Saturday, September 28, 2024

رفات المتعة

رفات المتعة



تعزو آراء كثيرة نشر رواية (موعدنا في شهر آب) لجابرييل جارثيا ماركيز بعد وفاته إلى العقوق والجشع. فالكاتب الكولومبي كان قد أوصى ولديه بعدم نشر الرواية التي أكملها أو قطع أشواطا كبيرة فيها وهو يعاني من خرف الشيخوخة الذي أنساه كل شيء حتى بات يقرأ مؤلفاته نفسها فلا يعرف أنها مؤلفاته إلا بعد أن ينتهي من قراءتها ويصادف على أغلفتها الأخيرة صورته الشخصية، أو ذلك ما يحكيه ابنه رودريجو ماركيز (في كتابه "في وداع غابو ومرسيدس: مذكرات عن غابرييل غارثيا ماركيز ومرسيدس بارتشا، يرويها ابنهما رودريغو غارثيا"، الصادر بترجمتي عن دار أثر للنشر والتوزيع).

ويمكن أن نشم في ذلك بعضا من رائحة الطبخة التي ألزم ماركيز نفسه بها في قوله الصدق عن نفسه، لكنه الصدق المكلل بهالة من المبالغة المكشوفة والمحببة أيضا.

بسبب الخرف إذن، في ما يفترض، رأى ماركيز أن مغامرته الروائية الأخيرة التي صدرت بالعربية بعنوان "موعدنا في شهر آب" وترجمة جميلة من وضاح محمود لنا فيها عزاء عن فقدنا للكبير صالح علماني، لا ترقى إلى الانضمام إلى باقة أعماله، فأوصى ولديه بحبسها، وخالف ولداه الوصية، وبرَّرا ذلك في مقدمة للرواية مثبتة في الطبعة العربية، شأن تعليق يذيلها حكى فيه المحرر كريستوبال بيرا حكاية إشرافه على نشر العمل الأخير للساحر الكولومبي الراحل.

لكن الحق أن تفسيرا دنيويا من قبيل العقوق أو الجشع لا يليق بماركيز. فضلا عن أنه لا داعي لتفسير، فما الغريب أصلا في أن يستمر ماركيز في الكتابة، والنشر، بعد وفاته، وهو الذي أرانا من قبل أن الموت لم يمنع شعر فتاة من مواصلة النمو في قبرها حتى بات طوله أقداما عديدة؟ أتصور أن إصدار كاتب ميت رواية بعد وفاته معجزة أبسط ـ على عقل قارئ ماركيز ـ من فتاة تموت ويبقى شعرها حيا.




لم أصادف في الصحافة الثقافية الأنجلوفونية صوتا ينتصر لنشر الرواية، كأنما أراد الجميع أن يوجهوا إلى ماركيز رسالة جماعية حازمة ومذعورة: من فضلك الزم قبرك، ولا تتدخل في الصورة المستقرة لدينا عنك، وعن الموت أيضا. كما أنني لم أصادف ـ فضلا عن الجانب الأخلاقي الذي تذرع به الجميع ـ من انتصر للرواية على المستوى الفني، فالجميع رأوا لغة ماركيز أدنى من رفعتها المعهودة، ومجازه مكررا، وإيروتيكيته مبتذلة بعض الشيء، أو هم ببساطة لم يجدوا ماركيز القديم الذي يعرفون.

"موعدنا في شهر آب" نوفيلا، ولماركيز باع في هذا القالب مثلما تشهد "ليس لدى الكولونيل من يكاتبه" و"ذكريات غانياتي الحزانى" و"سرد وقائع موت معلن". وفي النوفيلا الجديدة شيء من روح المعالجات السينمائية التي نصادفها في بعض كتب ماركيز غير الروائية. وليس فيها أثر من (ملحمية مئة عام من العزلة)، أو طول نفس (الحب في زمن الكوليرا)، أو شعرية (خريف البطريرك). ومن هنا غرابتها في عالم ماركيز، حتى يمكننا القول إنها رواية اجتماعية، أو نستحضر عند التفكير فيها عبارات من قبيل أزمة منتصف العمر، أو التفكك الأسري، أو مصاعب التعامل مع ابنة مراهقة، لولا لمسة ماركيز التي لا يغيِّبها الخرف ولا تنال منها الشيخوخة، ويعرف لها الموت نفسه قدرها.

بطلة الرواية امرأة تجاوزت الأربعين، هي آنا مجدلينا باخ، متزوجة منذ قرابة ثلاثة عقود، تعيش وزوجها ـ قائد الأوركسترا ـ حياة جنسية ثرية قادرة على معالجة العثرات والالتفاف على الملل. تقرر زيارة قبر أمها المدفونة في جزيرة في يوم معين من أغسطس، وهناك تجد نفسها في علاقة غرامية عابرة، بل هي ما يعرف بعلاقة الليلة الواحدة. وتتكرر المغامرة كل عام لبضع سنوات.

شأن أي فيلم أمريكي بسيط، تعاني الزوجة المارقة في الرواية توترا بين الندم والإثارة، تتغير علاقتها بزوجها صعودا وهبوطا، تفلح بعض مغامراتها السنوية، وتخفق، وتكتشف بأثر رجعي أنها أوشكت في إحداها على الهلاك، وشأن أي فيلم أمريكي تتناثر مشاهد إيروتيكية على امتداد النوفيلا.

لا واقعية سحرية إذن، فما من امرأة ترتقي إلى السماء بملاءاتها. ولا توتر يحبس الأنفاس، فما من قتل وما من سنتياجو نصار. لا شيء مما يألفه قارئ ماركيز. ولكن لمسة الساحر تصيب القصة العادية فترتقي بها قليلا. وتأتي هذه اللمسة بيسر شديد، وضربات سريعة من فرشاة طويلة المراس، فتحول كل ما ابتذلته السينما والدراما التليفزيونية إلى مادة للأدب. وتصبح العلاقة الغرامية الممجوجة رحلة حج سنوية، فيها سفينة، وجزيرة، وفرق موسيقية "تصلح ألحانها للأحلام أكثر مما تصلح للرقص"، وفيها قبر لا بد له من زنابق، وامرأة تفضي لأمها الراحلة بتقرير سنوي عن حياتها، وتجد الأم الميتة طريقة ما للرد.

وباللمسة السحرية أيضا تكون أزمة المراهقة حيرة بين عربدة الليل برفقة الموسيقيين من ناحية، والرهبنة على طريقة الراهبات الكرمليات الحافيات من ناحية!

وتحل لمسة ماركيز أيضا على العشاق العابرين، الذي لا يحتل أحدهم من الكتاب أكثر من صفحات قليلات لا نكاد نعرف فيها اسمه أو نتيقن من شخصيته، فنجد أحدهم أسقفا، والآخر نصابا متخصصا في حب النساء ومطلوبا في نصف دول القارة، وآخر يتبين أن من وراء مظهره السقيم وشخصيته المنفرة عاشقا قديما لبطلة الرواية لا تشفع له دموعه الذليلة عندها ولا تعفيه من قسوتها عليه.

تسهل قراءة "موعدنا في آب" قراءة تسلية نتنقل فيها مع آنا مجدلينا من عشيق إلى عشيق، وبين مغامرة مكتملة وأخرى مجهضة، نرصد التغير في استعدادها لكل ليلة، وتطور انتقائها لثياب الحب، وماهية الكتاب المرافق لرحلتها، ومراوحتها بين دوري الفريسة والصياد على مدى السنين، وصولا إلى المحطة الأخيرة، وقد باتت في الخمسين، إذ تجهض بنفسها ليلتها الأخيرة مع عشيق يصغرها كثيرا. ونكون بهذه القراءة إزاء حكاية عن الشيخوخة، وسلطان الزمن على الناس.

ويمكن أيضا أن نقرأ من وراء ذلك صراعا، لا يبرزه ماركيز ولا يطمسه، بين قوتين تتنافسان على آنا مجدلينا، قوة تستشعرها فور أن تذوق المتعة العابرة، السرية، خارج إطار الزواج، فتثور على "عاثر حظها في أن تكون امرأة في عالم يسوده الرجال". وقوة أخرى تجعلها تصرخ في وجه ابنتها المراهقة حين تعلم باستعمالها وسيلة دائمة لمنع الحمل، وتجعلها ترفض خيانات زوجها المماثلة لخياناتها فهو رفض منها لنفسها أيضا، وتجعلها تعيش سنين طويلة دون أن تتخلص من إحساس الإهانة من عشرين دولارا تركها عشيقها الأول ثمنا لليلتهما معا. ثمة عدا قوة اللذة قوة أخرى تجعلها فور أن تنتهي اللذة ترى بيتها خربا، فيصيبها الذعر من "الكارثة التي حلت فيه...لاحظت أن الطيور لم تعد تغرد في أقفاصها، وأن أصص الأزهار الأمازونية، والسراخس المدلاة، والعرائش المتسلقة ذات الأزهار الزرقاء اختفت عن التراس الداخلي" إلى أن أدركت أن "التبدلات التي تتراءى لها في العالم المحيط بها إنما هي فيها هي ذاتها".

ثمة هذه القوة القاهرة التي تدفع آنا مجدلينا إلى حجها المحرم عاما بعد عام، وقوة أخرى معاكسة وإن بدت على مدار الرواية أقل أثرا، وأضعف توجيها للمسار. غير أن الزمن يلعب لصالح إحدى القوتين دون الأخرى.

لا أعتقد أن أحدا قد يستشعر وعيدا في عنوان هذه الرواية قبل أن يقرأها، ولكنني أتصور أن لحظة تأتي في ثنايا القراءة فيجد القارئ في عبارة "موعدنا في شهر آب" تهديدا، موجها إلى العشيق الأول، صاحب الدولارات العشرين، الذي صارح آنا مجدلينا مبكرا بما حولت إليه نفسها، فظلت تصيبها نوبات أرق قاتل على مدار السنين، وظلت تطارد العشيق الأول ـ دون جدوى ـ لترمي في وجهه نقوده.

ثم يتبين في صفحات الرواية الأخيرة هدف آخر محتمل لذلك الوعيد. إذ يباغتنا ماركيز في الصفحات الأخيرة بأن آنا مجدلينا ليست الزائر الوحيد لقبر أمها، ففي الزيارة الأخيرة تجد أكوام زهور على القبر، وتعرف أن عشيقا لأمها ـ وسببا لترددها على الجزيرة في حياتها ووصيتها بأن تدفن فيها ـ كان يتعهد القبر بالزيارة والزهور. فعرفت آنا مجدلينا "أنها أكملت حياة أمها بعد مماتها" و"ضاق صدر آنا مجدلينا بشدة".

ثم يباغتنا ماركيز أخيرا مباغتته الأخيرة. ففي غداة ليلتها الأخيرة في الجزيرة، وبعد  أن رفضت العشيق الشاب ورفضت معه أن تتحول من عاهرة بعشرين دولار إلى عجوز تتسول فحولة الشباب، اضطرت آنا مجدلينا "لانتظار حارس المقبرة ساعتين كي يعلمها بالإجراءات اللازمة لاستخراج رفات أمها من المقبرة".

عمليا، رفضت آنا مجدلينا تنفيذ وصية أمها، كما سيرفض رودريجو وجونثالو تنفيذ وصية ماركيز لاحقا، ورجعت إلى بيتها، من جزيرة الحياة والموت تلك، ولا شيء تحمله عدا كيس عظام.

هل كان الوعيد لذلك العشيق الذي لا بد أن يتخيل القارئ فجيعته حين يزور قبر حبيبته فيجدها ماتت مرة أخرى؟ أم كان الوعيد لأم أخفت عشقها عن ابنة لم تخف عنها سرا؟ أم كان الوعيد، والموعد، لآنا مجدلينا نفسها؟ فمع من، أم مع ماذا، كان ذلك الموعد المضروب في شهر آب؟ مع المتعة، أم مع الرفات الذي تصير إليه كل متعة؟ أم هو موعدنا نحن مع مقولة أخيرة من الروائي الذي صاحبنا منذ صبانا: علينا أن نعزل بعض المتع في جزيرة يجدر بنا أن نضمن ألا نموت فيها.

نشرت المقالة في مجلة إبداع 2024

Thursday, September 19, 2024

في إيثار المقهى على الورشة

 

في إيثار المقهى على الورشة


واضح أن لسان العرب لم يكن يحتوي كلمة تعني "الورشة" فتصلح ترجمة لكلمة workshop الإنجليزية. ولذلك اضطر آباء لنا إلى هذا التعريب الجميل بأخذهم الواو والراء من work والشين من shop مع إضافة ساحرة لـ(تاء التأنيث) ويا لها من لمسة تكشف كم كان أولئك القوم مطمئنين وهم يدخلون في لغتهم كلمة غريبة، ببساطة من يضيف في بيته الخاص ستارة أو نافذة.

غريب إذن مفهوم الورشة على اللغة العربية، والثقافة العربية من ثم، لكنني لا أعتزم أن أستند إلى هذا لأقول إن مفهوم التدريب العملي على حرفة الأدب دخيل علينا. ففي ذاكرة الأدب العربي واقعتان تقولان عكس ذلك.

في إحدى الواقعتين يأتي صبي إلى خلف الأحمر ويستأذنه في قول الشعر فيشترط عليه أن يحفظ ألف بيت من شعر العرب، وحين يرجع الصبي وقد حفظها، يشترط عليه أن ينساها، فيذهب الصبي إلى دير يمكث فيه حتى ينسى. ثم يؤذن له أخيرا بقول الشعر، فيصبح أبا نواس.

وفي الثانية يأتي شاعر إلى أبي تمام ليأخذ عنه الشعر، بعد أن كان ينظمه معتمدا على طبع سليم، فيوجه إليه أبو تمام نصائح من قبيل أن يكتب في السَحر بعد قسط من الراحة، وأن يكتب وهو خال من الهموم والغموم إلى آخر ذلك مما لا نعلم هل أخذ به الشاب أم أهمله، لكننا نعلم أنه أصبح البحتري.

وفي الغرب نفسه، وقبل استحداث "الورشة الأدبية" وتدريس الكتابة الإبداعية، لدينا نموذج ورشة تلقائية، غير رسمية، لا سلطة فيها للأستاذ على التلميذ إلا التي يحددها التلميذ بنفسه، ولا شهادة تخرج، ولا وعد بالنشر، ولا تكلفة زهيدة أو باهظة تخرج الأمر كله من فعل الأدب إلى ممارسة التجارة. بطلا هذه الحكاية هما الشاعران الأمريكيان إزرا باوند ودبليو إس ميروين، وتجري في عنبر بمستشفى المجانين، ويا له من مكان مثالي لتعليم كتابة الشعر.

يحكي ميروين أنه حج إلى إزرا باوند في أواخر عمره وقد استقر في مستشفى للأمراض العقلية بدلا من السجن أو ما هو أسوأ بعد إدانته بتهمة موالاة الفاشية في الحرب العالمية. نصح الشاعر الكبير تلميذه قائلا إن عليه ليبرع في الشعر أن يكتبه كل يوم، ولأنه في عمره الصغير ذلك، ولم يكن ميروين قد تجاوز العشرين، لن يجد ما يكتبه كل يوم، فعليه أن يترجم الشعر، أي شعر، ليحافظ على لياقة مفاصل أصابعه بتعبير راسل إدسن.

في الوقائع الثلاث نجحت الورش في تخريج ثلاث دفعات ممتازة، وفيها جميعا يجدر بنا أن ننتبه إلى أن التلميذ هو الذي اختار الأستاذ، بل وهو الذي اختار المنهج أيضا في حالتين، فما الذي فرضه خلف الأحمر فعلا على تلميذه؟ إنما أراده فقط أن يتصعلك في شعر العرب، فلم يفرض عليه مثلا امرأ القيس إذا ركب، أو زهيرا إذا رغب، أو النابغة إذا رهب، أو الأعشى إذا شرب. وما الذي "فرضه" باوند على ميروين الشاب؟ ليس إلا أن يترجم، أي أن يقترب من الشعر اقتراب مبدعيه الأصليين منه، لم يلزمه حتى بالمؤسسين الأوائل في اليونانية أو اللاتينية، أو بالكلاسيكيين في الإنجليزية، لم يغره حتى بأن ينهل من هايكو اليابانيين الذي كان باوند أول من عرّف الغرب به. لم يزد باوند عن فتح باب للشاعر الصغير على المتاهة العظيمة التي سيؤسس فيها لاحقا ركنه الصغير.

أما أبو تمام، فلا أفسر نصيحته إلا بأحد أمرين، إما أن التليمذ أتاه مكتمل الأدوات، بغير حاجة إلى أكثر من المساعدة في تنظيم وقته، أو أنه أراد أن يصرفه عنه بنصيحة عامة. وفي كلتا الحالتين أنتج أبو تمام منافسه وشريكه في الذكر حتى يومنا هذا، ونقيضه بمعنى من المعاني.

لم ينتج أي من الأساتذة الثلاثة في الورش الثلاث نسخة منه، لأن أحدا منهم لم يعلم تلميذه كيف يحكم التشبيه أو يخلق المجاز أو يستهل القصيدة. كلهم ألقوا تلاميذهم في البحر واثقين أن النجاة لن تكتب إلا لمن يستحقها، وكذلك الغرق. ولا أتصور أن أحدا من أولئك الأساتذة كان ليقبل لعب هذا الدور إذا ما (تمأسس)، مع أنهم لعبوه عن طيب خاطر غير مأجورين عليه أو مرغمين، وذلك هو المألوف في ما أتصور في تاريخ الأدب في كل الثقافات.

كثيرا ما يحلو لي الظن بأن بدعة مأسسة ورش الكتابة ما ظهرت إلا لتحل مشكلة أمريكية، وهي مشكلة جغرافية وديمجرافية، ثم لتشبع جشعا أمريكيا أيضا.

فليست الولايات المتحدة الأمريكية بلدا كالبلاد التي نعرفها، بل إن الترجمة الأنسب في عصرنا هذا لاسمها هي "الدول الأمريكية المتحدة"، ولولا أن ترجمة الاسم تمت حينما كانت الدول العربية "ولايات" عثمانية لما ترجمت قط إلى "الولايات" (والعهدة في هذا على أستاذنا الراحل الدكتور محمد عناني). وفي حين أن كلمة الولاية توحي لنا بمثل ما توحي به كلمة "المحافظة"، فإن كلمة الدولة تكشف عن وضع أمريكا الجغرافي فعلا، وعن المسافات الشاسعة بين "الولايات" والبلدات والمدن، وعن صعوبة حقيقية تحول دون التواصل بين أهل هذه التجمعات السكنية، بما يمنع فعلا تكوين وسط ثقافي حقيقي يسهل فيه التقاء الكتاب الناشئين خضر العيدان بالراسخين المحنكين، ويسهل فيه انتقال الخبرات، وتبادل المخطوطات، وتكثر اللقاءات البسيطة حول طاولات المقاهي، حيث تنتفي السلطة، ويختار التلميذ أساتذته.

في ظل تلك المصاعب، كان لا بد من اصطناع وسط يجمع المتمرسين بالكتابة مع المبتدئين فيها، فكانت الورش، وأقسام تدريس الكتابة الإبداعية، ومشاريع التخرج (يا له من تعبير أوله التجارة وآخره الامتحان!)، ثم يتحول ذلك آجلا أم عاجلا إلى تجارة واضحة، وبدلا من بضع حلقات حول بضعة أدباء موهوبين ومتحققين، تتسرطن الورشة إلى مئات الورشات، ويتولى أمرها المتوسطون أو الدخلاء، وبدلا من كاتب حقيقي قادر على رؤية بذرة الموهبة في كاتب مبتدئ، أو الطموح الجمالي حين يتجاوز الأدوات الوليدة، إذا بأولئك المتوسطين والدخلاء يستنبطون قوالب يقيسون بها الجديد على القديم، فيقررون وصفات محددة للرواية، وأخرى للقصيدة، وللقصة، ويجعلون من عمل جوهره التدريب على المروق ونقض القديم خطا للإنتاج، فيتوالى صدور آلاف الكتب المتماثلة تماثل علب التونة على أرفف المتاجر.

ووفقا للعادة الكريهة، تعرف البدع الأمريكية كيف تغزو العالم، ومثلما شوهت أمريكا مطابخ العالم، وأنماطه المعمارية المتباينة، وطرائقه الفريدة في الملبس، ونظمه المالية والاقتصادية (لم يبق إلا أن نستقبل زوارنا في مطابخ البيوت مثلما نرى في أفلام هوليود)، انتقلت بدعة تدريس الكتابة ناشرة في آداب العالم جرثومة التنميط والتسليع.

كثيرا ما أتصور أن رواية مثل "مئة عام من العزلة"، بمفارقتها الواضحة لوصفات الروايات السابقة عليها، ما كانت لتظفر بموافقة كاتب مديوكر يدير ورشة. وكثيرا ما أتصور أستاذ كتابة ينصح ماركيز بإعادة بناء "سرد وقائع موت معلن" لتصبح رواية إثارة حقيقية، أو رواية بوليسية يلهث القارئ فيها إلى أن ينكشف القاتل، بدلا من كشف نبأ القتل منذ السطر الأول. كثيرا ما أتصور كونديرا وهو ينظر في مسودة رواية له وقد لوث المشرف عشرات الصفحات منها بعلامات حمراء مطالبا بحذف المقالات والتأملات والاستطرادات الفلسفية التي تميز كونديرا. كثيرا ما أتخيل كل ما جاء على غير مثال قبله: روايات من قبيل عوليس والبحث عن الزمن المفقود، وقصائد مثل الأرض الخراب، وشعراء مثل فرناندو بيسوا (تخيلوا مسخرة أن يحضر بيسوا كل صباح إلى ورشة وقد ابتدع من العدم شاعرا بتاريخه وسيرة حياته ومعجمه الشعري الفريد فيقول له أستاذ الشعر "جرِّب، لو سمحت، أن تكتب قصائد بدلا من أن تكتب شعراء")، وحركات بأكملها مثل الدادية أو السريالية أو الرواية الجديدة في فرنسا، أتخيل كل ذلك ممزقا في سلال قمامة ورش الأدب بسبب حرس البوابات الذين لا يتسامحون مع الإبداع، ولا يسمحون إلا بتقليد الإبداع.

لقد حدث أن أشرف الساحر الكولمبي الشهير جابرييل جارثيا ماركيز ذات مرة على ورشة، لكنها لم تكن ورشة لتعليم كتابة الرواية أو القصة، وإنما لإنتاج أعمال درامية للفيديو مدة الواحدة منها نصف ساعة لو صحت ذاكرتي. هي إذن ورشة لإنتاج فعلي، إنتاج سلعة قابلة للبيع للقنوات، قابلة لنيل رضى المعلنين، فيها السمات التي تضمن لها جمهورا معروف الذوق. ليس مطلوبا منها المخاطرة بمغامرة جمالية، ولا السعي إلى استفزاز فكري، وبالطبع ليس مطلوبا منها الحلم بالخلود، فالخلود هو العدو الأكبر للسلعة، وللرواج، ولعله الحليف الدائم للبوار.

وأخيرا يحكي فريدريك توتن حكاية عن بول بولز ومشاركته في الإشراف على ورشة لتعليم الكتابة. وكلنا نعلم بول بولز على النحو الذي يليق به، فهو المارق، الخارج على أعراف الكتابة والمجتمع، اللائذ بطنجة بحثا عن الحشيش والحرية.

حينما أراد سدنة صناعة تدريس الكتابة استغلال بول بولز، وهالة انتمائه إلى جيل البيت الأمريكي، وفتنته الخاصة، أقاموا له ورشة كتابة في طنجة، وبعثوا إليه بروائي شاب ناجح هو فريدريك توتن لـ(يشاركه) التدريس، أو لينوب عنه فيه بالأحرى، بينما يجلس بولز مدخنا الحشيش في آخر الفصل، وراء آخر الطلبة.

يحكي فريدريك توتن أن الطلبة كانوا يلتحقون بالورشة طامعين في كلمة استحسان واحدة من بولز، لكنه كان يدخر تعليقاته ليشير إلى موضع يلزم فيه تعديل فاصلة منقوطة أو فقرة أو زمن أو ليقول "في الصفحة الرابعة تقول ’فكَّر أن يشتري لها زهورا’ لكن المؤكد أنك تقصد ’كان قد فكَّر أن يشتري لها زهورا’ أو أني أتصور أنك قد قصدت ذلك".

ولا يزيد. فذلك أقصى ما يمكن تعليمه في الكتابة: علامات الترقيم، والنحو، والصرف. وحينما حاول توتن أن يستدرج بولز إلى المزيد احتال عليه قائلا:

"أرجو ألا تضيق بمشاركتي لك في الفصل يا أستاذ بولز".

فقال بولز "مطلقا. فأنا لا أعرف ما ينبغي عمله. لم أقم بتدريس الكتابة من قبل، ولا أظن أصلا أنها قابلة للتدريس" ثم إنه أضاف رجاء أخيرا، ليضمن أن يظل الكاتب وحسب:

"ومن فضلك، نادني ببول".

نشرت نسخة من هذه المقالة في مجلة القافلة وقد اختصرها المحرر مراعاة للمساحة

Friday, May 17, 2024

أبو المعاطي يا اسطى

أبو المعاطي يا اسطى

نشرت جارديان البريطانية قبل أشهر قليلة (في 19 يناير 2024 بالتحديد) مقالة لمعلمة في مدرسة ثانوية في لندن، عن قرار اتخذته ناظرة مدرسة هناك بمنع الطلبة المسلمين من الصلاة في المدرسة. كتبت المعلمة تقول إن المحكمة العليا تنظر في قضية "رفعها طالب مسلم سعيا إلى إلغاء هذا الحظر ’التمييزي’" وإن الطلبة في مدرسة ميكايلا الثانوية "كانوا يصلُّون في الملعب، ساجدين على ستراتهم، لقرابة خمس دقائق من وقت الغداء، وذلك لأن المدرسة لا توفر لهم غرفة للصلاة".

لم يكن ينبغي أن يذكِّرني ذلك بمدرستي أنا، فهي في قرية في مصر لا تمييز فيها ضد المسلمين، لكن هذا ما حدث بالضبط: منعنا ناظر المدرسة من الصلاة في فناء المدرسة.

غداة زلزال التسعينيات الشهير، عمدت هيئة الأبنية التعليمية ـ لو صحَّ ما في ذاكرتي من نثار كلام سمعته بين أبي وأمي في ذلك الزمن البعيد وكان الاثنان يعملان في التربية والتعليم ـ إلى فحص المدارس للتحقق من مدى تضررها، وتبين أن ضررا قد لحق بمدرستنا، فاضطررنا طوال السنة التي استغرقها الترميم، إلى الحضور في مدرسة أخرى، أظن أنها كانت ثانوية تجارية قبل إلغاء التعليم الثانوي التجاري. كانت أصغر حجما من مدرستنا، فتحتَّم تقسيمنا إلى قسمين، قسم يضم فصول الثانوية العامة مع تلميذات الصفين الأول والثاني، ويحضر هؤلاء في الفترة الصباحية، وقسم فيه تلاميذ الصفين الأول والثاني ويحضر في فترة ما بعد الظهيرة.

ردَّتنا تلك القسمة مرة أخرى إلى جحيم سنوات الابتدائي التي كنا ننتظر بفارغ الصبر الانتقال منها إلى الإعدادي والثانوي لكي لا نضطر إلى الدراسة في ما كان يسمى بالفترة المسائية. كان إحساسا بشعا أن يخرج طلبة الفترة الصباحية إلى الحرية، إلى بقية اليوم الممتد حتى الليل، فيما نحن وقوف على باب المدرسة في انتظار الدخول طوعا إلى السجن، لنقضي ست ساعات تشوه لنا يومنا، فلا نحن قبلها نستمتع بصباح خال من توتر الاستعداد للذهاب إلى المدرسة، ولا نحن بعدها نجد في اليوم متسعا لشيء.

لكن شاء الزلزال أن يردنا مرة أخرى إلى ذلك الجحيم بعد أن توهمنا أننا تجاوزناه إلى الأبد. ومع أن الصلاة لم تكن شاغلا كبيرا لأغلبنا، أو لي على الأقل في ذلك الوقت، فهي التي قادتنا إلى الوقوع في فلك غضبه، أعني الأستاذ عبد الحميد، الأستاذ عبد الحميد رضوان.

أوقن أنه ليس طويل القامة حقا بالقدر الذي كان يتراءى لنا أيامها. لكنه كان دائما مرفوع الرأس والصدر، على غرار بائعي العرقسوس، لا يكاد ينظر إلينا، ولم أفهم ذلك في حينه إلا كبرا واعتزازا مقيتا بالذات. كان أيضا ذا لحية بيضاء. صحيح أني لم أجترئ قط على التفرس في ملامحه، لكنني أتذكر ذلك الإطار الأبيض النحيل حول وجهه. ما لم أكن أضفت تلك اللحية كلها إلى الوجه بفوتوشوب الذاكرة الذي يعمل من تلقاء نفسه. فالآن أرى وجهه وضيئا، مع أنني واثق أنه لم يكن يبدي لي في تلك الأيام البعيدة إلا الصرامة.

لا أعرف، ولعلنا جميعا لم نعرف، أي مادة كان يدرسها الأستاذ عبد الحميد قبل أن يصبح ناظر المدرسة الثانوية المهيب الذي لا يعلو في المدرسة صوت في وجوده. كان ببساطة جبارا، واحدا من تلك الفئة من المعلمين التي لا تظهر إلا في مدارس الماضي. دائما، هناك ذلك الجبار في ماضي كل أب لنا، وها هو صار في ماضينا نحن أيضا بعد أن جعلنا الزمن ونظرة أبنائنا إلينا آباء ممعنين في الأبوة.

كنا نقف أمام بوابة المدرسة المغلقة، فإذا ارتفع أذان الظهر، اقتربت جماعة منا من البوابة وطلبت من الحارس أن يفتحها لندخل للصلاة. ولم يكن ذلك بالطلب الذي يمكن أن يرفضه حارس البوابة.

كنا نعبر بوابة المدرسة، ونمشي عبر الفناء الصغير في خط مستقيم، ثم نصعد درجات قليلة، ونعبر من باب حديدي إلى مخزن ذي سقف منحن، فما سقفه غير قاع السلم، نخلع أحذيتنا، ونقف صفوفا قليلة في ذلك الكهف، ونصلي الظهر. ولم نكن حتى بحاجة إلى انتظار السجود كي تخنقنا رائحة الجوارب العالقة بالحصيرة. وأثق أن تلك الرائحة اللعينة المسيطرة على المخزن هي التي أوحت للأستاذ نجدي بالفكرة.

وجَّهنا معلم الأحياء، وإمامنا في ذلك اليوم، إلى الخروج بالحصيرة لنصلي في الفناء. ولا أحسب الحصيرة تخلصت من رائحتها فورا، لكننا على الأقل صرنا واقفين في الهواء الطلق، وصار بوسعنا أن نحتمل هنيهات السجود كاتمين أنفاسنا، إلى أن ننهل في ما بين السجدتين بعضا من هواء الله الطازج في الشتاء.

وفيما نصلي، سمعنا الصوت الهادر. لا، بالطبع لم يكن يصيح، كان يسأل بنبرته المعتادة التي كم سمعتها في بيتنا كلما حلَّ ضيفا على أبي. وقف الأستاذ عبد الحميد رضوان على مسافة من مصلَّانا المرتجل، وسأل الحارس عنا، في أي الصفوف هؤلاء، ولماذا ليسوا في فصولهم في أثناء اليوم الدراسي؟ قال الحارس إننا تلامذة الفترة المسائية. لسنا وحق الذي نقف بين يديه من طلبة الصف الثالث. سكت هنيهة. ظنناه خلالها انهزم، ولن يجرؤ أن ينزل بنا عقابا، أو يتجاسر على التنكيل بنا. أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله؟

قال بنبرته نفسها، لم يغيرها: لا تفتح لهم البوابة مرة أخرى. الجوامع حولنا في كل مكان.

ومضى. تراجع ظله الذي كان يغمرنا في ركوعنا وسجودنا. انتهت الصلاة، واستدار إلينا معلم الأحياء. ابتسم وقال: سمعتم؟

أكرِّر أنني لم أكن شديد الالتزام بالصلاة، لكن ليس دائما. كانت تمر بي موجات تديُّن، تعقبها موجات تخفُّف. فلعلي في تلك الأيام كنت في أحد أطوار التقوى، أو لعلها متعة الاشتراك مع الزملاء في شيء. فالواقع أننا صرنا نصلي الظهر فعلا في مسجد قريب من المدرسة، هو أحد أقدم مدارس القرية على الإطلاق، وأول مسجد اصطحبني أبي إليه طفلا لأصلي الجمعة وراء صديقه الشيخ علي، فأحفظ عنه "اللهم ارفع مقتك وغضبك عنا"، وأرددها مثله مقلقلة القاف وأنا واقف على ظهر السرير بديلا للمنبر. ثم يمضي بي أبي بعد صلاة الجمعة، لنجلس في ما بين المحراب والمنبر، مع كبار آخرين، في حلقة يفرغون في منتصفها صندوق جمع التبرعات الذي مرَّ على صفوف المصلين خلال الخطبة، وأبدأ في اللهو: أقيم مثلما علمني أبي أبراجا من الشلنات والبرايز، كل برج يساوي جنيها. كان أولئك المتحلقون هم أعضاء لجنة إعادة بناء الجامع الكبير، فهل يا ترى يعدُّني الله بلهوي ذاك بالعملات الصغيرة الجليلة عضوا في لجنة لم أكن في الحقيقة عضوا فيها؟ ترى هل يثيبني الله مع من يثيبهم وقد بنوا له بيتا؟ أم يكفيني أن ذلك المسجد بالذات هو الذي فتح لي ذراعيه بعد سنين، أنا وزملائي، مبيحا لنا ما حرَّمه الأستاذ عبد الحميد؟

لم ندر قط لماذا أصدر ذلك القرار، لماذا ونحن نصلي، لا نصخب، ولا نشاغب، ولا يؤذي وجودنا أحدا؟ ولعلي إلى الآن لا أفهم ذلك المنع، ومن ذلك الرجل بالذات. لعله رأى في صلاتنا في العراء، والجوامع حقا كثيرة حولنا، تنطعا، أو رياء، لم يرض أيهما لنا.

كان صديقا لأبي، ولعلهما تزاملا في بعض المدارس، وهو الذي أقنع أبي بالذهاب معه إلى (أبو المعاطي).

على بعد بضعة كيلومترات من قريتنا، وفي ما بين قريتين مسجَّلتين باسميهما في دفاتر الحكومة، ثمة محطة غير رسمية يعرفها سائقو سيارات الأجرة والركاب، فيكفي أن يقول أحدهم "أبو المعاطي يا اسطى" لتتوقف السيارة وينزل بعض الركاب. لم تكن قرية. إنما مقام ولي، وولي حي.

لا أعرف عن أبي المعاطي هذا الكثير. لا أعرف حتى الطريقة الصوفية التي كان أحد مشايخها. ولم يحدث قط أن زرته، ولا أعرف فعلا أي شيء مما يجعل الناس ينزلون في (أبو المعاطي). لا أعرف إلا همهمة سمعتها من حديث بين أبي وأمي.

قال لها ضاحكا: أخذت العهد

ومضى يشرح فلم يصلني من شرحه الكثير. لكنه تكلم عمن اصطحبه إلى تلك المغامرة. هو الأستاذ عبد الحميد رضوان. بدت صدمة مذهلة لي. كيف لذلك الجبار أن يكون هذا المسكين؟ لعله إذن لا يقصد من مشيته، بانتفاخ صدره وتعالي وجهه، أن يتجبر في الأرض، لعله محض مؤمن مسكين مجذوب، لا يحتمل أن ينزل عينيه من علياء السماوات إلى حضيض الأرض. لا أعرف حقا هل كان أبي يتكلم عنه، هو، أم عن غيره من رواد الحضرة في تلك الليلة. قلت لنفسي لا يمكن أن يكون هو من ينهنه كالأطفال. لا يمكن أن يكون هو من يهتز جرمه الهائل ويرتعش. لا يمكن أن يكون هو الذي وصفه أبي لأمي في تلك الليلة.

فات الأوان. ولم يعد بوسعي أن أتثبت من أبي. ومع أنني يمكن أن أسأل أمي أطال الله عمرها، لكن يخطر لي الآن أنني لن أصل إلى يقين في هذا الأمر ما لم أركب مرة الميكروباص، وأنطق للسائق الكلمات القليلات:

ـ أبو المعاطي معك يا اسطى.

مع علمي أن أبا المعاطي أيضا مات منذ سنين.

نشرت في مجلة إبداع

 


Thursday, March 07, 2024

حتى بلكونتي تطل على غزة

 

ولكن بلكونتي أيضا تطل على غزة





كان ينبغي أن تكون الثمانية عشر يوما قد أهَّلتني بالقدر الكافي.

ولعلي لست بحاجة إلى التعريف بـ(الثمانية عشر يوما)، ففي ظني أنها ينبغي أن تكون غنية عن التعريف عندنا شأن الحادي عشر من سبتمبر عند الأمريكيين مثلا. رقم، محض رقم، لكنه لا يكاد يقال حتى يستحضر المرء لحظة كانت جديدة على كل من شهدوها، لا مثيل لها قبلها أو بعدها. لحظة امتدت على مدار ثمانية عشر يوما وبدا لنا فيها أننا نمتلك المستقبل كله، إلى أن تبين أننا لا نمسك إلا طرفه، ثم إذا بنا نفيق وقد أفلت من بين أيدينا، فرجعنا كلٌّ إلى قوقعته، وكان نصيبي أنا بلكونة، وضعت فيها مكتبا، فلا أنا في البيت ولا أنا في الشارع، تماما كما أنني محروم من كلا اليأس والأمل.

أقول هذا ولم أقض الثمانية عشر يوما في مصر أصلا، فلا كنت للحظة في الميدان ولا كنت للحظة خارجه.

كان ينبغي، هكذا تحدثني نفسي الآن، أن تكون الثمانية عشر يوما قد أهلتني جيدا لصباح السابع من أكتوبر، فأمسك نفسي حتى لا ترتد مرة أخرى إلى فرحة الأطفال، ثم لا تفيق منها إلا على حسرة الأطفال، وما أشدها، وما أوجعها، وما أفجعها.



لكنها للأسف، لم تحصِّني، ففرحت بالسابع من أكتوبر، وانتقلت من البلكونة لأجلس مرة أخرى، بعد كل هذه الأعوام المنصرمة منذ 2011، أمام شاشة التليفزيون، أرى المستقبل من جديد بعيني رأسي، ليس بيني وبينه إلا أن يواصل الرجال في فلسطين طوفانهم إليه.

قلت، لا في حسرة، إن خمسين سنة كاملة كان ينبغي أن تمر لننتقل من السادس من أكتوبر إلى السابع منه. ورأيت بعيني كيف يمكن أن يقهر لعب الأطفال ترسانات الأسلحة. لقد سبق أن أزيح الساتر الرملي دونما حاجة إلى قنابل أو جرافات أو قذائف من أي نوع، بل هزمه سلاح خراطيم الماء، الذي يقوم على ما تقوم عليه ألعاب الأطفال لا أكثر ولا أقل. ثم حدث في السابع من أكتوبر أن هزأت الدراجات الطائرة بخرسانة السور الكريه، وأهانت صواريخ هي أقرب إلى المفرقعات تكنولوجيا القبة الحديدية، ورجع المقاتلون بالأسرى، وبدا لوهلة أنه مهما حدث بعد ذلك فقد تحقق انتصار، وانتصار عظيم، انتصار لخيال طفولي على واقع متغطرس أعمته غطرسته عن هشاشته.

وهذا لم أفقده. فلم أزل إلى الآن متشبثا في بداهة معنى السابع من أكتوبر كما فهمته: لن ترى إسرائيل نفسها بعد اليوم آمنة، لن تبدو أرض الوعود والأحلام ليهود العالم، لن يتصور زعماء العصابة هناك أن البطش بالفلسطينيين سوف يمر دائما دونما عقاب مؤلم، لن يفلح أحد في إيهام الفلسطينيين بأنهم عاجزون أو ضعفاء، أو لا أمل لهم إلا تسول المفاوضات راجين أن تسفر لهم يوما عن دولة. ولن يقال إن الفلسطينيين بحاجة إلى غيرهم من العرب يعينونهم على تحرير بلدهم، وإنما غيرهم من العرب هم الذين يحتاجون إليهم يذكِّرونهم ويحيونهم من موتهم.

كل هذا لم أزل أصدقه، ولن يزعزعه شيء. لأني رأيته. مثلما رأيت في الثمانية عشر يوما ما لن أفقد الإيمان به ما حييت.

أما ما تغير، فظني الساذج بأن النصر قريب. كنت أعلم في أول الأيام التالية للسابع من أكتوبر أن الضربة الإسرائيلية لن تكون هينة، وأن العالم لن يثني إسرائيل أو يلجم هياجها، مثلما لم يجرؤ من قبل على أن يمنع الولايات المتحدة عن سعار اجتياحها للعالم إثر الحادي عشر من سبتمبر. لكنني كنت أقول لنفسي إن الثمن ـ الأليم ـ هذه المرة له ما يبرره. لأن ضربة السابع من أكتوبر، مهما تكن قسوة عواقبها على الفلسطينيين، منحتهم ما كانوا في أمس الاحتياج إليه: تذكير الإسرائيليين والعالم بأن لهم أنيابا يجب أن تخشى. وقلت لنفسي إن شعوب العالم لن تسكت طويلا على مجازر إسرائيل، وإنها ستضغط على حكامها، فيضغطون على إسرائيل، ويرغمون الأطراف جميعا على هدنة، وعلى محادثات، وعلى مفاوضات، وعلى حل، حل يليق بقوة الفلسطينيين، وتضحيتهم، لا الهراء الذي طالما تكلم عنه الدبلوماسيون والساسة.

جهل طبعا. أو عدم وعي بالسياسة وحسابات العصابات الحاكمة في العالم. أو في أحسن الأحوال سذاجة وحسن ظن بالدنيا. أو أنني ببساطة كنت قد ابتليت بالطفل الميت بدرجات داخل كل واحد فينا وقد ارتدت إليه الروح، واحتل مقاليد عقلي، وأجلسني أمام الشاشة أشاهد، وأمام الشاشة أشرد.

حتى قضت عليه وعليَّ الشاشة.

وجرائد الغرب أيضا.

يرغمني عملي في الترجمة الصحفية، منذ قرابة ربع قرن، على أن أبدأ يومي بتصفح بعض مواقع الجرائد الأمريكية والبريطانية، وبعض مما يصدر بالإنجليزية من صحف في أماكن أخرى. ودائما، أرغم نفسي على أن أبحث في هذه الجرائد ـ وبخاصة الأمريكية والغربية منها ـ لا عما يطمئننا أو يريحنا أو يؤكد أوهامنا عن أنفسنا أو عمن عدانا، وإنما عن أشد المقالات استفزازا لنا وعداء، وأكثرها إمعانا في تجاهلنا ومحاربة لمصالحنا، وأعني بنا المصريين والعرب والمسلمين والعالم الثالث وما بات يعرف في السنين الأخيرة بجنوب العالم، ظنا مني بأن هذا ما يجب أن نعرفه حقا، وإن كان مؤلما أو مستفزا. ومنذ السابع من أكتوبر، صرت كل يوم أصطدم بكتاب عهدت فيهم نزاهة أو حيادا أو حتى حرفية على مدار سنين إذ أراهم يكشفون عن انتمائهم الحقيقي وانحيازهم الذي أحسنوا إخفاءه طويلا، ويقفون بلا لبس في صف الباطل. صرت أقابل في كل مقالة ـ إلا النادر الاستثنائي ـ عبارة "حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها" بدلا من حرب الإبادة الجماعية ومساعي التطهير العرقي، ووصف حماس بالإرهاب والتوحش لا بالنضال والكفاح المشروع بل الواجب، وتسمية الحرب بحرب غزة لا لأنها تجري فوق غزة ولكن لأنهم لا يريدون أن ينطقوا كلمة فلسطين أو يكتبوها. صرت أستهل كل يوم بمطالعة هذا الكذب والزيف، ثم أنتقل منه إلى الشاشة بحثا عن الصدق، فتوالت عليَّ ضربات الكذب والصدق معا.

مضيت أترجم عن المناخ؛ كوب 28 شيء مهم. مهم جدا. والاحتباس الحراري بالمناسبة مسألة مهمة. مهمة جدا. وكتمت صوت التليفزيون، لفترة، ثم أطفأت الشاشة غير متوهم أنني بذلك أنهي الحرب، أو أوقف القصف، أو أضع حائلا بين الفلسطينيين والقنابل. فلم أفقد عقلي، وإنما قدرته على المتابعة، أو على درجة المتابعة التي ألزمت بها نفسي لأيام. ومرة أخرى، انتقلت إلى البلكونة، فرجة للعالم، والعالم فرجة لي.

وما هو بدعاء بالضبط. صحيح أنني أخاطب فيه الله، صامتا، لا تتحرك حتى شفتاي، ولكن ليس طلبا للنصر، ولا الثبات، ولا مدد السماء. أقول فقط: يا رب، أريد لأهل غزة، يا رب، أن يستيقظ بعضهم غدا، غدا يا رب، ضجرين، نعم، ضجرين، غاضبين لأنهم أرادوا دقائق إضافية من النوم، أريدهم أن يشربوا قهوتهم أو شايهم، ضجرين، نعم، ضجرين يا رب، وأن يخرجوا إلى الشوارع، ضجرين، ضجرين يا رب، فيجدونها، يجدون الشوارع، لم تنمح معالمها بليل، أريدهم أن يروا الناس، فلا يرون فيهم شهداء محتملين، إنما محض مواطنين يزاحمونهم على الأرصفة، وفي الأتوبيسات، أريد لهم، غدا، غدا يا رب، لا أن يكونوا أبطالا، ولا منتصرين، ولا شهداء، أريد لهم حرية أن يكون بعضهم أنذالا، وبعضهم شرفاء، بعضهم أزواجا خائنين وبعضهم قوامين صوامين، بعضهم أبناء عاقين، وبعضهم جيرانا مزعجين. أريدهم أن يموتوا بالسرطان، وبالحادثة المرورية، وبالجلطة، لا بالقنبلة والغصة ونقص الطعام. أريدهم أن يجربوا تعاسة أن يشيخوا في عزلة وجحود، بدلا من أن تنقصف أعمارهم في شبابهم. أريد لهم غدا، غدا يا رب، حق أن يكرهوا فلسطين أو يضيقوا بها. مثلنا يعني يا رب. نعم، أريد لهم، غدا، غدا يا رب، أن يكونوا عاديين، حتى لو أصبحوا مثلنا في مصر، أو مثلنا في الرباط، أو مثلنا في الخرطوم.

كفاهم يا رب، نالوا أكثر كثيرا من نصيبهم، من الشرف، والنبل، والألم.

 نشر ما سبق في عدد ديسمبر 2023 من مجلة إبداع

Friday, October 30, 2020

قدر الشاعر

قدر الشاعر


بدا لوهلة، فور الإعلان عن فوز الشاعر عماد أبو صالح بجائزة سركون بولص للشعر، أن الدنيا قد انقلبت رأسا على عقب، أعني دنيانا الصغيرة نحن محبي الأدب ومنتجي بعضه. سارع العشرات يتناقلون الخبر وينشرونه على صفحاتهم في مواقع التواصل الاجتماعي فيحصد عند كل من نشره مئات من كلمات التهنئة وتعبيرات المحبة، حتى بدا وكأن طوفانا من القلوب الحمراء يجتاح صفحاتنا جميعا. وطوال ساعات كان ضجيج عظيم، ضجيج فرح صادق ومحبة صافية. وطوال تلك الساعات كان عماد أبو صالح، بأمر من طبيبه، ممنوعا من أن يفتح فمه. صحيح أنه في العادة لا يفتح فمه، ويمسك عن المشاركة في كل ما نشارك فيه، لكن بوسعه هذه المرة بالذات أن يتذرع بأوامر الطبيب. بوسعه القول إنه كان خالعا ضرسه حين فاز بالجائزة. وهكذا، بينما كان أصحاب الشاعر ومحبوه وقراؤه فرحين بهذه الجائزة المفاجئة، كان الشاعر نفسه يعض على قطنة منقوعة في دمه. كان يغلق فمه على جرح. وأحسب أن هذا الوصف العارض صالح دائما، قبل الجائزة العارضة وبعدها، لوصف عماد الذي نهاه الطبيب هذه المرة عن المشاركة في عرس صغير مقام على شرفه، لكنه منهي عن مثل هذه المشاركات جميعا، ودائما، بأمر من نفسه، أو بسلطان لا يملك إلا الامتثال له، سلطانٍ شاء، ولا رادّ لمشيئته، ألا ينطق عماد إلا ليقول شعرا.

لم يقل أحد من مئات المتفاعلين مع الخبر، من الشعراء والقراء والمحبين، المصريين والعرب، "وهل هناك جائزة باسم سركون بولص، أصلا؟". مع أن البعض ـ وأنا منهم ـ كانوا لا يعرفون بوجود جائزة كتلك. لكنها الآن أصبحت موجودة حقا، ومهمة، وجديرة بأن ننتظرها في أواخر أكتوبر من كل عام. وعدا ذلك، عدا ولادة جائزة جديدة للشعر، في زمن لا يكافئ الشعر ولا يكاد يلتفت إليه، عدا ذلك، لم يحدث شيء. فقبل الجائزة، كان ديوان عماد أبو صالح الأول هو "أمور منتهية أصلا" وديوانه الأحدث هو "كان نائما حين قامت الثورة". ولم يزل ذلك هو ديوانه الأول وهذا هو ديوانه الأحدث. وقبلها، كان الرجل يصون عزلته ويحميها، وبعدها لم يزل هذا هو حاله. قبلها، كان له قراؤه ومحبوه وعارفو قدره، وأيضا مبغضوه أو منكروه أو حاسدوه، وبعدها لم يزل له نصيبه من كلا الفريقين. إذن، جوهريا، لم يتغير شيء.

ولا أظن أن شيئا سوف يتغير.

برغم قلة عدد النسخ المطبوعة من دواوينه، كانت هذه الدواوين ولم تزل مقروءة جيدا. قرئت منذ منتصف التسعينيات، حين تداولها الشعراء واستعاروها بعضهم من بعض، واستنسخت منها صور، فلم يصعب قط على مهتم أن يصل إليها. ثم إنها أتيحت جميعا عبر الإنترنت فوصلت إلى من لا يعلم إلا الله عددهم من القراء.

وبرغم ندرة الكتابة عن الشعر، وقلة الاعتناء به، فهذه الدواوين جميعا مكتوب عنها جيدا، من نقاد راسخين، ومن شعراء محبين، وممن يجمعون بين الصفتين، وممن يفتقرون إلى أيٍّ منهما. من الصحفيين ومن القراء. من المغرضين ومن الأبرياء. ثمة حفلة كتابة مقامة دائما على شرف هذه الكتب. لكنها حفلة هادئة أقيمت لتدوم.

كما أن قصائده حاضرة في كل أنطولوجيا أعرفها لقصيدة النثر المصرية، على قلة هذه الأنطولوجيات. وهو قد لا يكون حاضرا بشخصه في مواقع التواصل الاجتماعي المختلفة، لكن صفحات كثيرة تحمل اسمه، فضلا عن قصائد عديدة يتناقلها رواد هذه المواقع ويتداولونها.

مؤكد أن الجائزة سوف تزيد أعمال عماد أبو صالح قراءة، وتزيد اسمه حضورا، ولكن المؤكد بالقدر نفسه أنها لا تستحدث من هذا شيئا لم يكن لديه أصلا.

في بيت كفافيس- الاسكندرية 12 ديسمبر 2018

أيضا، لا أظن أن شيئا سوف يتغير في حياة عماد نفسه. لا أظنه مثلا سوف يشارك في مؤتمرات، حتى ما قد يقام منها لشاعر عزيز عليه. وهل أعز على عماد من كفافيس؟ كفافيس الحاضر في شعره حضور الفاصوليا والدم. كفافيس الذي قرأه في كل ترجمة له، وزار بيته في ورع حاج راسخ الإيمان. كفافيس هذا، نفسه، لم يزحزح عمادا أو يستدرجه للخروج من عزلته، فقصر مشاركته في مؤتمر أقيم أخيرا في الإسكندرية للاحتفاء به على كلمة بعثها وقرئت بالنيابة عنه.

ولا أظنه سوف يصبح عضوا في لجنة، أو يظهر ضيفا على برنامج، أو يحضر بكلمات قليلات في تحقيق صحفي، أو حتى أن يكثر ظهوره في المقاهي التي يختلف إليها ـ وفيها ـ الشعراء والكتاب والمثقفون.

وليت بعض ظنوني يخيب. مؤكد أنني أحب أن أجد مشاركة من عماد في ملف صحفي عن كتاب أو كاتب أو مكان، أو أي شيء مما تعد عنه الملفات. مؤكد أنني أحب هذا لأنني أحب نثر الشعراء، وأحب مثلما أقابلهم في قصائدهم أن أقابلهم خارجها. أحب أن أقرأ نثر عماد مثلما أحب نثر أسامة الدناصوري في "كلبي الحبيب .. كلبي الهرم" ومثلما أحب نثر عبد المنعم رمضان في "الشهيق والزفير" ومثلما أحب نثر صلاح عبد الصبور في كتب كثيرة أقربها إليَّ "حياتي في الشعر" ومثلما أحب نثر تشارلز سيميك في كتبه الكثيرة ومنها في العربية "ذبابة في الحساء" من ترجمة إيمان مرسال و"المسخ يعشق متاهته" من ترجمة تحسين الخطيب. ولماذا أذهب بعيدا وقد ذقت ما يقدر عليه نثر عماد أبو صالح في كتابه الفريد "مهندس العالم"؟

أحب أن يحكي عماد حياته، بعيدا في القرية، ثم في القاهرة، لأنني أعرف أن في حياته وتجربته الإنسانية ما لم يحط به الشعر بعد وما قد لا يحيط به إلا النثر مقالا أو سيرة أو ربما رواية.

أحب أن يكشف نثره عن القارئ البارع مثلما كشف شعره عن الشاعر البارع.

أحب أن تكون له زاوية أسبوعية، في صحيفة أو مجلة أو مدونة. مئتا كلمة فقط يا عماد كل أسبوع، تقدِّم فيها جوهرة من الجواهر التي لا تكف عن العثور عليها حيثما نقَّب غيرك دون أن يخرج بشيء. جوهرة من رواية أو فيلم أو قصيدة. اقتراح ـ كالذي لا تكفُّ عن تقديمه لأصدقائك ـ بقراءة جديدة لكتاب قديم.

أحب أن يصدر عماد مختاراته من الشعر العالمي، فهو من أكثر من عرفتهم دراية بالشعر المترجم، حتى أنني لم أكلمه عن كتاب إلا وقال إنه عنده أو قرأه وذكر لي منه قصيدة أو قصائد كنت أرجع إلى نسختي من الكتاب فأجد أحيانا أنني ميزتها بنجمة حمراء تزيدها إشارته سطوعا.

أحب أن يعرف الناس مثلما أعرف عماد السمِّيع صاحب المكتبة الموسيقية المذهلة، وجامع التسجيلات النادرة للأغنيات والتلاوات والموسيقى من أربعة أركان الأرض.

أحب أن يقدم عماد للناس ملاحظاته الثاقبة، ذات المرجعية الإنسانية والأخلاقية، على المشهد السياسي العالمي الذي يتابعه بدأب نادر، وقسوة على النفس قلَّ ان رأيت لها مثيلا عند أحد.

أحب أن يشارك عماد في مؤتمرات، ويظهر في برامج، ويحضر في وسائط مختلفة، بصوته وبكتابته وبصورته، فتحتفظ به أراشيف أخرى إضافة إلى أرشيف الشعر، وليكون في تلك المصادر جميعا عون لدارسين وباحثين وقراء وشعراء في المستقبل أثق أنهم سوف يكونون في أمس الحاجة إليها وهم يعكفون على شعره يعيدون قراءته ويفهمونه ويفهمون به زمانهم وأنفسهم.

أحب كل هذا وأعرف أنه ـ على الأرجح ـ لن يحدث. لسوء الحظ لن يحدث. ولحسن الحظ لن يحدث.

لن يحدث، لأنني منذ سنين أكلم عماد في أن يكتب سيرته. أكلمه بنبرة المقترح، وبنبرة الراجي، وبنبرة المحذر الخائف من الاندثار على حكايات وتجارب ليس من العدل أن تنتهي بنهاية صاحبها.

لن يحدث، لأنني أعرف إيقاع عماد، وأرى بعيني كيف يقوى على البقاء مخلصا لمشروع شهورا طويلة وسنين، يجمع دقائق المعلومات عنه، لا يحول بينه وبين معلومة يريدها أن تكون مكتوبة بلغة لا يجيدها، أو منشورة في كتاب لا يبدو أن إليه سبيلا، أو في مجلة غير مؤرشفة. أعرف أن هذا الإيقاع يضمن لنا دائما الدقة والعمق، لكنه يحرمنا من الغزارة المرجوة.

لن يحدث، لأن عماد أشبه بجاسوس ضبط مؤشر مذياعه على محطة سرية، وهو جالس في انتظار رسالة، مشكلته الوحيدة أنها رسالة غير محددة الموعد. عليه أن يتأكد كل صباح من ضبط مذياعه، ويجلس بجواره منتظرا، بلا يأس، وبلا أمل. وحين يأتي البث، وقتما يعنّ له، يتحرك القلم في يد الشاعر على الورقة البيضاء، وكلما اكتمل عدد كاف من الرسائل، نشره في كتاب. عماد جاسوس يعمل لحسابنا، يتجسس على عالم آخر ليس لنا من طريق إليه إلا تلك الكتب البيضاء حمراء العناوين. فكيف يمكن أن يغامر ويغيِّر مؤشر المذياع؟ كيف يمكن أن يسمح لنفسه بالتشويش على البث مهما تكن نفاسة ما يضحي به؟

لن يحدث، لأن عماد يعرف بالضبط ما يشعر به السيلولويد في عتمة الكاميرا، ثم في عتمة غرفة التحميض، ثم في عتمة الصندوق داخل المخزن المغلق. يعرف أنه لا ينبغي أن يتعرض للنور، وإلا احترقت الصور. يعرف أن قدره هو أن يرضى بالعتمة لنفسه، ليضمن النور لقصائده.

لن يحدث، لأن عمادا يعرف أنه لا يجب أن يسمح بأي خلل في مقادير مكونات طبخته. يعرف أن إضافة شخص إلى حياته قد ينقص ألمه، أو قد يزيده. والنقصان، كالزيادة، خلل لا يستطيع أن يغامر به. ولأنه يعرف أن خطوة في غير موضعها قد تجعله يضل الطريق نهائيا إلى غرفته، حيث جهاز الاستقبال المضبوط مؤشره بالشعرة. ولأنه يعرف أن نكتة تضحكه من قلبه كفيلة بأن تلهي قلبه هذا عن مهمته كعميل للعالم مزروع في جسد الشاعر. ولأنه يعرف أن وجبة ألذ قليلا مما ينبغي قد تنسي لسانه مذاق الحقيقة الذي شقي حتى عرفه.

لن يحدث، للأسف ولحسن الحظ، أن نبحث باسم عماد أبو صالح في أي أرشيف فنجد ما يلهينا عن قصائده. ربما نجد مقالات جميلة، لكنها في النهاية لن تقودنا إلى غير الشعر. ربما نجد بضع حوارات أجريت معه على مدار قرابة ربع القرن، لكنها لا تغري إلا بالبحث عن الدواوين. وربما، في هذه الأيام العارضة، يعثر الباحث باسم عماد على أخبار الجائزة، لكن بعد أسابيع، وشهور، وبعد سنين، وعقود، سيبحث الناس عن عماد فلا يعثرون إلا على الشعر. وهذا تحديدا ما يعمل من أجله عماد، وهذا ما ينبغي له. وهذا ما نرضى به، على مضض، لأنه كثير، ولأنه ثمين.

نشر  المقال في عدد أخبار الأدب الصادر في الأول من نوفمبر 2020

اقرأ أيضا "معي جمال كافر"

Friday, June 05, 2020

موت مترجم.. ترتيبات الأيام الأخيرة


موت مترجم.. 
ترتيبات الأيام الأخيرة






يعرف أصدقائي، ممن تؤمَن مكاشفتهم بالهواجس والمخاوف فلا يُخشى أن تحل عليهم روح من فرويد، أو يتلبَّسهم شيطان من شياطين التنمية الذاتية فتجري على ألسنتهم آيات الطاقة الإيجابية والسلبية ويسمعونني من محفوظاتهم من كتاب السرِّ ما لا أحتمل .. يعرف هؤلاء أنني أتهيأ لاحتضاري.
أتصور أن يكون في مستشفى، وأن يستمر لأسابيع، أقضيها وسط الميؤوس من قرب شفائهم أو قرب موتهم. لا أتوقع أن تكون لي غرفة مستقلة، لكنني أطمع في سرير منفرد، ولا أتوقع شبَّاكا قريبا، لكنني راض بواحد بعيد في طرف العنبر، وأرجوه أن يكون مطلا على نهر جار أو صحراء ممتدة. لم أفكر من قبل لماذا أريد هذه الإطلالة في آخر المطاف، لكنني الآن أجد السبب واضحا: كلا النهر والصحراء باق، وكلا النهر والصحراء نقي. وما الذي يلزم محتضرا أكثر من طمأنينة البقاء، وطمأنينة النقاء؟ بوسع محتضر أن يأتمن النهر ـ إن شاء ـ أو الصحراء على آخر أنفاسه، وآخر أفكاره، وآخر حسراته، متوهما أن تبقى فيهما ما بقيا. وبوسعه أن يكتفي برفقة ما في أيِّهما من نقاء، بعد طول معاشرته للدنس.
أرجوه أن يكون هادئا، احتضاري. ألا يستبد عليَّ الألم، ألمي وآلام من يجاورونني، فيصرفني إلا عن تأمله، ومحاولة احتماله، والاستسلام له. أرجوه أن يكون لطيف الحضور، إن استحال أن يكون كريم الغياب. فلا نفع في أسابيع من مرافقة الألم لمن يرتب في أيامه الأخيرة رفقة أخرى.
نعم، لتلك ـ أم ترى هذه؟ ـ الأسابيع الأخيرة من حياتي، في ذلك المستشفى المتاخم للصحراء أو المطل على النيل، في المستقبل القريب وإن بعد، أجهِّز الآن رفيق احتضاري.
*

سعيد ذلك الذي ترافقه في لحظاته الأخيرة من رافقته في لحظاته الأولى: أمُّه. سعيد بقدر ما في نفسه من بلادة تعميه عن شقائها هي. سعيد بقدر تعاستها، بقدر حسرتها إذ تراه يأفل ويذبل وينطفئ فيه النور الذي حضرته إذ يوقد.
وما من إنسان آخر أتخيله أرحم بقلب محتضر من أمِّه. لا الزوجة ولا الأخ ولا الولد نفسه. لا أتخيل أحدا من أولئك إلا متململا، يداري من وراء عطف وجهه آلة حاسبة يظهر على شاشتها ـ وإن أعاد إجراء الحسبة مرات ومرات ـ رقمٌ ثابت، هو نصيبه من الإرث أو الدَيْن أو فواتير العلاج أو نفقات ما بعد الوفاة.
لذلك، ليس الرفيق الذي أجهزه لاحتضاري إنسانا.
*
لا أعرف هل لا بد لبقية الناس أن يقطعوا أغلب الرحلة ويصلوا إلى المحطة الأخيرة، أم أن الغشاوة قد تنزاح مبكرا، حتى يروا مثلما رأيت أنا في شرخ شبابي وفي ذروة قدرتي على الائتناس بالناس أن لا رفيق لي بحق غير نفسي، فليس غيرها يصحبني ممتثلا، راضيا، مغامرا مثلي إذ تنزلق قدماي كلَّ ليلة إلى المجهول. ليس غيرها يكون معي بالداخل لحظة أن توصد عيني دون القرباء والبعداء، دون الأحياء والجمادات، دون كل شيء إلا الذي سبق واقتنيته بملء إرادتي، أو الذي سبق ونفذ إليّ مكرها. ليس غير نفسي، ومع ذلك ما هي بالرفيق الأخير الذي أعده لاحتضاري.
إنما رفيق احتضاري كتاب.
*
في القطارات والطائرات، في المطارات ومحطات السكك الحديدية. في الرحلات الطويلة إذ تشق الحافلات صحاري مصر المترامية قاصدة سواحلها النائية. وفي أحب المقاهي إلى نفسي: تلك التي تقدم أردأ المشاريب إعدادا وتقديما وأسقم الطعام مذاقا، وتحفل بأشد الذباب صبرا وأكثره إلحاحا، تلك المقاهي الملقاة على قارعات الطرق بين المدينة والمدينة، لا هي هنا ولا هي هناك، يحيط بها الفراغ والصمت ويملأ جنباتها الانتظار. في تلك الأماكن وعلى متون تلك المركبات، لم أحرص قط على رفقة حرصي على رفقة الروايات، والسير، وكتب التاريخ الخفيفة التي لا تتصارع فيها الحجج والأدلة، أو تفند الوثائق بعضها بعضا، فتطعن إحداها في صدق أختها. في رحلاتي الطويلة ـ والقليلة ـ لم أرافق أطيب رفقة من الحكايات البسيطة، المسلية، المتهادية بسلاسة حتى نهاياتها شأن الحياة كما كان ينبغي ـ لولا سوء حظي ـ أن تكون.
كم أعانتني قصص أليس مونرو الطويلة، وروايات دان براون اللاهثة، وأساطير الإغريق الكرتونية، والحواديت الشعبية البريئة النافذة إلى العمق من كل شيء في كل مكان من العالم، وآداب اليابانيين القديمة والحديثة، وكتب قراء التاريخ لا المؤرخين، كم أعانتني كل تلك الكتب وأمثالها وغيرها على عزل نفسي عن مشاق السفر ووضاعات رفاق السفر: التذمر من المضيفات وتذمر المضيفات، ضيق المراحيض وقذارتها، انخفاض الصوت أو ارتفاعه وشدة سطوع الصورة أو غشاوتها في الفيلم المعروض على الشاشة المعلقة، صياح الأطفال وضحك الأطفال ولعب الأطفال وغناء الأطفال ومجرد وجود الأطفال، وهناك كذلك الابتزاز (وكيف كدت أنسى هذا؟): الابتزاز بالنوع، وبالمرض، وبالإعاقة، وبالسن. ومن أجل ماذا؟ من أجل تبديل مقعد بمقعد! كم واجهتني العيون ـ إذ أسافر وحدي ـ باللوم والاحتقار: كيف ترضى أن تكون سببا في انقطاع الميثاق الغليظ بين زوجين طوال ساعات الرحلة؟ كيف تطمئن نفسك وقد سمحت بالفرقة بين امرأة وأمها؟ بين صديقي عمر؟ كيف قبلت أن أفرد ساقيَّ وفي الطائرة من أولئك من يثنيهما مرغما؟ كيف أنفرد بشباك يريده طفل؟ ...
كل ذلك يكون محيطا بي، منتهكا حدود جسمي، مستهدفا المقعد الذي أشغله فيزيقيا، وأكون أنا في الوقت نفسه مخلوع القلب في غابة معتمة في كندا، فزِع العينين في ليل طريق سريع يدور حول نيويورك، أو صافي النفس على سفح جبل في اليابان تنهمر عليَّ زهور الفاونيا ـ فلا وصول إليّ.
لكن ليس في الأسابيع الأخيرة من حياتي. ففيها، لا نفع لي في عالم بديل. لا نفع لي في عالم أصلا. فيها يتضح كل شيء، تتضح حقيقة اللعبة التي غيبتها كثرةُ التفاصيل، ودِقَّتُها كأن كل واحدة منها مقصودة لذاتها، وتزاحمُها فمعذور كل من لا يرى ما وراءها. في هذه الأسابيع أستعد للخروج. للذهاب بلا رجعة. والحقيبة الوحيدة التي يمكن أن أتزوَّد فيها بشيء لا تعدو عقلي. جسمي نفسه لن يرافقني. للمرة الأولى لن يكون معي. للمرة الأولى لن يكون أنا. ’أنا’ نفسها سوف تعني شيئا آخر لا أحسب أن أحدا يعرفه. ما لي في هذه الأسابيع والعالم، ومن فيه، وما ليس فيه؟ ما لي بحكاياته وآخرُ ما أريده هو إهدار الوقت، وتجاوزه؟ في هذه الأسابيع لن أكون بحاجة إلى شيء احتياجي إلى ما يدلني على النتف النقية في نفسي، يأخذ بيدي إلى نصيبي الذي اقتنصته عبر الرحلة الشاقة من النقاء، يضع إصبعي على ما في نفسي من النهر، وما فيها من الصحراء، إن كان فيها منهما أيُّ شيء.
تلك الأسابيع للجواهر، للخلاصات، للقطرة التي توجز المحيط، لحبة الرمل التي تخفي المجرة.
*
أتصور أن أسمع أزيز تكييف، أو بالأحرى طنين مروحة، همسة ممرضة متمرسة لطبيب في نوبته الليلية الأولى في طرقة المستشفى المعتمة، هذيان محموم، أو شذرات على لسان حالم لا تعني لي شيئا وتعني له ربما كل شيء، أسمع نفير سيارة نقل على طريق بعيد، وربما نعيق غراب يستوي في أذني بتسبيح كروان...
أتصور أن لا أغفل في جنح الليل عن بلاغة، نعم، بلاغة تلك الأصوات التي كم اعتبرتها ناقصة، لأتبين قرب النهاية كمالها، واكتنازها لكل ما كافح من أجل قنصه الفاعلُ والمفعول والفعل وحرف العلة.
أتصور أن أسمع تلك الأصوات المنفردة السابحة في ليل الكون فأعرف ما كان ينبغي أن أعرفه من قبل: أن المعاني الأدق والأعمق والأبقى هي دائما بنت الكثافة والإيجاز، بنت الإيماء والإشارة، بنت لمعة العين لا الخطبة العصماء، بنت الصمت لا اللغو. بنت الوحشة لا السياق.
ربما تنساب ساعتئذ دمعة يقين، دمعة كالتي أقاومها الآن، لولا أنها بلا لوعة. وقد لا تنساب. لكنني أحتال على أرقي، أو ألمي، أو وحشتي، بأن أضغط زرّا قريبا، وفي نور شحيح من مصباح مجهد، أفتح الكتاب الذي لم أنهِ إلى الآن صفحة منه.
*
مغرم أنا بأهوال نهاية العالم.
كنت في مرة أتكلم عن الترجمة، أو الشعر، أو ترجمة الشعر، ووجدتني منساقا إلى الحديث عن نهاية العالم. وعندكم حق؛ ما الذي أعرفه عن نهاية العالم؟
ولكن ما الذي أعرفه أيضا عن الموت والاحتضار؟ وما الذي أعرفه عن الشعر وإن كتبته وقرأته، وعن ترجمة الشعر وإن مارستها على مدار نصف حياتي؟ ليس الكثير.
ما أعرفه عن نهاية العالم إنما أعرفه مما أقرأ في سورة التكوير مثلا، أو سورة الانفطار: إذا السماء انفطرت، وإذا الكواكب انتثرت. وفي سورة الزلزلة: وأخرجت الأرض أثقالها وقال الإنسان "مالها؟" وسورة الحج: يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى. ولكن ليس هذا ما أعنيه بنهاية العالم، نهاية العالم التي أعنيها ليست بهذا الحسم، هي مقصورة على الأرض، فلا السماء تنفطر ولا الكواكب تنتثر، ولا الموءودة تسأل بأي ذنب قتلت. ولا هي حتى نهاية كوكب الأرض. نهاية العالم التي أعنيها هي التي تصورها أفلام هوليود، إذ تنتهي الحياة كما عرفناها ونعرفها، وتكشر الطبيعة عن أنيابها لتثأر مما اقترفناه في حقها جيلا بعد جيل، فترتفع البحار وتصطلي الشمس، ويهلك الناس ملايين بعد ملايين، فلا يكاد يبقى منهم أحد، اللهم إلا عشرات في سفينة حصينة، أو آحاد متناثرون في ما أبقت الأرض من يابسة.
أشاهد تلك الأفلام كلما أتيح أحدها، بمثل لوعة المشاهدة الأولى وفزع المرة الأولى وسؤال المرة الأولى: ماذا لو وجدت نفسي في ذلك المأزق، مأزق الناجين بالطبع لا الهالكين؟
قلت يومها في معرض الحديث عن الشعر على الأرجح لا ترجمة الشعر: بعد نهار من الكدح في التقاط الثمر أو صيد الحيوانات، بعد تأمين الكهف، وتدبير الطريق إلى النهر أو النبع، يحدث أن يجلس الرجل فيسند ظهره إلى صخرة، ويجد أن بطنه امتلأ، وأمنه استتب، وأمره استقام، ولكن شيئا لم يزل ينقصه، شيئا كان يجده بسهولة إذ يضغط أزرار الريموت فيتنقل بين القنوات تصادفه أغنية فيتمهل، أو فيلم فينظر في أمره. ينقصه شيء يذكِّره بإنسانيته، بأن حاجاته تزيد قليلا عن حاجات الأرنب المهضوم في بطنه. ينقصه فن.
وحيدا كما هو، مفتقرا إلى آخر يكوِّن معه فريقا، أو يتخذ منه جمهورا، بلا آلة إلا جسمه، يتمتم الرجل لنفسه، محيلا لغته المبتذلة إلى قصيدة. ما من فن آخر يمكن أن ينتجه الإنسان بلا عون من شيء أو من أحد. وتأملوا اسمها: قصيدة. تأملوا ما حاولت اللغة العربية أن تنبهنا إليه حين اشتقت اسم القصيدة من القصد: أنها القصد من نفسها.
مؤكد أن الاصطلاح أقوى من الاشتقاق، وأنه الألصق بكل كلمة، ولكن ما حيلتي حينما أنظر في كلمتين كـ"القصة" و"الرواية" فأرى أن اشتقاق كل منهما يشير إلى غاية لها خارجها، فالقصة لا تكون قصة بدون من تُقَصُّ عليه والرواية ليست رواية ما لم تُرْوَ على أحد. أين هذا من القصيدة التي تنطق حروف لفظها بغناها إلا عن نفسها، وتقطع بأنها القصد من نفسها، فلا غاية لها إلاها.
بلا آلة إذن إلا لسانه، وبلا جمهور إلا نفسه، وبلا خامة إلا وعيه وشعوره ولغته، ينتج الإنسان لنفسه الفن بعد نهاية العالم، أو على مقربة من نهاية الحياة.
*
ليس في الكتاب المرجوة رفقته في أسابيع آخر العمر شعر لي. لست على هذه الدرجة من النرجسية، أو بالأحرى، هذه الدرجة من النرجسية مضى عهدها، وبحلول أيام الاحتضار سيكون قد مضى على مضيها نفسه عهد آخر.
حدث قبل عقدين تقريبا أن أنهيت فجأة سهرة مع أصدقاء. كانوا في بيتي، أو هي غرفتي في طابق علوي من بيت أبي، وصرفتهم جميعا لأنفرد بنفسي. كان أحدهم، قبل ذلك، قد أخرج سيجارة حشيش من مخبئها في ثيابه، وجربته للمرة الأولى في حياتي. وبدأ خفقان قلبي يتسارع، ووجهي يمتقع، وزادني قلق أصدقائي عليَّ قلقا على نفسي. كيف أنزل إلى أبي وأمي فأقول إني أوشك على الموت، كيف أفسر سبب موتي الوشيك؟ صرفت أصدقائي مرغمين، وتناولت مرآة صغيرة كنت أعلقها على جدار غرفتي، واستلقيت في سريري منتظرا الموت، مقررا أن أقضي آخر لحظات حياتي ناظرا إلى الوجه الوحيد الذي يستحق أن يكون آخر ما أراه من العالم: وجهي.
لكن ليس الآن، وليس في آخر العمر. لم يبق من سبب وجيه لهذا الاعتزاز بالنفس. الآن قرأت من الشعر ما يكفي لأعرف قدر ما كتبت، وغاية ما قد أكتب. وأهم من ذلك، أنني لن أحب وأنا أتهيأ للخروج أن أعيد قراءة ما سبق وكتبته. تكفيني حسرات أخرى، وأسباب أدعى للندم على ما فات.
*
قررت مبكرا، وقد علمت أن وجودي مرتبط بالشعر، وأن اتزاني على هذه الأرض مرهون به، ورضاي عن نفسي في يده لا في يدي، ومعرفتي الحقيقية بأي شيء لا تتم إلا من طريقه وتوسلا به، أن أقصر عملي في الترجمة على ترجمة الشعر دون غيره.
علمت بعد ذلك أن إزرا باوند نصح شاعرا أمريكيا ـ سيصبح شاعرا أساسيا في ما يلي ذلك من عقود ـ بمثل ما نصحت به نفسي. قال له وقد رأى غضاضة سنواته الثماني عشرة: عليك إن شئت أن تكون شاعرا حقا أن تكتب كل يوم، وحدَّد له ـ على طريقة باوند في وضع القواعد لكل شيء ـ عدد الأبيات التي لا بد أن يكتبها كل يوم، ولأنك بتجربتك المحدودة لن تجد ما تكتب عنه كل يوم، فعليك أن تتعلم لغة وتترجم شعرا كل يوم. كانت نصيحة ظاهرها الحفاظ على لياقة مفاصل الأصابع (بتعبير راسل إدسن)، وباطنها الحياة في الشعر (بتعبير صلاح عبدالصبور).
هكذا بدأت اهتمامي بالترجمة بثلاثة كتب شعرية، أولها، بجرأة المبتدئين الوقحة والضرورية، أنطولوجيا من شعر الأمريكيين الأفارقة، ومن رحم ذلك الكتاب ولد كتابي الثاني فكان مختارات من قصائد الشاعرة الأمريكية الأفريقية ليوسيل كليفتن، ثم إنه بدا لي أني أوشك أن أحبس نفسي في عالم الشعراء الأمريكيين الأفارقة، بينما الشعر الأمريكي بحره واسع، فترجمت ديوان "فندق الأرق" لتشارلز سيميك مع مختارات من دواوينه الأولى، وقادني سيميك إلى جيله كله، وإلى شعراء ترجم هو بعض أعمالهم، أو كتب عنهم بعضا من نثره الرائع، وأتيح لي في ذلك الوقت تقريبا اتصال يسير ومجاني بالإنترنت في عهد كان الاتصال به يشترى بالدقيقة، ومن خلال الإنترنت انفتح لي عالم قصيدة النثر الأمريكية، فمضيت تسلمني المواقع أحدها إلى الآخر، والشعراء إلى الشعراء، والمجلات إلى مزيد من الاكتشافات كل يوم، ثم حدث للأسف أن نجوت من الغرق.
وسط دوامة الترجمة الصحفية لكسب العيش، وترجمة الروايات لأن القراء والناشرين وكل ذي علاقة بإنتاج الكتاب أجمعوا فجأة على أن الأدب هو الروايات، لم يبق من منفذ لنشر الشعر ـ ناهيكم عن الشعر المترجم ـ إلا مواقع الإنترنت وما فضل من مجلات العصر الغابر وما يظهر بين الحين والحين من ناشرين يستغلون عطش الشعراء وقراء الشعر إلى الجديد فيستنزفون لوهلة أموالهم قبل أن ينتقلوا إلى نشر الروايات أو ما هو أسوأ. وبرغم ذلك، أمكنني أن أترجم مختارات من الأمريكي بيلي كولينز، صدرت بعنوان "رجل القمر" عن هيئة قصور الثقافة في مصر، ثم ديوان "العالم لا ينتهي" لسيميك، وصدر عن الهيئة نفسها، ثم مختارات من عبقري قصيدة النثر الأمريكي الراحل راسل إدسن صدرت عن الكتب خان بعنوان "كلنا نولد مصابين بالغثيان"، وفي مثل أهمية تلك الكتب، وربما أكثر، أني قضيت سنين متفرقة منغمسا في كتابة برنامج يومي لإذاعة سلطنة عمان حمل اسم "أصوات من هناك"، ومن خلاله كنت أترجم كل يوم قصيدة وأكتب عنها. كان شريكي بصوته في ذلك البرنامج ـ أعني صديقي سليمان المعمري ـ يقاوم غرامي بالشعر الأمريكي، فلا يمر يوم إلا ويذكرني بضرورة أن أوسع نطاق اهتمامي ليشمل شعراء لغات أخرى غير الإنجليزية، وبلاد أخرى غير الولايات المتحدة. هكذا طفت العالم جغرافيا وتاريخيا باحثا عن قصيدة أكلم من خلالها مستمعا مجهولا، فلا أكلمه عن الشعر، أو الشاعر، أو القصيدة، ناهيكم عن البيوطيقا، بقدر ما أكلمه عن نفسه، عن حياته، عن الأبواب التي يغلقها، لم لا يجرب أن يفتحها؟، والشبابيك التي يمنع بها الريح، لم لا يطل منها؟، والمرايا، لم لا يجرب أن يرى فيها غير نفسه؟، وعن كل الأشياء في حياته، كيف لا يفطن إلى أنها مرايا تعمل بطرق أخرى؟ وكيف لا يرى فيها أنفسا له كان يمكن أن تكون؟
كنت أتصور أني أكلم أمَّهات يخرطن البصل في المطابخ، وسائقي سيارات أجرة يجادلون الركاب، وركابا يسابقون الزمن يريدون اللحاق بما لا قيمة له، كنت أتصور شيوخا في شرفات بيوت قديمة في قرى بعيدة، أو أطفالا يخربون أرواحهم بالأناشيد والمحفوظات. كنت أتخيل مستمعا يشيع بين الأدباء وصفه بـ"العادي"، فيقولون "القارئ العادي"، وكم فرحت حينما صادفت وصفا له في مقالة ترجمتها ذات يوم فتشبثت به: "القارئ العام". صرت أبحث عن قصيدة يمكن أن أفتح بها الكلام مع ذلك القارئ العام، ذلك الإنسان غير المدرب على ألاعيب الشعراء، غير المجهز وهو يسمع القصيدة بما يعينه على الرجوع إلى قاموس للميثولوجيا، أو معجم للمهجور من الكلام، أو موسوعة للأعلام. واكتشفت بمرور الوقت أنني أنا القارئ العام، أنا القارئ الفقير إلى هذا الحنان، القارئ الذي لا يستقيم له يومه إلا بقصيدة خافتة، دافئة، دُفع كاتبها إلى كتابتها دفعا، فلم تكن له غاية إلا أن يقولها، يقولها ويستريح.
في جهاز الكمبيوتر الذي أكتب عليه الآن هذه الكلمات ملف يحمل اسم "أصوات من هناك"، في هذا الملف قرابة نصف مليون كلمة من الشعر والكلام عن الشعر. وإذن فيه لغو كثير، وفيه ولا شك درر.
لا أعرف، بدقة، كم ترجمت من الشعر. ما نشر في الكتب يسهل إحصاؤه، وما ترجم لأصوات من هناك قابل بشيء من الجهد للحصر، ولكن هناك ما ترجم لصحف في مصر وفي عمان وفي غيرهما، وما ترجم لمواقع إنترنت بادت، وما ترجمته لمدونتي، ومدونات أخرى لي فقدت أثرها تقريبا، وما ترجمته للاستعمال الشخصي المؤقت، ذلك أن ليالي تمر عليّ بين الحين والآخر، يضيق فيها العالم أمام عيني ويوصد أبوابه في وجهي، بلا ذنب معروف أو سبب واضح. يصبح الحديث إلى الناس عسيرا، والحديث إلى الذات رعبا، والصمت جنوحا إلى المجهول، والصحو عبئا، والنوم مغامرة مريعة بمقابلة آخر من أقوى على مقابلته: أنا.
في تلك الليالي، ألوذ بموقع مؤسسة الشعر الأمريكية.
في شيكاغو ذات يوم من خريف عام 2014 زرت مبنى تلك المؤسسة، زرته وحدي، دون أصدقاء وزملاء كنت معهم في برنامج جامعة أيوا الدولي للكتابة الإبداعية، ثم زرته معهم. وفي المرتين، وقفت في بهو على الأرض، أمام جدار هائل بارتفاع طابقين، فيه عشرات آلاف دواوين الشعر. لا شيء غير الشعر. وفرة تشلك فلا تمتد يدك إلى كتاب. حسبك أن تقترب بعينيك، فترى مثلا مَن مِن العرب هنا، وبأي لغة؟ أو ترى أي الشعراء صاروا جيرانا في هذه المقبرة البهية بقوة الترتيب الهجائي؟ لا مجال أمام هذه الوفرة إلا للفرجة. لكنني قبل تلك الزيارة، وبعدها، زرت آلاف المرات موقع مؤسسة الشعر الأمريكية على الإنترنت، حيث عشرات الآلاف من القصائد أيضا.
أجرب في هذه الزيارات حظي. لا أذهب إلى شاعر أعرفه أو قرأت له. ففي ليال كهذه التي أصفها لا يكون البحث عن شاعر، إنما عن قصيدة، عن سطر، عن شذرة، عن قشة تظهر فجأة لتتشبث بها أصابعي. وأترجم هذه الشذرات، ففي أحايين أنثرها على صفحتي في فيسبوك، وفي الغالب تبقى في ملفات على الكمبيوتر، وقد أبعثها في بعض الحالات لنفسي في رسائل عبر الإيميل. وقد أترجمها على ورق مقصوص يتناثر بعد ذلك في أدراج وصناديق وبين صفحات كتب. في تلك الليالي، أظل أترجم حتى أمتلئ، أو أفرغ، أو ربما حتى أنسى ما الذي ألجأني أول الأمر إلى الترجمة. وسكرانَ ينتهي ليلي.
وأحيانا لا أقصد مؤسسة الشعر بل جوجول. أطلب منه قصائد كتبها أطفال، أو مراهقون. قصائد كتبتها الصدفة. قصائد كتبت على فراش الموت. في السجن. قصائد مجانين. قصائد مجهولين. قصائد بحارة. قصائد شعبية. قصائد دينية. قصائد حب. أجمل قصائد الحب. أجمل عشرة قصائد حب، في الشعر الأمريكي، في الشعر الفرنسي. وأقرأ، في ترجمات رديئة، أو مثالية. في مواقع موثوق فيها، وفي مدونات مجهولة الأصحاب. أقرأ بدون أن يعنيني التأصيل لما أقرأ، أقرأ مثلما يليق بقارئ عادي، نعم عادي، أستطيع أن أصف بها نفسي دون غيري. أقرأ مثلما يقرأ إنسان. أقرأ لا أريد مما أقرؤه أن يكون جزءا من محاضرة، أو كتاب، أو مباهاة، أو افتعال. أقرأ كمن يبحث عن هواء يملأ به صدره. أقرأ كمن يأكل في آخر زاده. أقرأ كمن يعيش أبدا، وكمن يموت غدا.
قلت لا أعرف كم ترجمت من الشعر. وأقول لا سبيل لأن أعرف.
*
أفكر أن أتعلم لغة برايل. نعم. أخشى أن شيخوختي تتآمر علي، وتجهز لي الفخ الأخير:
يأتيني صوت مذياع بعيد، أو لعله مدفون تحت وسادة مريض في العنبر، أو لعله وراء رأسي بالضبط لا يفصلني عنه غير جدار. يحدث ذلك في الساعة الثالثة صباحا، من يوم ما، في سنة لا أعرفها، قادمة. لا يبدو أن هذه هي الليلة الأخيرة. والكتاب معي، الكتاب الذي أعددته في كهولتي لاحتضاري، كتاب القصائد، كتاب الشذرات والأبيات، أمسكه بيدي ولكن لا سبيل لأن أقرأه وقد كلَّ البصر. لا سبيل لأن أسمع أحدا يقرأه علي وقد ثقل السمع. لا سبيل للاحتياط لهذا الفخ الذي تجهزه نفسي لنفسي إلا بأن أتعلم طريقة برايل. وتتحرك أصابعي على الورق الأبيض، فإذا الكلمات تسري في ذراعي إلى قلبي، وإذا بعيني المطفأتين تلمعان لمعة لا يراها أحد، وإذا بابتسامة رهيفة ترتسم على شفتي في عنبر لا يبتسم فيه غيري، إلا ساخرا.
*
لم أستقر بعد على عنوان للأنطولجيا.
لم أستقر بعد على القصائد التي ستندرج في الأنطولوجيا.
لا يزال أمامي عمل كثير، لكن ماذا عن الوقت؟
وأين أتعلم القراءة بطريقة برايل؟
وماذا لو أن مؤامرة شيخوختي لا تقتصر على البصر والسمع؟
لا أظن أحدا قبلي نجا من مؤامرة شيخوخته عليه. الكل يقع في الفخ. لا تشفع لأحد شطارته، ولا تنجيه ترتيبات مسبقة. ماذا لو أن مؤامرة شيخوختي لا تقتصر على البصر والسمع؟ ماذا لو أنها تنال من الأصابع نفسها؟ بل ماذا لو أنها تركت لي عيني وأذني وأطرافي، واستولت على عقلي؟ أقصد: ماذا لو أن في مؤامرتي على نفسي متسعا لألزهايمر؟ ألم أشته يوما ألزهايمر هذا؟ ألم أقل يوما إنه حل أخير بعد أن يثبت فشل بقية الحلول؟ ألم أقل إنه مقام لا مرض؟ ما يدريني أن الأماني لا تتحقق؟
أتصور أنه ما من سبيل للاحتياط، وما من خطة يضمن اتباعها احتضارا واعيا، هادئا، يمضي فيه المرء يهدهده موج الشعر الرقراق إلى حيث السكون الأخير.
ربما ليس عليَّ إلا أن أواصل ما بدأته، أبحث عن الشعر لا الشعراء، أترجم منه كلما استطعت، وكلما اضطررت، شاحنا به نفسي، واضعا منه في روحي ما تحتمله روحي، وما تحتاج إليه روحي. وما تطمئن به روحي وسط الفزع الساري والجنون المستعر.
ربما عليَّ أن أتشبث بالأمل في أنه مثلما يشق الماء أخاديد في كعبي الفلاح كالتي يشقها في الأرض، يشق الشعر أخاديد في نفسي، وتترك هذه العلاقة اليومية مع الشعر وترجمة الشعر بصمات على أجزاء من روحي لا علم لي بها، وفي أنني ذات ليلة، قادمة، على سرير في المستشفى، سوف أصادف بينما أجوب غابات نفسي المظلمة زهورا ساطعة في الأركان، لا أعرف من زرعها، ولا يعنيني، لكنني في جوارها أجلس، وبرفقتها أنتظر.



كتبت لمجلة الثقافة الجديدة ونشرت فيفها في عدد يونيو 2020
الصور الشخصية المرفقة بالمقال التقطت داخل مؤسسة الشعر الأمريكية سنة 2014