبتة في القصيدة كان شخصا ذاهبا مع رفيقين إلى عرس ابن عمه، وظهر لهم البحار بعينيه المتوهجتين ولحيته البيضاء، فاستوقفه من دونهما، وأسمعه الحكاية، وفي النهاية:

ها هو الضيف

وقد أعرض الآن عن العرس

مضى كمن نزلت عليه صاعقة

فسلبته رشده

ونهض في صباح اليوم التالي

أعمقَ حزنا وأشدَّ حكمة

لا بأس من إيجاز الحكاية التي سمعها ضيف العرس فصرفته عن البهجة الصاخبة، وأسلمته للحكمة المشوبة بالحزن، أو ربما للحزن الحكيم. كان عشرات البحارة على سفينة تائهة، وظهر لهم في تيههم طائر القطرس، فطاب بظهوره الحظ وصفا الجو وأدرك الملاحون وجهتهم ومضوا في بحر رائق دافئ نحو الأمان، يصحبهم القطرس، فيطعم معهم ويشرب، ثم أطلق أحد البحارة لاهيا سهمه فقضى عليه. وانقلب الحال، وتساقط البحارة صرعى:

مئتان من الرجال الأحياء

(وما سمعت أنة ولا زفرة)

بخبطة ثقيلة سقط الواحد

بعد الآخر، كتلةً هامدة

لم ينج منهم إلا واحد، هو البحار القاتل، العجوز، المثقل بما اقترفته يداه، وما شهدته عيناه، المحكوم عليه بالترحال، حاملا الحكاية، يحكيها لمن يعرفه حين يراه!

أسئلة كثيرة تنهال على قلب من يقرأ القصيدة للمرة الأولى، وتستولي على عقله، وبالذات إذا كان طالبا غرًّا في الثامنة عشرة، يدرس الأدب الإنجليزي في الجامعة كما كان حالي، فتظل تطارده الأسئلة، بل تصاحبه في عودته من المدينة الصغيرة حيث جامعته الصغيرة إلى القرية البعيدة حيث بيته البعيد، في نهاية يوم دراسي شتائي، مسلما وجهه للنسيم البارد وقد جعله الميكروباص بمروقه المتهور عاصفة لشخص واحد سارح العينين في الحقول المبسوطة حتى السماء، تحدثه نفسه بأنه لن يذهب أبدا إلى العرس بعدما سمع الحكاية، وبات هو الآخر أعمق حزنا، ويأمل أن يزداد حكمة.

لسنين، سيسأل نفسه، ويسأل القصيدة، ولا يجاب: ما الذي كان يراه البحار في شخص فيلقي إليه الحكاية، ويلقي عليه لعنتها؟ ما الجريمة التي كان ليرتكبها قارئ تلك القصيدة، وبدم من كان ينبغي أن تتلوث يداه، لولا أن رمته الصدفة إلى "قصيدة البحار العجوز" أو رمتها عليه؟

من شتى تفسيرات القصيدة التي عرضها الأستاذ على طلبته، يميل صاحبنا إلى قراءة القصيدة في ضوء الخطيئة بالمفهوم المسيحي، وثقل الألم على مقترفها. لن يحفل بأفكار من قبيل أن العدوان المجاني هو الذي أوغر قلب الطبيعة على أبنائها، أو أن التنكر للفأل الحسن هو الذي استجلب اللعنة؟ وستبقى محفورة في عقله طويلا صورة البحار المذنب إذ استبدل بالصليب المعلق في رقبته جثة القطرس القتيل؟ وسيقرأ عن الندم إذ يثقل كاهل البحار، فيحار في ندم آخر لا بد أنه أثقل كاهل ضيف العرس، ندم على خطيئة لم يتركبها!

"قصيدة البحار العجوز" إحدى قصائد قليلة تخلد لكوليردج مكانه وسط شعراء الإنسانية المعدودين، وإحدى أكثر قصائد شعراء الرومنتيكية الإنجليز حظوة بالدراسات، ولعلها من أروج قصائدهم لدى أجيال القراء المتعاقبة، لما فيها من إيقاع عذب، وصور شعرية مؤلمة الجمال، وغموض فاتن لا تزيده كثرة القراءة إلا عمقا.

وفي السنين القليلة الأخيرة، شاعت القصيدة في دراسات النقد الإيكولوجي Ecocriticism، شيوعا لا يصادف هوى في نفسي، كحال كل الاتجاهات النقدية التي لا تعنى بأدبية الأدب وجمالياته، وإنما بتوظيفه، بل تجنيده، للنضال في قضايا النسوية أو الكولونيالية أو البيئة أو غيرها. ولا تكاد دراسات النقد الإيكولوجي هذه تبالي برمزية القصيدة، ومأزق البحار الوجودي العميق، لأن ما يعنيها تحديدا هو العدوان على الطبيعة، بل البيئة.

وهذه القراءة لها بالطبع ما يبررها، إذ تجسد القصيدة الأواصر البديهية بين الإنسان والطبيعة، باعتباره جزءا منها، وعنصرها العاقل، وباعتبارها أمه التي تعاقبه على الخطأ في حق أخيه الطائر. وفي حين أن هذه العلاقة لا تعدو أحد مستويات القصيدة، وسِمةً يرصد نقاد الأدب تواترها عند الرومنتيكيين، فإنها تمثِّل لدعاة النقد الإيكولوجي بؤرة اهتمامهم، حتى لو أن الهم البيئي ومفهوم البيئة العلمي نفسه لاحقان على القصيدة والشاعر ووعيه ووعي عصره. وليست قصيدة كوليردج الضحية الوحيدة لهذا المنهج النقدي غير الأدبي، فقد استهدف النقد الإيكولوجي منذ التسعينيات تقريبا روائع من قبيل "موبي ديك" و"الشيخ والبحر" اللتين يجد قراء الأدب فيهما منذ عقود قيمة فكرية وشعورية ورمزية، ويشتم فيهما العبق الذي قلَّ العثور عليه في غير كلاسيكيات الأدب الراسخة الحية منذ قرون.

من الدراسات ما يقول مثلا إن قصيدة البحار العجوز "يمكن يقينا أن توصف بالقصيدة البيئية أو المقطوعة الشعرية الإكونقدية ecocritical"، ومنها ما يذهب إلى أن "فعل قتل [الطائر] يخلُّ بالتناغم بين الإنسان والطبيعة" أو إلى أن "حياة الطبيعة الأم تتهدد بتهديد البحار للأمومة والتكاثر والخيال والأنوثة. [ثم إنه] ما من حديث عن أسرة للبحار، ويبدو أنه لا مكان له في عائلته وهو ما قد يشير إلى أن البحار لم يعد أحد عوامل التكاثر. والبحار في وطنه يبدو شخصا عقيما، وبيديه النحيلتين يبدو أرضا بورا تتناقض أشد التناقض مع خصوبة طقس العرس القائم".

هذه سطور مأخوذة فعلا من دراسة "نقدية" لا من ملف دعوى مرفوعة أمام محكمة الأسرة. وبرغم أن تشوه هذه القراءات لا يحتاج في نظري إلى دليل، فلا بأس من التدليل برؤيتها لطقس العرس. ففي حين أن العرس لا يزال يبدو لي منذ قراءتي الأولى للقصيدة رمزا لكل بهارج الدنيا التي تنكشف هشاشتها فور أن تبهتنا حكاية البحار وكشفها لطرف من حقيقة الوجود ونزر من غموضه، فإن العرس يبدو لهذه الدراسة رمزا للخصوبة والتكاثر، دون أن تدعم القصيدة ذلك بشيء. فيا له من سهم قاتل يطلقه الإكوكريتيسيزم على البحار العجوز!

يركز النقد الإيكولوجي عموما على الأدب في تناوله للبيئة وتفاعل الإنسان مع كائنات محيطه، وأثر البيئة على الإنسان، ولا ضير طبعا في دراسة هذه العلاقات والتأثيرات، ولا بأس من تلمُّسها في الأدب حيثما تظهر، شريطة ألا يكون في ذلك تعسف وليٌّ لأعناق أعمال أدبية تكاد تصرخ بأن معانيها العميقة مغايرة لهذا الطرح البيئي، وبأن غاياتها الكبرى جمالية لا دعائية، مهما يكن نبل الدعوى.

الحق أن بادئة eco التي التصقت بالنقد، والمأخوذة من جذر لاتيني يعني "البيت"، قد التصقت في السنين والعقود الأخيرة بعشرات الكلمات، موجهة إياها إلى مراعاة البيئة، فالتصقت بالسياحة والتصنيع والتصميم والتخطيط وعشرات الكلمات، فضلا عن اصطباغ أجندات أحزاب سياسية وحركات معارضة بالبعد البيئي. ولا أحسب أن أحدا يمكن أن يعترض على توجيه شتى أنشطة الإنسان وجهة تحترم البيئة، فجدير بكل من ينحاز إلى الإنسان أن ينحاز إلى الرشد في التعامل مع العالم المحيط به بكل مفرداته. لكن لماذا ينبغي أن نتطرف إلى حد قراءة الأدب قراءة علمية سقيمة؟ لماذا ينبغي أن يتحول الأدباء ومحبو الأدب إلى ناشطين، والأدب نفسه إلى دعاية، مثلما تحولت "الطبيعة" إلى "بيئة"؟

لقد تعاملت الأديان والفنون على مدى تاريخ البشر بمحبة وحنان بالغين مع الطبيعة، وإلا فما السر في كل لوحات المناظر الطبيعية، بل والطبيعة الصامتة، وما السر في مفتتحات مئات الروايات التي تتفنن في وصف الآفاق، فضلا عن آلاف القصائد؟ مؤكد أن السر ليس الحرص على نسبة الأوكسجين، أو الخوف على طبقة الأوزون، أو الضغط لتقليل حرارة الكوكب بمقدار درجة ونصف الدرجة بحلول سنة كذا. وإنما هو الافتتان بالجمال، والامتنان له، والإحساس بأننا وكل ما حولنا أسرة واحدة.

فلماذا نجرد موقفا نبيلا تجاه الطبيعة، الحية والجامدة، من حمولته العاطفية؟ لماذا نعلل سعينا إلى حماية البيئة من جور الرأسمالية الجشعة وطغيانها بالمنفعة والوظيفة لا بحب الجمال وفضيلة حسن الجوار بيننا وبين الشجر والحجر؟ لماذا تشعر الإنسانية أنها كبرت على الرؤية الرومنتيكية للعالم فتطمس معالمها ما استطاعت؟ لماذا نكفر بأغنية كوليردج ونعتنق الإكوكريتيسيزم؟ لماذا يصعب أن نقول لأنفسنا ببساطة ما يقوله البحار العجوز لضيف العرس قرب نهاية القصيدة:

وداعا، وداعا،

لكن اسمعها مني يا ضيف العرس:

أحسنُ الناس صلاة أحسنُهم حبًّا

للناس والطير والدواب.

 

وأحسنُ الناس صلاة أحسنهم حبًّا

لكل الأشياء، كبيرها وصغيرها.

 

·      جميع مقاطع القصيدة من ترجمة د. حسن حلمي في كتابه "الستة الكبار"، الكتب خان، القاهرة 2024 ـ عدا المقطع الختامي فهو من ترجمة كاتب هذه السطور

·      نشر المقال في العدد 66 (يناير-مارس 2025) من مجلة الجسرة الثقافية

 

Monday, March 24, 2025

كلمات في الجنة

 


كلمات في الجنة

 


يوجب منطق التلقي البشري لآية يستهلها الله تعالى بقوله "وما هذه الحياة الدنيا إلا لهو ولعب" أن تكون بقيتها من قبيل أن الدار الآخرة هي الجد والعمل، ليكون الجد في مقابل اللهو، والعمل في مقابل اللعب. لكن منطق القرآن إلهي محض، فتكتمل الآية بقوله تعالى "وإن الدار الآخر لهي الحيوان". والحيوان، كما تنبئنا المعاجم ويوضح لنا المفسرون، هو الحياة.

هكذا يردنا الله إلى شطر الآية الأول وقد علمنا عن الحياة التي نعيشها هنا ما لم نكن نعلم: أنها في حقيقتها نقيض الحياة، وأننا نظل إلى أن يعتقنا الموت من أسر الجسم والجاذبية والسبب والنتيجة، محرومين، لا نذوق للحياة طعما. لأن الحياة ـ على رأي ميلان كونديرا ـ هي في مكان آخر.

ترد هذه الآية في سورة (العنكبوت) التي ينبئنا الله فيها بما لعلنا نعلمه جميعا، وهو أن بيت العنكبوت أوهن البيوت، لكن الله تعالى يتبع ذلك بقوله "لو كانوا يعلمون"، فيا لها من نهاية عجيبة للآية!

غير أن العجب ينتفي، عندي على الأقل، إذ أنتبه إلى أن هذه النهاية تتكرر في السورة مرة أخرى بنصها، فهي نهاية آية اللهو واللعب والحيوان:

"وما هذه الحياة الدنيا إلا لهو ولعب، وإن الدار الآخرة لهي الحيوان، لو كانوا يعلمون".

ينهي الله بالصيغة نفسها جملتين، واحدة عما يفترض أننا نعلمه،  وواحدة عما لا نعلم من أمره إلا ما يخبرنا به الله، فلعل الله يسوقنا إلى أن نربط آية بيت العنكبوت الواهي بآية حياة اللهو واللعب، ولعل أحدنا لا يشطط كثيرا حين يخطر له أن الوهن ليس مقصورا على بيت العنكبوت وحده، وأن الإحساس الزائفَ بالبيت الذي قد يشعر به عنكبوت في عشه، أشبه بالطمأنينة التي قد نجدها في أنفسنا إلى الدنيا.

***

من أشد ما أشتهيه في "الحياة" الحقيقية الموعودة أنه لن يكون فيها كلام فارغ.

ففي سورة (الواقعة) أن أهل الجنة "لا يسمعون فيها لغوا"، وفي سورة (الغاشية) أن الجنة "لا تسمع فيها لاغية"، بل إن من يشرب فيها كأسا فهي كأس ـ كما في سورة (الطور) ـ  لا لغو فيها.

غير أن الموعودين بهذه الحياة التي ما من كلام فارغ فيها، هم الذين يرفضون الكلام الفارغ في شبه الحياة التي نعيشها هنا، ففي القرآن آية أخرى يصف فيها الله الموعودين بالجنة بأنهم ـ هنا على الأرض ـ "عن اللغو معرضون".

وإذن، الجنة الآن، قريبة قرب الـ flight mode في الهاتف، أو قرب زرِّ الإطفاء في ريموت التليفزيون، أو قرب انقطاع النور، أو بالأحرى قريبة قرب الاتصال بالنور.

***

كثيرة أوصاف الجنة في القرآن، أنهارها وأطعمتها وأشربتها بل وأقمشة ملابسها. ومن بعد، هناك الأحاديث تفصِّل ما يجمله القرآن حتى لنعلم من أي خامة أقيم في الجنة بيت أمِّنا خديجة رضي الله عنها. وبعد هذين النورين، أمم من علماء المسلمين يوردون للنعيم أوصافا لا أول لها ولا آخر.

ووسط كل هذه النصوص، ثمة حديث يزعزع فهمنا لهذه الأوصاف، أو يضبط هذا الفهم، إذ يرتقي بالجنة عن كل تصور قد ينسجه قارئ من أوصافها في القرآن أو الحديث أو غيرهما. ذلك حديث رواه أبو هريرة رضي الله عنه وفيه أن الله تعالى أعدّ للصالحين من عباده "ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر". يوشك هذا الحديث أن يماثل آية (السجدة) التي يقول فيها الله تعالى: "فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ".

فهل يصح أن أفهم من هذا أن الجنة تبدأ من نقطة تعقب منتهى ما يصل إليه خيال أي من الجديرين بها؟ وهل تكون الجنة بهذا المعنى مسابقة في الخيال، بقدر ما هي مسابقة في العمل؟

***

من كل هذه النصوص الكثيرة في وصف نعيم الجنة، ومن كل ما يقال عن أطعمتها وأشربتها، لا أجد في نفسي شوقا إلى شيء فيها يعدل شوقي إلى شراب بعينه يوصف في سورة (الإنسان) ـ الإنسان بالذات. يأتي هذا الشراب في كأس من فضة، ممزوجا بالزنجبيل، ويؤتى به من عين اسمها سلسبيل.

بعد حياة على الأرض، كلكم يعرف كم هي شقية، وحياة تحت الأرض لم يدخر الوعاظ جهدا في تخويفنا منها وكأنهم ماتوا وعرفوا من أمر ما بعد الموت ما لم نعرفه، وبعد البعث وما يصحبه من فزع، ثم الانتظار الطويل ونحن نخوض في ذنوبنا التي تسيل منا حولنا، منكفئين على أنفسنا وعلى خوفنا وعلى ترقُّبنا، وبعد هول الحساب بين يدي الله، تأتي هذه الكأس، وعدا بما يليها، وطمأنة بأن الأسوأ قد انتهى.

لكن أشهى ما في هذا الشراب أنه يكون، حسبما أفهم، تحية من الله. يتوق المسلمون إلى شربة من يد سيدنا محمد الشريفة لا يظمأون بعدها أبدا، وأتوق توقهم إليها، لكن توقي أكبر إلى الشراب الذي يحيِّي به الله عباده الصالحين. ألم يقل الله: "وسقاهم ربهم شرابا طهورا"؟

***

ومن كل الآيات والأحاديث التي تصف الجنة وتذكرها، آية مركزية في تكوين تصوري عنها، بل بعض آية، إذ يقول الله تعالى عن المنعّمين بالجنة: "وهم في ما اشتهت أنفسهم خالدون". أنفسهم، لاحظوا، وليس أرواحهم.

بهذه الآية، يصعب أن أتصور جنة واحدة للجميع، وإنما جنات بعدد المؤمنين. وبهذه الآية أفهم معنى الدرجات والمنازل، وأفهم أن خلود أحدنا ـ إن شاء الله طبعا ـ لن يكون في حديقة للخالدين، وإنما في ما اشتهاه هو بالذات، مع مراعاة أن تجسُّد الاشتهاءات هذا سوف يأتي مجاوزا للخيال، في هيئة لا تخطر لبشر. فلو صدق بورخيس في ما قال، فستكون جنته كما تخيلها مكتبة، أعني أنها ستكون شيئا مجاوزا للخيال يُحدث أثر المكتبة.

ولو أن هذه الآية تنبئ المؤمن كيف يمكن أن تكون جنته، فالأخطر أنها تعرِّفه بحقيقة نفسه، إذ يعرف أشد ما يشتهيه، ومن ثم ما سيعيشه إلى الأبد. وبذلك تكون الجنة بمعنى ما صناعة أرضية، تجسيدا أخرويا لأحلام يقظة أرضية. وبذلك أيضا تكون تنبيها: صحيح أن أحدنا قد يحب شيئا ما، لكن، هل إلى درجة أن يخلد فيه؟

عن نفسي، أحب الطعام الطيب طبعا، والنساء الحسناوات، والموسيقى، والشعر، وأحب أيضا أن أجيد كل اللغات فأقرأ كل الكتب وأعرف كل ما جرى على الأرض وأنفذ إلى حقيقة كل ما خفي وكل ما ظهر على غير حقيقته، أحب أن أقابل كل الأنبياء، والشعراء، والطغاة، أحب أن أكون البطل في روايات وأفلام، أحب أن أعيش في واحة راعي غنم، وفي قرية نجارا، وفي مدينة صغيرة أمين مكتبة. وفي الخلود متسع لذلك كله. ثم إني أريد من قبل ومن بعد جلسة ثنائية مع الله أعرف فيها جواب هذا السؤال الذي لا يعرفه غيره: لماذا؟ لماذا كل هذا؟

لكن، هل أصلح بكل هذه الرغبات لدخول الجنة أصلا؟ أعني: هل يرتقي إلى الجنة، من يظل حتى آخر لحظة في حياته غافلا عن جوهر الحياة، وعن كونها مصممة أصلا لاختبار قدرته على التركيز برغم كل هذه الملهيات، وعلى الإعراض عن التفريعات الجانبية المغرية فلا تحيد عيناه وقلبه وجوارحه عن الغرض الوحيد من الرحلة كلها؟ وهل يعد ناجيا وناجحا في الاختبار من يصل إلى لقاء الله ليسأله لماذا خلق الخلق؟ كيف ولم يكفه سببا أن الله فعال لما يريد؟

وما الذي نتعلمه من الصيام لو لم نتعلم أن نفقد عبوديتنا للطعام فلا تصحبنا إلى الآخرة؟ وهل تزكّينا الزكاة إذا لم نوقن من ممارستها أننا لم نملك المال لنمنحه ولكنه مرَّ بأيدينا مرورا، بلا فضل منا في كسبه أو إنفاقه أو منحه؟ وما الذي نتعلمه من الحج لو لم تصبح بقعة في الأرض لا بيت لنا فيها ولا أهل ولا ذكريات ولا مستقبل أحبَّ إلينا وأغلى مما نعده الوطن والبيت؟ ماذا تعلمني الصلاة لو لم أنتبه إلى أن اللحظات التي أدير فيها ظهري لكل الدنيا، ولكل الحياة، مكتفيا بأن أكون بين يدي الله، هي اللحظات التي أغنمها حقا من الحياة؟

وماذا نتعلم من التوحيد إلا أن نؤمن في قرارة وعينا بأن كل ما عدا الله باطل وهالك وقبض ريح، وأن كل وجود عدا وجود الله مجاز؟

سنخلد في ما تشتهيه "أنفسنا"، أنفسنا بالذات، كيف لا أفهم من هذا أن كل هذه الرحلة على الأرض إنما غايتها هي صقل النفس، والارتقاء بها إلى مقام الأرواح؟

***

كثيرا ما يوصف تصور المسلمين للجنة بالشهوانية، فهي جنة خمور ونساء وطعام وشراب وغلمان كاللؤلؤ المكنون، وأقداح تطوف على المؤمنين المتكئين على الأرائك يضحكون. ولعلها تكون هكذا حقا لمن يدخلها ولم يعلَّمه الإيمان حقيقة متع الدنيا. فمن يصوم ليأكل في الجنة، أو يمتنع عن الخمر ليعب منها عبا في حياته الأبدية، أو يشتد على نفسه هنا ليطلق لها العنان هناك، فقد لا يحرمه الله مما يشتهيه.

وأنا نفسي قلت مرة لصديق لي إن بعض أتقى المؤمنين يا أخي سوف يفضحوننا في الجنة، فضحك قائلا وأي فضيحة!

حكى لي هذا الصديق يومها عن تصوره للجنة فقال إنه يتصور أن كل ذي مهنة هنا سوف يمتهنها هناك، فصديقي هذا مثلا سيكون في الجنة صحفيا ينقل الأخبار، وأنا في رأيه سأقضي خلودي في كتابة الشعر والروايات، وكلنا كذلك، شأن الفلاح المصري القديم الذي دعا ربه ـ في قصيدة من كتاب جمع نصوصه حلمي سالم وصدر عن شرقيات في ما أظن ـ أن يمنحه في الجنة غيطا يزرعه.

قلت لصديقي، بنبرة زاهد لم أكنه قط، ولا أحسبني بالغ مقامه أبدا: تصورك هذا يعني أن قلبك لا يزال معلقا بالدنيا يا صاحبي.

***

مثلما أومن أننا نصنع في الدنيا جنتنا في الآخرة، أومن أن تصورنا لجنة الآخرة يصنعنا في الدنيا.

كنت قبل أسابيع مع اثنين من أصدقاء العمر لم نجتمع منذ أمد بعيد، فقلت لهما إننا قد لا نلتقي ثانية، لا أعني في الحياة، وإنما في الجنة. قلت لهما إننا إن كنا من أهل الجنة، فمن يضمن ألا يكون أقرب الجيران لأحدنا مؤمنا من قوم سيدنا نوح بلَّغه عمله مثل ما بلَّغ أحدنا عمله، أو يكون أعز صديق لأحدنا يهوديا عاصر سيدنا العزير أو هنديا أحمر عاش على الإسلام، أو أفريقيا أو آسيويا أو رجلا من الإسكيمو ممن آمنوا بأنبياء ورسل لم تخل منهم أمة من الأمم؟

وهذا في الحقيقة ما أفهمه من آية في سورة (الأنبياء)، تأتي بعد سرد الله لقصص عدد كبير من الأنبياء فتقول "إن هذه أمتكم أمة واحدة".

ذلك التصور لا ينفي الفرقة الزمنية بين أجيال الأمة الواحدة في الجنة فقط، وإنما تتحقق هذه الأممية هنا على الأرض أيضا، اعتقادا، وحياة. وليس ما يجمع المرء بإخوانه في هذه الأمة مواطنة أو معاصرة أو ما هو أدنى من ذلك من أشكال التعصب للعرق أو اللون أو القوم، ولكن الجامع روح وإيمان وعلاقة بالله وفهم واحد لحقيقة الدنيا بل حقيقة الوجود كله، قبل الدنيا وفيها وبعدها.

ومرةً سألت أمي إن كانت لا تزال تصوم يوما وتفطر يوما، فقالت إنها عدلت عن ذلك مؤثرة المتواتر عن سيدنا محمد من قبيل صيام الاثنين والخميس وأيام الليالي القمرية من كل شهر عربي. قلت لها في أسى: لماذا؟ كنت أتخيلك يوم القيامة وقد جاء نبي الله داود عليه السلام يسأل عن امرأة من أتباع أخيه محمد كانت تصوم على سنته أي سنة سيدنا داود، فتهلَّل وجهها لـ"البشرى"، وما هي ببشرى، وقالت لي إنها ستحرص على أن تجمع أحيانا بين تلك السنة الداودية وسنن سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام.

هذا، وأنا شخصيا لا أكاد أحتمل صيام ساعة في غير رمضان، لكن هذا لا يمنعني من الوعظ.

تصوري هذا عن الأمة الواحدة لا يعلمني فقط أن أحترم "الديانات المختلفة"، مؤمنا أنها في حقيقتها دين واحد، وجوهر واحد، لكنه يكشف لي حقيقة عظيمة من حقائق الحياة: ليس كل هؤلاء المحيطين بك، المهمين لك، المؤثِّرين في أهم قراراتك، المشاركين في تشكيل تصورك عن نفسك، ليس كل هؤلاء مهمين حقا، وليسوا بالضرورة الأقرب لك في القسم الأهم والأبقى من وجودك. هؤلاء عابرون في وجودك، حتى لو أن منهم أبويك، وأبناءك، وزوجتك، وأصدقاء عمرك، والقراء والنقاد، وما أنت إلا عابر في وجودهم أيضا.

ولكنك تحب أبويك وأبناءك وأصدقاءك، وربما زوجتك، وتسعدك كثرة القراء وكتابة النقاد... ولا بأس في هذا، إن فهمت حقيقة أخرى من حقائق الحياة العظيمة، حقيقة الحب.

مؤكد أن إبراهيم عليه السلام، وهو أب مثلنا، كان يحب ابنه، إسماعيل طبعا، ولكنه امتثل للأمر بذبحه. ومؤكد أن نوحا عليه السلام كان يحب ابنه (لدرجة محاولة التوسط له عند الله عسى أن ينجيه من الغرق)، لكنه آمن بقول الله "إنه ليس من أهلك". وكيف لا يكون من أهله وهو ابنه؟ "إنه عمل غير صالح".

كلنا عابرون في وجود بعضنا بعضا، والروابط الحقة لن تنشأ بين أحدنا والآخرين في الجنة، لكنها تنشأ هنا، في قلوبنا ووعينا، على أن يتم تفعيلها لاحقا.

***

من النصوص الحبيبة إلى نفسي في ما يتعلق بالجنة أيضا حديث لرسول الله قال فيه ما يعني أن من قال (سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم) كانت له بها في الجنة نخلة من ذهب. وليس حبي لذلك الحديث حبا في الذهب، بل وليس لحبي العظيم لعمتنا النخلة، وإنما لأن هذا الحديث يعلمنا عن الكلام الذي يجري على ألسننا وعبر أصابعنا: أن له هو الآخر وجودا مختلفا في حياتنا القادمة، وأن كلمات نقولها هنا، خفيفة على اللسان، ستنكشف حقيقتها في الأبد فإذا بها نخلة من ذهب.

لا يعينني هذا الحديث فقط على تخيل أملاكي ـ المرجوة من الله فضلا وكرما ـ في الجنة، لكنه يجعلني أتأمل كل كلمة أصادفها هنا على لساني، أو على الورق: تُرى ما حقيقتك يا صديقتي؟ وكيف هو شكلك الحقيقي بعد أن يحتد البصر فينفذ إلى حقائق الأشياء؟ وأتساءل: هل سأقابل "لماذا لا تزرع شجرة" ـ روايتي ـ بيتا من خشب، أم بحيرة، أم كوخا، أم أرجوحة؟ أم تراها تنتظرني في الجحيم، إن لم أنجح في أن آتي الله بقلب سليم؟ وماذا عن كلمات هذه المقالة؟ وماذا عن القصائد؟ والمقالات المترجمة؟ وأطنان الكلام المهدر كل يوم في بوستات وتعليقات وهزل وجد؟

ما الذي من كل هذا سوف يتبين أنه نفاية؟ وما الذي ستنكشف حقيقته فإذا هو شجرة، باسقة، أصلها هنا على الأرض، وفرعها هناك في السماء؟

نشر المقال في أخبار الأدب بتاريخ 23 مارس 2025 الموافق 23 رمضان1446