موت مترجم..
ترتيبات الأيام
الأخيرة
يعرف أصدقائي، ممن تؤمَن
مكاشفتهم بالهواجس والمخاوف فلا يُخشى أن تحل عليهم روح من فرويد، أو يتلبَّسهم شيطان
من شياطين التنمية الذاتية فتجري على ألسنتهم آيات الطاقة الإيجابية والسلبية
ويسمعونني من محفوظاتهم من كتاب السرِّ ما لا أحتمل .. يعرف هؤلاء أنني أتهيأ
لاحتضاري.
أتصور أن يكون في مستشفى، وأن يستمر
لأسابيع، أقضيها وسط الميؤوس من قرب شفائهم أو قرب موتهم. لا أتوقع أن تكون لي
غرفة مستقلة، لكنني أطمع في سرير منفرد، ولا أتوقع شبَّاكا قريبا، لكنني راض بواحد
بعيد في طرف العنبر، وأرجوه أن يكون مطلا على نهر جار أو صحراء ممتدة. لم أفكر من
قبل لماذا أريد هذه الإطلالة في آخر المطاف، لكنني الآن أجد السبب واضحا: كلا
النهر والصحراء باق، وكلا النهر والصحراء نقي. وما الذي يلزم محتضرا أكثر من
طمأنينة البقاء، وطمأنينة النقاء؟ بوسع محتضر أن يأتمن النهر ـ إن شاء ـ أو
الصحراء على آخر أنفاسه، وآخر أفكاره، وآخر حسراته، متوهما أن تبقى فيهما ما بقيا.
وبوسعه أن يكتفي برفقة ما في أيِّهما من نقاء، بعد طول معاشرته للدنس.
أرجوه أن يكون هادئا، احتضاري.
ألا يستبد عليَّ الألم، ألمي وآلام من يجاورونني، فيصرفني إلا عن تأمله، ومحاولة
احتماله، والاستسلام له. أرجوه أن يكون لطيف الحضور، إن استحال أن يكون كريم
الغياب. فلا نفع في أسابيع من مرافقة الألم لمن يرتب في أيامه الأخيرة رفقة أخرى.
نعم، لتلك ـ أم ترى هذه؟ ـ الأسابيع
الأخيرة من حياتي، في ذلك المستشفى المتاخم للصحراء أو المطل على النيل، في
المستقبل القريب وإن بعد، أجهِّز الآن رفيق احتضاري.
*
سعيد ذلك الذي ترافقه في لحظاته
الأخيرة من رافقته في لحظاته الأولى: أمُّه. سعيد بقدر ما في نفسه من بلادة تعميه
عن شقائها هي. سعيد بقدر تعاستها، بقدر حسرتها إذ تراه يأفل ويذبل وينطفئ فيه
النور الذي حضرته إذ يوقد.
وما من إنسان آخر أتخيله أرحم
بقلب محتضر من أمِّه. لا الزوجة ولا الأخ ولا الولد نفسه. لا أتخيل أحدا من أولئك
إلا متململا، يداري من وراء عطف وجهه آلة حاسبة يظهر على شاشتها ـ وإن أعاد إجراء
الحسبة مرات ومرات ـ رقمٌ ثابت، هو نصيبه من الإرث أو الدَيْن أو فواتير العلاج أو
نفقات ما بعد الوفاة.
لذلك، ليس الرفيق الذي أجهزه
لاحتضاري إنسانا.
*
لا أعرف هل لا بد لبقية الناس
أن يقطعوا أغلب الرحلة ويصلوا إلى المحطة الأخيرة، أم أن الغشاوة قد تنزاح مبكرا، حتى
يروا مثلما رأيت أنا في شرخ شبابي وفي ذروة قدرتي على الائتناس بالناس أن لا رفيق
لي بحق غير نفسي، فليس غيرها يصحبني ممتثلا، راضيا، مغامرا مثلي إذ تنزلق قدماي كلَّ
ليلة إلى المجهول. ليس غيرها يكون معي بالداخل لحظة أن توصد عيني دون القرباء
والبعداء، دون الأحياء والجمادات، دون كل شيء إلا الذي سبق واقتنيته بملء إرادتي،
أو الذي سبق ونفذ إليّ مكرها. ليس غير نفسي، ومع ذلك ما هي بالرفيق الأخير الذي
أعده لاحتضاري.
إنما رفيق احتضاري كتاب.
*
في القطارات والطائرات، في
المطارات ومحطات السكك الحديدية. في الرحلات الطويلة إذ تشق الحافلات صحاري مصر
المترامية قاصدة سواحلها النائية. وفي أحب المقاهي إلى نفسي: تلك التي تقدم أردأ
المشاريب إعدادا وتقديما وأسقم الطعام مذاقا، وتحفل بأشد الذباب صبرا وأكثره إلحاحا،
تلك المقاهي الملقاة على قارعات الطرق بين المدينة والمدينة، لا هي هنا ولا هي هناك،
يحيط بها الفراغ والصمت ويملأ جنباتها الانتظار. في تلك الأماكن وعلى متون تلك
المركبات، لم أحرص قط على رفقة حرصي على رفقة الروايات، والسير، وكتب التاريخ
الخفيفة التي لا تتصارع فيها الحجج والأدلة، أو تفند الوثائق بعضها بعضا، فتطعن
إحداها في صدق أختها. في رحلاتي الطويلة ـ والقليلة ـ لم أرافق أطيب رفقة من
الحكايات البسيطة، المسلية، المتهادية بسلاسة حتى نهاياتها شأن الحياة كما كان
ينبغي ـ لولا سوء حظي ـ أن تكون.
كم أعانتني قصص أليس مونرو
الطويلة، وروايات دان براون اللاهثة، وأساطير الإغريق الكرتونية، والحواديت
الشعبية البريئة النافذة إلى العمق من كل شيء في كل مكان من العالم، وآداب اليابانيين
القديمة والحديثة، وكتب قراء التاريخ لا المؤرخين، كم أعانتني كل تلك الكتب
وأمثالها وغيرها على عزل نفسي عن مشاق السفر ووضاعات رفاق السفر: التذمر من
المضيفات وتذمر المضيفات، ضيق المراحيض وقذارتها، انخفاض الصوت أو ارتفاعه وشدة
سطوع الصورة أو غشاوتها في الفيلم المعروض على الشاشة المعلقة، صياح الأطفال وضحك
الأطفال ولعب الأطفال وغناء الأطفال ومجرد وجود الأطفال، وهناك كذلك الابتزاز (وكيف
كدت أنسى هذا؟): الابتزاز بالنوع، وبالمرض، وبالإعاقة، وبالسن. ومن أجل ماذا؟ من
أجل تبديل مقعد بمقعد! كم واجهتني العيون ـ إذ أسافر وحدي ـ باللوم والاحتقار: كيف
ترضى أن تكون سببا في انقطاع الميثاق الغليظ بين زوجين طوال ساعات الرحلة؟ كيف
تطمئن نفسك وقد سمحت بالفرقة بين امرأة وأمها؟ بين صديقي عمر؟ كيف قبلت أن أفرد
ساقيَّ وفي الطائرة من أولئك من يثنيهما مرغما؟ كيف أنفرد بشباك يريده طفل؟ ...
كل ذلك يكون محيطا بي، منتهكا
حدود جسمي، مستهدفا المقعد الذي أشغله فيزيقيا، وأكون أنا في الوقت نفسه مخلوع
القلب في غابة معتمة في كندا، فزِع العينين في ليل طريق سريع يدور حول نيويورك، أو
صافي النفس على سفح جبل في اليابان تنهمر عليَّ زهور الفاونيا ـ فلا وصول إليّ.
لكن ليس في الأسابيع الأخيرة من
حياتي. ففيها، لا نفع لي في عالم بديل. لا نفع لي في عالم أصلا. فيها يتضح كل شيء،
تتضح حقيقة اللعبة التي غيبتها كثرةُ التفاصيل، ودِقَّتُها كأن كل واحدة منها مقصودة
لذاتها، وتزاحمُها فمعذور كل من لا يرى ما وراءها. في هذه الأسابيع أستعد للخروج. للذهاب
بلا رجعة. والحقيبة الوحيدة التي يمكن أن أتزوَّد فيها بشيء لا تعدو عقلي. جسمي نفسه
لن يرافقني. للمرة الأولى لن يكون معي. للمرة الأولى لن يكون أنا. ’أنا’ نفسها سوف
تعني شيئا آخر لا أحسب أن أحدا يعرفه. ما لي في هذه الأسابيع والعالم، ومن فيه،
وما ليس فيه؟ ما لي بحكاياته وآخرُ ما أريده هو إهدار الوقت، وتجاوزه؟ في هذه
الأسابيع لن أكون بحاجة إلى شيء احتياجي إلى ما يدلني على النتف النقية في نفسي، يأخذ
بيدي إلى نصيبي الذي اقتنصته عبر الرحلة الشاقة من النقاء، يضع إصبعي على ما في
نفسي من النهر، وما فيها من الصحراء، إن كان فيها منهما أيُّ شيء.
تلك الأسابيع للجواهر،
للخلاصات، للقطرة التي توجز المحيط، لحبة الرمل التي تخفي المجرة.
*
أتصور أن أسمع أزيز تكييف، أو
بالأحرى طنين مروحة، همسة ممرضة متمرسة لطبيب في نوبته الليلية الأولى في طرقة المستشفى
المعتمة، هذيان محموم، أو شذرات على لسان حالم لا تعني لي شيئا وتعني له ربما كل
شيء، أسمع نفير سيارة نقل على طريق بعيد، وربما نعيق غراب يستوي في أذني بتسبيح
كروان...
أتصور أن لا أغفل في جنح الليل
عن بلاغة، نعم، بلاغة تلك الأصوات التي كم اعتبرتها ناقصة، لأتبين قرب النهاية
كمالها، واكتنازها لكل ما كافح من أجل قنصه الفاعلُ والمفعول والفعل وحرف العلة.
أتصور أن أسمع تلك الأصوات
المنفردة السابحة في ليل الكون فأعرف ما كان ينبغي أن أعرفه من قبل: أن المعاني
الأدق والأعمق والأبقى هي دائما بنت الكثافة والإيجاز، بنت الإيماء والإشارة، بنت
لمعة العين لا الخطبة العصماء، بنت الصمت لا اللغو. بنت الوحشة لا السياق.
ربما تنساب ساعتئذ دمعة يقين،
دمعة كالتي أقاومها الآن، لولا أنها بلا لوعة. وقد لا تنساب. لكنني أحتال على
أرقي، أو ألمي، أو وحشتي، بأن أضغط زرّا قريبا، وفي نور شحيح من مصباح مجهد، أفتح
الكتاب الذي لم أنهِ إلى الآن صفحة منه.
*
مغرم أنا بأهوال نهاية العالم.
كنت في مرة أتكلم عن الترجمة،
أو الشعر، أو ترجمة الشعر، ووجدتني منساقا إلى الحديث عن نهاية العالم. وعندكم حق؛
ما الذي أعرفه عن نهاية العالم؟
ولكن ما الذي أعرفه أيضا عن
الموت والاحتضار؟ وما الذي أعرفه عن الشعر وإن كتبته وقرأته، وعن ترجمة الشعر وإن
مارستها على مدار نصف حياتي؟ ليس الكثير.
ما أعرفه عن نهاية العالم إنما
أعرفه مما أقرأ في سورة التكوير مثلا، أو سورة الانفطار: إذا السماء انفطرت، وإذا
الكواكب انتثرت. وفي سورة الزلزلة: وأخرجت الأرض أثقالها وقال الإنسان "مالها؟"
وسورة الحج: يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس
سكارى وما هم بسكارى. ولكن ليس هذا ما أعنيه بنهاية العالم، نهاية العالم التي
أعنيها ليست بهذا الحسم، هي مقصورة على الأرض، فلا السماء تنفطر ولا الكواكب
تنتثر، ولا الموءودة تسأل بأي ذنب قتلت. ولا هي حتى نهاية كوكب الأرض. نهاية
العالم التي أعنيها هي التي تصورها أفلام هوليود، إذ تنتهي الحياة كما عرفناها
ونعرفها، وتكشر الطبيعة عن أنيابها لتثأر مما اقترفناه في حقها جيلا بعد جيل،
فترتفع البحار وتصطلي الشمس، ويهلك الناس ملايين بعد ملايين، فلا يكاد يبقى منهم
أحد، اللهم إلا عشرات في سفينة حصينة، أو آحاد متناثرون في ما أبقت الأرض من
يابسة.
أشاهد تلك الأفلام كلما أتيح
أحدها، بمثل لوعة المشاهدة الأولى وفزع المرة الأولى وسؤال المرة الأولى: ماذا لو
وجدت نفسي في ذلك المأزق، مأزق الناجين بالطبع لا الهالكين؟
قلت يومها في معرض الحديث عن
الشعر على الأرجح لا ترجمة الشعر: بعد نهار من الكدح في التقاط الثمر أو صيد
الحيوانات، بعد تأمين الكهف، وتدبير الطريق إلى النهر أو النبع، يحدث أن يجلس
الرجل فيسند ظهره إلى صخرة، ويجد أن بطنه امتلأ، وأمنه استتب، وأمره استقام، ولكن
شيئا لم يزل ينقصه، شيئا كان يجده بسهولة إذ يضغط أزرار الريموت فيتنقل بين القنوات
تصادفه أغنية فيتمهل، أو فيلم فينظر في أمره. ينقصه شيء يذكِّره بإنسانيته، بأن
حاجاته تزيد قليلا عن حاجات الأرنب المهضوم في بطنه. ينقصه فن.
وحيدا كما هو، مفتقرا إلى آخر
يكوِّن معه فريقا، أو يتخذ منه جمهورا، بلا آلة إلا جسمه، يتمتم الرجل لنفسه،
محيلا لغته المبتذلة إلى قصيدة. ما من فن آخر يمكن أن ينتجه الإنسان بلا عون من
شيء أو من أحد. وتأملوا اسمها: قصيدة. تأملوا ما حاولت اللغة العربية أن تنبهنا
إليه حين اشتقت اسم القصيدة من القصد: أنها القصد من نفسها.
مؤكد أن الاصطلاح أقوى من
الاشتقاق، وأنه الألصق بكل كلمة، ولكن ما حيلتي حينما أنظر في كلمتين كـ"القصة"
و"الرواية" فأرى أن اشتقاق كل منهما يشير إلى غاية لها خارجها، فالقصة
لا تكون قصة بدون من تُقَصُّ عليه والرواية ليست رواية ما لم تُرْوَ على أحد. أين
هذا من القصيدة التي تنطق حروف لفظها بغناها إلا عن نفسها، وتقطع بأنها القصد من
نفسها، فلا غاية لها إلاها.
بلا آلة إذن إلا لسانه، وبلا
جمهور إلا نفسه، وبلا خامة إلا وعيه وشعوره ولغته، ينتج الإنسان لنفسه الفن بعد
نهاية العالم، أو على مقربة من نهاية الحياة.
*
ليس في الكتاب المرجوة رفقته في
أسابيع آخر العمر شعر لي. لست على هذه الدرجة من النرجسية، أو بالأحرى، هذه الدرجة
من النرجسية مضى عهدها، وبحلول أيام الاحتضار سيكون قد مضى على مضيها نفسه عهد
آخر.
حدث قبل عقدين تقريبا أن أنهيت فجأة
سهرة مع أصدقاء. كانوا في بيتي، أو هي غرفتي في طابق علوي من بيت أبي، وصرفتهم
جميعا لأنفرد بنفسي. كان أحدهم، قبل ذلك، قد أخرج سيجارة حشيش من مخبئها في ثيابه،
وجربته للمرة الأولى في حياتي. وبدأ خفقان قلبي يتسارع، ووجهي يمتقع، وزادني قلق
أصدقائي عليَّ قلقا على نفسي. كيف أنزل إلى أبي وأمي فأقول إني أوشك على الموت،
كيف أفسر سبب موتي الوشيك؟ صرفت أصدقائي مرغمين، وتناولت مرآة صغيرة كنت أعلقها
على جدار غرفتي، واستلقيت في سريري منتظرا الموت، مقررا أن أقضي آخر لحظات حياتي
ناظرا إلى الوجه الوحيد الذي يستحق أن يكون آخر ما أراه من العالم: وجهي.
لكن ليس الآن، وليس في آخر
العمر. لم يبق من سبب وجيه لهذا الاعتزاز بالنفس. الآن قرأت من الشعر ما يكفي
لأعرف قدر ما كتبت، وغاية ما قد أكتب. وأهم من ذلك، أنني لن أحب وأنا أتهيأ للخروج
أن أعيد قراءة ما سبق وكتبته. تكفيني حسرات أخرى، وأسباب أدعى للندم على ما فات.
*
قررت مبكرا، وقد علمت أن وجودي
مرتبط بالشعر، وأن اتزاني على هذه الأرض مرهون به، ورضاي عن نفسي في يده لا في
يدي، ومعرفتي الحقيقية بأي شيء لا تتم إلا من طريقه وتوسلا به، أن أقصر عملي في
الترجمة على ترجمة الشعر دون غيره.
علمت بعد ذلك أن إزرا باوند نصح
شاعرا أمريكيا ـ سيصبح شاعرا أساسيا في ما يلي ذلك من عقود ـ بمثل ما نصحت به
نفسي. قال له وقد رأى غضاضة سنواته الثماني عشرة: عليك إن شئت أن تكون شاعرا حقا
أن تكتب كل يوم، وحدَّد له ـ على طريقة باوند في وضع القواعد لكل شيء ـ عدد الأبيات
التي لا بد أن يكتبها كل يوم، ولأنك بتجربتك المحدودة لن تجد ما تكتب عنه كل يوم،
فعليك أن تتعلم لغة وتترجم شعرا كل يوم. كانت نصيحة ظاهرها الحفاظ على لياقة مفاصل
الأصابع (بتعبير راسل إدسن)، وباطنها الحياة في الشعر (بتعبير صلاح عبدالصبور).
هكذا بدأت اهتمامي بالترجمة
بثلاثة كتب شعرية، أولها، بجرأة المبتدئين الوقحة والضرورية، أنطولوجيا من شعر
الأمريكيين الأفارقة، ومن رحم ذلك الكتاب ولد كتابي الثاني فكان مختارات من قصائد
الشاعرة الأمريكية الأفريقية ليوسيل كليفتن، ثم إنه بدا لي أني أوشك أن أحبس نفسي
في عالم الشعراء الأمريكيين الأفارقة، بينما الشعر الأمريكي بحره واسع، فترجمت
ديوان "فندق الأرق" لتشارلز سيميك مع مختارات من دواوينه الأولى، وقادني
سيميك إلى جيله كله، وإلى شعراء ترجم هو بعض أعمالهم، أو كتب عنهم بعضا من نثره
الرائع، وأتيح لي في ذلك الوقت تقريبا اتصال يسير ومجاني بالإنترنت في عهد كان
الاتصال به يشترى بالدقيقة، ومن خلال الإنترنت انفتح لي عالم قصيدة النثر
الأمريكية، فمضيت تسلمني المواقع أحدها إلى الآخر، والشعراء إلى الشعراء، والمجلات
إلى مزيد من الاكتشافات كل يوم، ثم حدث للأسف أن نجوت من الغرق.
وسط دوامة الترجمة الصحفية لكسب
العيش، وترجمة الروايات لأن القراء والناشرين وكل ذي علاقة بإنتاج الكتاب أجمعوا
فجأة على أن الأدب هو الروايات، لم يبق من منفذ لنشر الشعر ـ ناهيكم عن الشعر
المترجم ـ إلا مواقع الإنترنت وما فضل من مجلات العصر الغابر وما يظهر بين الحين
والحين من ناشرين يستغلون عطش الشعراء وقراء الشعر إلى الجديد فيستنزفون لوهلة أموالهم
قبل أن ينتقلوا إلى نشر الروايات أو ما هو أسوأ. وبرغم ذلك، أمكنني أن أترجم
مختارات من الأمريكي بيلي كولينز، صدرت بعنوان "رجل القمر" عن هيئة قصور
الثقافة في مصر، ثم ديوان "العالم لا ينتهي" لسيميك، وصدر عن الهيئة
نفسها، ثم مختارات من عبقري قصيدة النثر الأمريكي الراحل راسل إدسن صدرت عن الكتب
خان بعنوان "كلنا نولد مصابين بالغثيان"، وفي مثل أهمية تلك الكتب،
وربما أكثر، أني قضيت سنين متفرقة منغمسا في كتابة برنامج يومي لإذاعة سلطنة عمان حمل
اسم "أصوات من هناك"، ومن خلاله كنت أترجم كل يوم قصيدة وأكتب عنها. كان
شريكي بصوته في ذلك البرنامج ـ أعني صديقي سليمان المعمري ـ يقاوم غرامي بالشعر
الأمريكي، فلا يمر يوم إلا ويذكرني بضرورة أن أوسع نطاق اهتمامي ليشمل شعراء لغات
أخرى غير الإنجليزية، وبلاد أخرى غير الولايات المتحدة. هكذا طفت العالم جغرافيا
وتاريخيا باحثا عن قصيدة أكلم من خلالها مستمعا مجهولا، فلا أكلمه عن الشعر، أو
الشاعر، أو القصيدة، ناهيكم عن البيوطيقا، بقدر ما أكلمه عن نفسه، عن حياته، عن
الأبواب التي يغلقها، لم لا يجرب أن يفتحها؟، والشبابيك التي يمنع بها الريح، لم
لا يطل منها؟، والمرايا، لم لا يجرب أن يرى فيها غير نفسه؟، وعن كل الأشياء في
حياته، كيف لا يفطن إلى أنها مرايا تعمل بطرق أخرى؟ وكيف لا يرى فيها أنفسا له كان
يمكن أن تكون؟
كنت أتصور أني أكلم أمَّهات
يخرطن البصل في المطابخ، وسائقي سيارات أجرة يجادلون الركاب، وركابا يسابقون الزمن
يريدون اللحاق بما لا قيمة له، كنت أتصور شيوخا في شرفات بيوت قديمة في قرى بعيدة،
أو أطفالا يخربون أرواحهم بالأناشيد والمحفوظات. كنت أتخيل مستمعا يشيع بين الأدباء
وصفه بـ"العادي"، فيقولون "القارئ العادي"، وكم فرحت حينما
صادفت وصفا له في مقالة ترجمتها ذات يوم فتشبثت به: "القارئ العام". صرت
أبحث عن قصيدة يمكن أن أفتح بها الكلام مع ذلك القارئ العام، ذلك الإنسان غير
المدرب على ألاعيب الشعراء، غير المجهز وهو يسمع القصيدة بما يعينه على الرجوع إلى
قاموس للميثولوجيا، أو معجم للمهجور من الكلام، أو موسوعة للأعلام. واكتشفت بمرور
الوقت أنني أنا القارئ العام، أنا القارئ الفقير إلى هذا الحنان، القارئ الذي لا
يستقيم له يومه إلا بقصيدة خافتة، دافئة، دُفع كاتبها إلى كتابتها دفعا، فلم تكن
له غاية إلا أن يقولها، يقولها ويستريح.
في جهاز الكمبيوتر الذي أكتب
عليه الآن هذه الكلمات ملف يحمل اسم "أصوات من هناك"، في هذا الملف
قرابة نصف مليون كلمة من الشعر والكلام عن الشعر. وإذن فيه لغو كثير، وفيه ولا شك درر.
لا أعرف، بدقة، كم ترجمت من
الشعر. ما نشر في الكتب يسهل إحصاؤه، وما ترجم لأصوات من هناك قابل بشيء من الجهد
للحصر، ولكن هناك ما ترجم لصحف في مصر وفي عمان وفي غيرهما، وما ترجم لمواقع
إنترنت بادت، وما ترجمته لمدونتي، ومدونات أخرى لي فقدت أثرها تقريبا، وما ترجمته
للاستعمال الشخصي المؤقت، ذلك أن ليالي تمر عليّ بين الحين والآخر، يضيق فيها
العالم أمام عيني ويوصد أبوابه في وجهي، بلا ذنب معروف أو سبب واضح. يصبح الحديث
إلى الناس عسيرا، والحديث إلى الذات رعبا، والصمت جنوحا إلى المجهول، والصحو عبئا،
والنوم مغامرة مريعة بمقابلة آخر من أقوى على مقابلته: أنا.
في تلك الليالي، ألوذ بموقع
مؤسسة الشعر الأمريكية.
في شيكاغو ذات يوم من خريف عام
2014 زرت مبنى تلك المؤسسة، زرته وحدي، دون أصدقاء وزملاء كنت معهم في برنامج جامعة
أيوا الدولي للكتابة الإبداعية، ثم زرته معهم. وفي المرتين، وقفت في بهو على الأرض،
أمام جدار هائل بارتفاع طابقين، فيه عشرات آلاف دواوين الشعر. لا شيء غير الشعر. وفرة
تشلك فلا تمتد يدك إلى كتاب. حسبك أن تقترب بعينيك، فترى مثلا مَن مِن العرب هنا،
وبأي لغة؟ أو ترى أي الشعراء صاروا جيرانا في هذه المقبرة البهية بقوة الترتيب
الهجائي؟ لا مجال أمام هذه الوفرة إلا للفرجة. لكنني قبل تلك الزيارة، وبعدها، زرت
آلاف المرات موقع مؤسسة الشعر الأمريكية على الإنترنت، حيث عشرات الآلاف من
القصائد أيضا.
أجرب في هذه الزيارات حظي. لا
أذهب إلى شاعر أعرفه أو قرأت له. ففي ليال كهذه التي أصفها لا يكون البحث عن شاعر،
إنما عن قصيدة، عن سطر، عن شذرة، عن قشة تظهر فجأة لتتشبث بها أصابعي. وأترجم هذه
الشذرات، ففي أحايين أنثرها على صفحتي في فيسبوك، وفي الغالب تبقى في ملفات على
الكمبيوتر، وقد أبعثها في بعض الحالات لنفسي في رسائل عبر الإيميل. وقد أترجمها
على ورق مقصوص يتناثر بعد ذلك في أدراج وصناديق وبين صفحات كتب. في تلك الليالي، أظل
أترجم حتى أمتلئ، أو أفرغ، أو ربما حتى أنسى ما الذي ألجأني أول الأمر إلى
الترجمة. وسكرانَ ينتهي ليلي.
وأحيانا لا أقصد مؤسسة الشعر بل
جوجول. أطلب منه قصائد كتبها أطفال، أو مراهقون. قصائد كتبتها الصدفة. قصائد كتبت
على فراش الموت. في السجن. قصائد مجانين. قصائد مجهولين. قصائد بحارة. قصائد
شعبية. قصائد دينية. قصائد حب. أجمل قصائد الحب. أجمل عشرة قصائد حب، في الشعر
الأمريكي، في الشعر الفرنسي. وأقرأ، في ترجمات رديئة، أو مثالية. في مواقع موثوق
فيها، وفي مدونات مجهولة الأصحاب. أقرأ بدون أن يعنيني التأصيل لما أقرأ، أقرأ
مثلما يليق بقارئ عادي، نعم عادي، أستطيع أن أصف بها نفسي دون غيري. أقرأ مثلما
يقرأ إنسان. أقرأ لا أريد مما أقرؤه أن يكون جزءا من محاضرة، أو كتاب، أو مباهاة،
أو افتعال. أقرأ كمن يبحث عن هواء يملأ به صدره. أقرأ كمن يأكل في آخر زاده. أقرأ
كمن يعيش أبدا، وكمن يموت غدا.
قلت لا أعرف كم ترجمت من الشعر.
وأقول لا سبيل لأن أعرف.
*
أفكر أن أتعلم لغة برايل. نعم.
أخشى أن شيخوختي تتآمر علي، وتجهز لي الفخ الأخير:
يأتيني صوت مذياع بعيد، أو لعله
مدفون تحت وسادة مريض في العنبر، أو لعله وراء رأسي بالضبط لا يفصلني عنه غير
جدار. يحدث ذلك في الساعة الثالثة صباحا، من يوم ما، في سنة لا أعرفها، قادمة. لا
يبدو أن هذه هي الليلة الأخيرة. والكتاب معي، الكتاب الذي أعددته في كهولتي
لاحتضاري، كتاب القصائد، كتاب الشذرات والأبيات، أمسكه بيدي ولكن لا سبيل لأن
أقرأه وقد كلَّ البصر. لا سبيل لأن أسمع أحدا يقرأه علي وقد ثقل السمع. لا سبيل
للاحتياط لهذا الفخ الذي تجهزه نفسي لنفسي إلا بأن أتعلم طريقة برايل. وتتحرك
أصابعي على الورق الأبيض، فإذا الكلمات تسري في ذراعي إلى قلبي، وإذا بعيني
المطفأتين تلمعان لمعة لا يراها أحد، وإذا بابتسامة رهيفة ترتسم على شفتي في عنبر
لا يبتسم فيه غيري، إلا ساخرا.
*
لم أستقر بعد على عنوان
للأنطولجيا.
لم أستقر بعد على القصائد التي
ستندرج في الأنطولوجيا.
لا يزال أمامي عمل كثير، لكن
ماذا عن الوقت؟
وأين أتعلم القراءة بطريقة
برايل؟
وماذا لو أن مؤامرة شيخوختي لا
تقتصر على البصر والسمع؟
لا أظن أحدا قبلي نجا من مؤامرة
شيخوخته عليه. الكل يقع في الفخ. لا تشفع لأحد شطارته، ولا تنجيه ترتيبات مسبقة.
ماذا لو أن مؤامرة شيخوختي لا تقتصر على البصر والسمع؟ ماذا لو أنها تنال من
الأصابع نفسها؟ بل ماذا لو أنها تركت لي عيني وأذني وأطرافي، واستولت على عقلي؟
أقصد: ماذا لو أن في مؤامرتي على نفسي متسعا لألزهايمر؟ ألم أشته يوما ألزهايمر
هذا؟ ألم أقل يوما إنه حل أخير بعد أن يثبت فشل بقية الحلول؟ ألم أقل إنه مقام لا
مرض؟ ما يدريني أن الأماني لا تتحقق؟
أتصور أنه ما من سبيل للاحتياط،
وما من خطة يضمن اتباعها احتضارا واعيا، هادئا، يمضي فيه المرء يهدهده موج الشعر
الرقراق إلى حيث السكون الأخير.
ربما ليس عليَّ إلا أن أواصل ما
بدأته، أبحث عن الشعر لا الشعراء، أترجم منه كلما استطعت، وكلما اضطررت، شاحنا به
نفسي، واضعا منه في روحي ما تحتمله روحي، وما تحتاج إليه روحي. وما تطمئن به روحي
وسط الفزع الساري والجنون المستعر.
ربما عليَّ أن أتشبث بالأمل في
أنه مثلما يشق الماء أخاديد في كعبي الفلاح كالتي يشقها في الأرض، يشق الشعر
أخاديد في نفسي، وتترك هذه العلاقة اليومية مع الشعر وترجمة الشعر بصمات على أجزاء
من روحي لا علم لي بها، وفي أنني ذات ليلة، قادمة، على سرير في المستشفى، سوف
أصادف بينما أجوب غابات نفسي المظلمة زهورا ساطعة في الأركان، لا أعرف من زرعها،
ولا يعنيني، لكنني في جوارها أجلس، وبرفقتها أنتظر.
كتبت لمجلة الثقافة الجديدة ونشرت فيفها في عدد يونيو 2020
الصور الشخصية المرفقة بالمقال التقطت داخل مؤسسة الشعر الأمريكية سنة 2014